الإنسان مخلوق مركب، معقد التركيب، يدخل في تركيبه نوازع الخير و الشر. فإذا ما غلبت عليه نوازع الخير كان خيرا، و إذا ما غلبت عليه نوازع الشر كان شريرا. و بناء على هذه الثنائية التي تأرجح الإنسان بين جاذبيتها، يلاحظ أن الحياة البشرية منذ الأزل و إلى اليوم تقوم على أنشطة، لماما ما تكون خيرة، وكثيرا ما تكون شريرة. و استقراء للذاكرة التاريخية يمكن القول، إن الحياة في عمومها بنيت على الصراع والمناكفة ، فكانت أقرب إلى الحرب و الاحتراب، منها إلى السلم. إذ كان الآدمي رجل حرب يحمل السيف على عاتقه ضاربا في ربوع الأرض من أجل إراقة الدماء، و ذلك استجابة لنوازع الشر. فأصبح بذلك الصراع و الصدام و الحرب، اللغة التي ينتجها الفكر و يفقهها، و أيقونة التواصل و التخاطب بين الأفراد و الجماعات. فتقوت بذلك إرادة الصراع، و تطورت أساليب القتل، لتنفيذ إرادة الموت، القائمة على شريعة القوة، و دستور الاعتداء.
و على هذه الأساس.شب التطاحن. و استعرت نيران الحروب و امتد لظى لهيبها إلى كل ركن من أركان المعمورة. فكان للجغرافية العربية نصيبها من الصراع و حظها من الحروب التي اشتعلت، وكما تثبت الوقائع التاريخية، بين القبائل، و الأفراد و الجماعات، فترسخ حينئذ و بعمق السلوك العدواني الذي تمظهر على مستوى العلاقات الاجتماعية، و هو سلوك أنتج حياة للاستقرار التي امتد أمدها حتى مجيء الاسلام الذي أسس لحقبة جديدة أنجبت حياة جديدة، يمكن أن نسميها و بصدق حياة السلم بمعناها الشمولي، أو الاستقرار. هذا، و إذا كانت حياة الحرب تحكمها فلسفة الصراع، و قيم الاعتداء، و الفوضى المغذاة بمنطق القوة، فإن حياة السلم قد امتثلت و خضعت لقيم جديدة تقوم على التساكن و التقارب التابعة من فلسفة الحوار. إنها حقا قيم جديدة، وجدت السبيل سهلا إلى الأفكار و الأفئدة، لأن الإنسان بجبلته سريع الاستجابة لنوازع الخير الكامنة بداخله، و التي ظلت راكدة هامدة مهزومة، مستسلمة لقوة و نفوذ نوازع الشر التي حولت الإنسان إلى كائن محب للدم و عاشق لرائحة الدخان و البارود. و تحت تأثير مفاعيل سحر العقيدة الجديدة استجاب الإنسان عقليا و وجدانيا، لندائها، طوعا، و ذلك لما تحمله من قيم لاءمت النفوس، بعد أن تشبعت بها، و غزت العقول فحررتها من عسف العنف و نظفتها من الادران، فاستقامت على أثر ذلك العلاقات الاجتماعية بعد الحيف و الانحراف و دخلت عهدا جديدا انهدمت فيه سلطة العنف و الفرقة و قام وساد سلطان التعايش، و المودة، بين الأفراد و الجماعات. فهزمت قيم الموت و انتصرت قيم الحياة. و نظرا لقوة هذه القيم ذات المرجعية الربانية ارتدى المجتمع حلة قيمية جديدة عملت و بقوة على تمتين روابط الصلة بين أهله، المبنية أساسا على قاعدة الحوار و التفاهم، بعد أن بدد عراها التدابر و التصادم. فتحققت السيادة لأهل هذه القيم، فتكون المجتمع الحق. و لعلها الغاية النبيلة و المغزى الشريف الذي ترمي إليه الآية الكريمة: " و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا" الحجرات الآية 13 و على هذا الأساس يكون القران الكريم هو الخطاب الذي وضع قواعد التعايش بين بني البشر، و دعاهم إليه. فالقبائل العربية التي كانت متناثرة أحزابا و شيعا، ألف بينها فانصهرت في نسيج اجتماعي، شكل مجتمعا قويا قادته دولة الخلافة التي احتضنت جغرافيتها أجناسا أدمية شتى انقسمت إلى فئتين:
- فئة انصهرت و اندمجت في الثقافة المحتضنة.
- فئة فضلت الاحتفاظ بثقافتها و ظلت وفية لها.
