مقام وسيرة سيدي قادة بن أحمد بن المختار وذريته الجد الاكبر للامير عبد القادر الجزائري
ابناء واحفاد الولي الصالح سيدي قادة بلمختار
الشيخ الطيب بن المختار
الحمد لله الذي أمتن علينا بقبس من نور هدايته و كلأنا بنظرة من عين ولايته و حبانا بفيض من سابغ رحمته، فجعل لنا من عباده الصالحين منارات يهتدي به و مصابيح يستضيء بها السراة في الليل البهيم ورحمة يستوكفها المجتبون إلى ربهم. إن شخصية هذا العالم الجليل قاضي القضاة الشيخ الطيب بن المختار عليه رحمة الله و رضوانه و الذي اجتمعت فيه الخصال الحميدة و الأخلاق الرفيعة و إني أقتطف هذه الترجمة من تأليفه الذي هو عبارة عن رسالة ذكر فيها حياته العلمية كما ذكر فيها الأسرة التي ينتمي إليها مع ذكر عمود نسبه.
هو الشيخ الطيب بن المختار بن الطاهر بن البشير بن محمد بن عبد القادر ( المدعو سيدي قادة ) بن أحمد بن المختار. ولد يوم 11 من شهر صفر 1212هـ بسيدي قادة و بالضبط بزاوية جده سيدي الطاهر بن البشير. و لم يكد والده يأنس فيه القدوة على الحفظ و الإستيعان حتى أخذ يلقنه قصار السور من القرآن الكريم ثم أدخله كتاب القرية و كأن في الكتاب يحفظ القرآن و يتابع دروس اللغة و الفقه، و بالفعل لقد حفظ المتون و أتقنها و هو لا يزال صغيرا و كان رحمه الله يعد من راود الفكر، فكانت مواهبه الفطرية و مخائل نجابته تحدد له مستقبلا و ضيئا و غدا مشرقا مما جعل والده يتابعه بجدية و اهتمام و يراعيه بعناية زائدة.
لقد انتقل المرحوم من زاوية جده الطاهر بن البشير إلي مكان آخر يدعى اللوزات و هذا المكان يعتبر معهدا علميا يدرس فيه الفقه و التفسير و الحديث و النحو على يد علماء أجلاء يدعون في ذلك العهد عائلة ( شايب أذراع ) و هذه العائلة كان لها ثراء كبير بمدينة معسكر مع سعة المال و كثرة العقار واتساع الحرث و الحيوان والجمع بين رئاسة الدنيا و رئاسة الآخرة فشيد القصور بالبادية و آثار بنائها بوادي اللوزات قرب روضة والده.
في سنة 1228 هـ لم يعمر والده طويلا حتى انتقل إلى جوار ربه فتولت أخته لالة ملوكة العناية به إلى جانب الأم وما ورثتاه عن أبيها من حب العلم و ما أدركتاه فيه من رغبته الشديدة في تنشئته نشأة علمية أرسلتاه إلى زاوية ابن عمه مصطفى بن المختار الذي كان من العلماء في هذه الزاوية، و كان يلقب بالكبريت الأحمر فانكب الشيخ بن المختار على الدراسة العليا في الفنون المعروفة في ذلك العهد، كما كان له في السابق محصول وافر في اللغة و النحو والبلاغة و الفقه والتوحيد، و أصبح الوالد بين أقرانه كالغصن الذي يطول و الزهرة التي تعد, و شهدت له مشايخ عصره بالتضلع في العلم كالشيخ المشرفي و الشيخ حسن بن علي و الشيخ محمد الشرقي كما وصفه العالم المبرز الشيخ محمد بن حواء بن يخلف والذي سماه ( العارف الكبير ) و عدد كبير من المشايخ المتواجدين في عصره كالشيخ الطاهر المشرفي ومصطفى التهامي والثعالبي بوناب، ولشدة شغفه بالعام وتعطشه إلى المزيد منه حتى نادته مدينة الزيانيين.