و هو أسلوب تعايشي صنع حضارة التعايش الاناسي بين الأجناس البشرية ذات المشارب المختلفة و الثقافات المتضاربة. و هو ما با ت يعرف اليوم بالحوار الحضاري الذي بشر به الفكر الوضعي و روج له الخطاب الوضعي. لكن السؤال الملح، هو، إلى أي حد نجح الفكر الوضعي من خلال خطابه و فلسفته الوضعيين تحقيق فضيلة الحوار الحضاري بين الشعوب؟
ابتداء يمكن القول أن الخطاب القراني قد نجح في تحقيق التعايش الأناسي تنظيرا و سلوكا، إذ بفضله توحدت قبائل بدو الصحراء قديما فانصهرت و غيرها من الاجناس ضمن نسيج اجتماعي متجانس، نسجته خيوط التعايش و بفضله أيضا تحقق تقارب الشعوب فيما بينها حديثا، و ذلك من خلال ما بات يعرف بالتداخل الحضاري، و الانفتاح الحضاري، و الامتزاج الثقافي، رغم الموانع اللونية و العرقية و الثقافية و العقدية و اللسانية الحائلة دون تحقيقه. مما يؤكد صدق الخطاب القراني و قدرته على تحقيق التعايش بين الناس، و ترسيخ فلسفة التعارف فيما بينهم.
و في ظل الأزمات الاخلاقية و الاجتماعية السلوكية و أمام انكسار و افلاس عقيدة التعايش و زيف ادعائها في الخطاب الوضعي، تظل في المقابل عقيدة التعايش في الخطاب القرآني هي العقيدة الحق، و الأصل، و الأسمى و الملائمة للنفوس الآدمية المتعطشة فطرة للتالف، والجانحة جبلة نحو التعارف. و بدون مبالغة، يمكن الجزم أن كل ذي فهم حكيم، و ذوق سليم يدرك قوة و مصداقية هذه الحقيقة، و عدم الشك في فاعليتها و قدرتها على تحقيق السلم الاجتماعي الاناسي (نسبة إلى الناس كافة). و من فضائل الانفتاح على الخطاب القراني و الاقتراب من كنه و جوهر و حقيقة التعايش كقيمة من القيم العليا، أنها تربي الفكر و تقوم السلوك، فيمتلك المتشبع بها عقيدة تعايشية، يستطيع بموجبها الانفتاح على الاخر و الاقتراب باطمئنان منه، و قراءة شخصيته قراءة إنسانية، بعيدة عن الازدراء و التعصب. فهذا طه حسين المفكر العربي، يقول في حق الاسكندر المقدوني، لما قرأ شخصيته معتبرا إياه فاتحا فعليا و ناشرا للعقل اليوناني: "إذ لولاه لما عرف الشرق اليوناني... كان قائد فكر، كما كان قائد جيش و قد وفق إلى قيادة الفكر ما لم يوفق إليه في قيادة الجيش. و هنا عبرة تاريخية يجب أن يتفكر فيها من يريد أن يتعظ و يقدر الأشياء كما هي ...." فالاسكندر المقدوني في نظر طه حسين حاول المزج بين الشعوب، و إزالة الفوارق السياسية و الجنسية، و أخضع الشرق إلى سلطان واحد، ودعا إلى المزاوجة بين الشعوب المختلفة كما فعل بين البابليين و المقدونيين و الفرس، و اعتبر فتوحاته من الأعمال الهامة، لأنه لم يكن يفتح الأرض وحدها، و إنما كان يريد فتح العقل أيضا، كما لا يعتبره صاحب حرب و غلبه، و إنما اعتبره صاحب مودة و محبة و إخاء و تسوية بين الناس .على أساس هذه القاعدة إذن تحرك الفكر، و بحدودها التزمت الأقلام، و بمقتضاها و بموجبها انطلقت الألسنة فلم يكن لأحد تشبع فكره بمعاني التعايش النبيلة النابعة من صميم نص تشريعي ملزم، أن ينطلق لسانه سفها و جهلا أو أن يتهور قلمه للنيل من ثقافة من الثقافات، أو جنس من الأجناس أو عقيدة من العقائد، إلا بمقتضى حق تراعى فيه الحقوق و الحدود. و هو الإطار الذي اشتغل ضمنه الصوت الفكري العربي، بعيدا عن كل زيغ أو انحراف. و ذلك رغبة في بناء العلاقات الانسانية بين بني البشر كافة، عبر تثبيت مبدأ التعارف الذي يعد منهجا فكريا و سلوكيا على أساسه تبني العلاقات الإنسانية بين بني البشر، عبر تثبيت مبدأ التعارف. و لعلها الرغبة النبيلة التي راودت الفكر الرومانسي الذي ناضل رواده من أجل تحقيق ما سموه "الشراكة الإنسانية". إلا أن هؤلاء القوم، غاب عن وعيهم أن الشراكة الإنسانية فضيلة كبرى، بل أم الفضائل، لا يمكن أن تتحقق عمليا، و أن يقوم صرحها إلا على قاعدة التعايش المدعومة بروافد التصالح و التقارب و التصافح، و ليس على قاعدة بساطها التناجش، و التباغض، و التدابر، تكافلت على نسجه و حياكته الأيادي الآثمة، بأمر من أفكار ظالمة نجحت إلى حد كبير في صياغة خطاب تفوق و أبدع في بناء و صياغة نظريات حول :
1- الكراهية.
2- العنصرية.
3- الاستعلاء.
4- الإقصاء.