وفي سنة 1232 هـ سافر المرحوم إلى مدينة تلمسان، ليستفيد ويفيد مما ابتغاه من العلوم الدقيقة فقرأ الفقه وعلم الميزان فحصل الكثير من المعرفة الشيء الذي أهله إلى أن يصبح قاضيا، وقد كان هذا المعهد عامرا بالطلبة مزدهرا بالعلم والمعرفة، يضاف إلى ذلك أن الشيخ الطيب بن المختار وجد في هذا المعهد أحد أفراد عائلته منهم الشيخ عبد القادر شايب أذراع الذي كان زميلا لوالده وقد زاده ذلك رغبة في الانتساب في هذا المعهد. وهذا مما جعل الشيخ الطيب بن المختار يتخذ شايب أذراع شيخا وقدوة له ويأخذ نفسه بما يستطيعه من أخلاقه وماسكن فيه من خصائص ومزايا، وقد أخذ عنه الفقه والأصول والتوحيد كما أخذ عنه الطريقة القادرية التي أخذها هو بدوره من والده. وفي هذا المعهد أخذ الإجازة وهذا مقتطف من مضمونها " أما بعد فليعلم الواقف على كتابنا هذا من المؤمنين بالله ورسوله إننا اجزنا حامله الشيخ الطيب بن المختار في كل ما فتح الله على أيدينا من فقه ولغة وطريقة بل وجميع ما يؤذن فيه شرعا في حياته، وليكن هذا بعد موت أحد المشايخ ومن خالفه فقد خالف نفسه والله المسؤول أن ينفع به كما نفعه وان يصلح به العباد ويعمر به البلاد ".
والملاحظ أن الأجازة معناها الإذن بالتدريس والفتوى والتربية فيما أخذه المجاز عن المجيز من العلوم و المعارف و طرق التربية و هذا لا يتأتى و لا يحصل إلا حينما يطمئن المجيز الذي هو في المستوى المطلوب علما ومعرفة و أخلاقا وسلوكا وخوفا من الله تعالى وطاعة له ومن هنا فإن المشايخ العارفين كانوا يضنون بالأجازة ويحرصون كل الحرص على أن تصادف مكانها اللائق والشيخ عبد القادر شايب أذراع العارف بالله الواقف على حدوده الساعي في نفع عباده لو لم ير في تلميذه الكفاءة العلمية والمؤهلات الخلقية والسلوكية لما أجازه هذه الأجازة المطلقة ولما أمره بالاستخلاف بعد الممات. فلا مكانة هناك للمجاملة أو القرابة أو العاطفة إنها شهادة يحاسب عليها صاحبها يوم القيامة حسابا شديدا، ومن هنا كان كل من المجيز والمجاز يحتاط للإجازة ويقرا لها ألف حساب لأنها مسؤولية ثقيلة لها تكاليف وتبعات. وبعد أن أنهى الشيخ الطيب بن المختار دراسته وأجازه شيخه، كلفه بالتدريس في معهده حيث رأى أن طلبته أحق بالانتفاع بهذا الشيخ قبل غيرهم ولكنه اعتذر بعدم قدرته على التدريس تواضعا منه وتهيبا أمام المشايخ غير أن شيخه عبد القادر شايب أذراع يعرف كفاءته ومقدرته على الإفادة لقد الزمه بالتدريس وقال له إنك ستقوم بالمهمة و أنت لها أهل ولم يبق للشيخ الطيب بن المختار إلا أن يستعد للمهمة ويتصدى لها بكل ما أوتي من مؤهلات فالتف حوله الطلبة وكلهم رغبة في التحصيل والتعطش إلى العلم والمعرفة. وكان الشيخ الطيب بن المختار شديد الشغف يحب طلبته ورغبته في التغذية العلمية وما هي إلا فترة وجيزة من الجهاد العلمي حتى أخذت الثمار تبدوا وتعد بنتائج طيبة وحصاد موفور رفيع وتحققت بذلك فراسة الشيخ في تلميذه وفي هده الأثناء كانت أوضاع الشيخ تنذر بالانفجار مما يدفع بالشيخ الرغبة إلى مواصلة الدراسة بفاس.
وفي سنة 1234 هـ سافر المرحوم إلى فاس وحط رحاله بمسجد القرويين، لكنه لم يعمر أكثر من ثلاث سنوات قرأ فيها العلوم الشرعية إلى أن أجيز. فأثناء عودته إلى بلده انحاشت إليه الطلبة من كل جانب حيث تصدى للتدريس فظهرت غزارة علمه لدى المجتمع فتزاحم عليه الطلبة وأصبح عددهم يفوق (400) أربعمائة طالب فكان مسرورا بهذا المنظر اشد السرور داعيا ومرشدا لطلبته على العزم والقوة والمثابرة والاجتهاد. لقد كان صدرا لطلبته فقيها لهم, كاتبا وأديبا صاحب خطبة وتواضع وإيثار وقبول حسن وله شعر رائع ونثر فائق وكتابة بليغة وتأليف عديدة وكان آية في عهده لقد ظهر هديه وصلاحه وسيرته و ورعه. إن الشيخ الطيب بن المختار لم يعمر طويلا بالزاوية حتى نادته الوظيفة وأسندت له مهام أخرى جديدة حيث تم تعيينه قاضيا بمدينة تيغنيف. لكن الزاوية لم تغلق أبوابها بل تداولتها الأيادي من أهل الطيب بن المختار إلى أن وصلت إلى الحفيد الذي يعتبر نموذجا مثاليا لأسلافه.
إن الشيخ الطيب بن المختار لم يمكث إلا بضعة أعوام وانتقل إلى مدينة سطيف، لقدا أصبح المرحوم قاضيا وخطيبا وإماما فكانت اتصالاته بأهالي سطيف مبنية كلها على الصدق والإخلاص والتذكير بالكتاب والسنة. لقد تابع المرحوم جلساته القضائية على متن سلفه فرضي الله عنهم أجمعين وبعد المدة التي قضاها في مدينة سطيف عاد إلى مدينة تيغنيف متقاعدا مما جعله يقوم بتأليف عديدة ونشر أمهات الكتب. لم يعقب المرحوم من البنين إلا بنتين طاهرتين مثقفتين ثقافة جامعية في ذلك العهد.
ما ورد في مقدمات تآليفه الآية الكريمة يقول الله تبارك وتعالى ? يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ? صدق الله العظيم ومن ديوانه الشعري اقتطفت هده الأبيات :
هذه صقلية لاحـت معالمهـا دار اقر لها بالفضـل ذو نظـر
هذه منازلهم تبكـي مـآثرهم هذه المساجد قد دكت قواعدها
هذه السعادة قد لاحت بدايتها فـالله يختمهـا بأحسـن مختتم
يقول أبو القاسم سعد الله : " ومن أقرباء الأمير عبد القادر اللذين عاشوا في نفس الفترة الزمنية الشيخ الطيب بن المختار بن الطاهر بن البشير و هو أديب له ديوان شعر وله في التفسير والتوحيد وله في الفقه وله في اللغة, ولد ونشأ و تعلم في الراشيدية ومنها انتقل إلى تلمسان طالبا للعلم فأخذ عن علمائها ثم رحل إلى فاس ومكث بها مدة طويلة ثم رجع إلى مسقط رأسه. لقد رافق الأمير إلى منفاه و ذلك إلى بلد الشام ثم عاد إلى أرض الوطن و تولى فيها القضاء و الإفتاء.
توفي يوم 22 من شهر ذي القعدة 1292 هجري الموافق لـ 1875 م، وبعد دفنه بنيت له في الحين دار كبيرة لتبقى له معلما تاريخيا إلى يومنا هذا.