ترجمت عمليا إلى واقع معيش، انقسم إلى حقبتين تاريخيتين اثنين:
1-الحقبة الصليبية: و إبانها انطلق التكالب المسيحي الشرس على ديار الإسلام و أهله.
2-الحقبة الاستعمارية: و خلالها فرضت الوصاية قهرا على الأمة العربية بغية التحكم في تقرير مصائر أهلها، اقتصاديا و اجتماعيا، و ثقافيا، و سياسيا.
و على هذا الأساس يمكن القول أن الخطاب الوضعي قبل الخطاب الا ستشراقي.، و بعده لم يكن أبدا صوتا أناسيا إنسانيا، تعايشيا، بقدر ما كان خطابا تضمن أصوانا تحريضية، اقصائية، تضليلية تحاملية ظلت دوما تقدح في الجنس و العقيدة حينا من الدهر، و على مر الزمن، إلى أن اكتمل بنيان نظريات شامخة، لمن يعتبرون أئمة الفكر الغربي، تدعو، جهرا و صراحة إلى الصراع بين الحضارات منبهة إلى أن حضارة الإسلام هي الحضارة الوحيدة المؤهلة لتحدي الحضارة الغربية و القادرة على الوقوف في وجهها في القرن القادم.
هذا و تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن فلاسفة التنوير في أوربا قد وقعوا في تناقض صارخ حينما رفعوا شعار التسامح لتجاوز الخلافات الدينية، ثم عدلوا عنه إلى اللاتسامح حينما تعلق الأمر بالقضايا السياسية و الوطنية، فتسامح على أثر ذلك كثير منهم مع الاستعمار، حينما اعتبروه وسيلة لتمدين الشعوب المتخلفة، و غضوا الطرف عن النزاعات العرقية، لأنهم امنوا بتفاوت الأعراق و أفضلية بعضها على بعض. فمتى كان الاستعمار عامل بناء و تمدين؟ و استنادا إلى الواقع الناطق بلسان مضامين الخطاب الوضعي، يتضح جليا أن هذا الخطاب قد فقد مصداقيته فيما يخص السعي لتحقيق التعايش بين الشعوب و الأمم.وأنى له أن يحقق ذلك؟ و شرخ التباعد يزداد يوما بعد يوم بين أبناء المجتمع الكوني، و ذلك في ظل التنامي المتزايد للأصوات الصدامية المنتجة و الممجدة للخطاب الصدامي، الداعي صراحة إلى صدام الحضارات. و لعله سلوك منطقي يتناغم و فلسفة العالم القائمة على الصدام و الصراع التي يرسخها الغرب تجاه الشرق. و ذلك من خلال:
1- التقسيم الحضاري: تقدم # تخلف.
2- التقسيم السياسي: ديمقراطي # استبدادي.
3- التقسيم الاقتصادي: منتج # مستهلك.
4- التقسيم الفكري: عقلاني # عاطفي.
5- التقسيم العسكري: قوي # ضعيف.
6- التقسيم العنصري .أري# سامي.
7- التقسيم الجغرافي: شمال # جنوب.
هذا و ينبغي التأكيد ختاما أن التعايش الأناسي يقتضي:
1- تجاوز الخطاب الحالي بما يحمله من رؤى و مواقف صدامية تحريضية.
2- صياغة خطاب جديد ترتكز مضامينه على الثوابت التالية:
أ- الارادة الاجتماعية الواضحة الصادقة المتمثلة في الاراء و المواقف الداعية صراحة إلى بناء علاقات اجتماعية كونية، تغذيها القيم الإنسانية العابرة للحدود، و ذلك بعيدا عن المعتقد و الجنس و اللون و الجغرافيا.
ب- الإرادة السياسية الصادقة: المتمثلة في ضرورة معالجة مفاهيم: الديمقراطية، و الحرية، و حقوق الإنسان بكيفية عقلانية و بأسلوب يستحضر البعد الانساني الشمولي الذي يساوي بين الناس كافة، لا بكيفية سياسية انتقائية تراعي، الجنس، و العقيدة و اللون و الدرجة و الجغرافيا.
ت- الإرادة الأخلاقية: و تكمن أساسا في اعتبار تحقيق التعايش بين الإنسان الكوني، خلقا نبيلا، من شأنه أن يحقق التقارب بين الناس، فتسود المحبة و التالف، و يعم السلام المفقود عنوة في عالم لا زال مدبرو شأنه يعتبرون التعايش خرقا لحقوق التفوق و السبق و الدرجة و الافضلية. غير مدركين أن التعايش غدا ضرورة أساس من ضرورات الاستقرار السياسي و الاجتماعي اللذين لازال الخطاب الوضعي عاجزا عن تحقيقهما.
الدكتور محمد الصفاح.
-
Votre commentaire
Votre commentaire s'affichera sur cette page après validation par l'administrateur.
Ceci n'est en aucun cas un formulaire à l'adresse du sujet évoqué,
mais juste un espace d'opinion et d'échange d'idées dans le respect.
Posté Le : 16/11/2014
Posté par : fakhri
Ecrit par : الدكتور محمد الصفاح
Source : أنفاس نت