الشيخ سيدي محي الدين والد المير عبد القادر
ولد الشيخ محي الدين سنة تسعين ومائة وألف الموافق لعام 1776 م، في قرية الضفة اليسرى لوادي الحمام غربي مدينة معسكر. و القرية هي قيطنة وادي الحمام حيث كانت عبارة عن عدد صغير من المنازل تشتمل على زاوية كانت مقصد العلماء و المرابطين و الشخصيات المعروفة من المنطقة اشتهرت أسرة محي الدين بالكرم و التقوى و العلم في قبيلة بني هاشم، و خارج حدود هذه القبيلة و كان نشاط أسرته يسودها طابع ديني و اجتماعي.
نشأ الشيخ محي الدين و ترعرع وفي أحضان والده تثقف و كرع من أهل الثقافة و الأدب و العلوم الإسلامية. وقبل أن يدق ناقوس الخطر، كان محي الدين رئيس الأسرة و متزوج بأربع نساء هن زوبيدة التي ولدت له محمد السعيد ومصطفى و أحمد، الزهراء التي أنجبت له عبد القادر و بنتا اسمها خديجة، فاطمة التي ولدت له الحسين و بنتا اسمها يامينة و خيرة التي ولدت له ابنه المرتضى.
و في سنة 1826 م تمكن محي الدين مع ابنه عبد القادر من زيارة الأماكن المقدسة لأداء فريضة الحج و قد مر المسافران بتونس ثم طرابلس ثم الإسكندرية و القاهرة ثم توجها إلى مكة و بعد أن أديا الحج قاما بزيارة العراق، و في السنة الموالية عاد إلى الأماكن المقدسة للقيام بحجة أخرى ثم رجعا بطريق البحر إلى الجزائر حيث كانا في استقبالهما جمع من العلماء و الأعيان للترحيب بهما فزادت بذلك سمعة محي الدين و انتشر نفوذه كما اتسع نطاق الدور الذي يقوم به في التحكيم و فصل الخصومات وكما آل الأمر إلى الاختلاف و النزاع و سريان الدفاع و الانتقام و أخذ الثأر. وتوقفت المعاملات التجارية و ركن النشاط الزراعي بسبب اختلال الأمن العام عند عدد من العلماء و الأشراف وذي الحل والعقد وعزمهم على المبايعة لأمير تتوفر فيه الشروط الضرورية ليقوم بها أشهر الكفاح الشعبي و قد وقع اختيارهم على محي الدين لما ظهر عنه من الفضل و لما عرضوا عليه هذه الرغبة رفض الأمارة و لكنه قبل الجهاد. وفي 17 من شهر أفريل 1832 م قام محي الدين بشن هجوم برجاله على دوريه استطلاعية فرنسية في ضواحي وهران و أنزل بها بعض الخسائر، و في أول ماي وجه محي الدين تحد للجنرال قائد قوات وهران بالجلاء عن المدينة أو بالخروج للقتال و لكن القائد الفرنسي لاذ بالصمت و رفض أن يرد عليه.
وفي 03 مايو من نفس السنة جمع محي الدين عدة آلاف من المجاهدين واتجه على رأسه إلى مدينة وهران و شن هجوما على قوة فرنسية كانت تعسكر في المنطقة و قد أشرك عبد القادر في هذه المعركة و أبلى فيها بلاء حسنا و استمرت المعارك عدة أيام ثم أوصى محي الدين القبائل المجاورة بمواصلة محاصرة وهران اقتصاديا و بعدم السماح بوصول الممون إلى حاميتها الفرنسية.
وفي 19 سبتمبر نظم محي الدين حملة هجومه على وهران على رأس قوة تعدادها حوالي ألف رجل، و حملة أخرى في 23 أكتوبر على رأسها خمسمائة (500) مقاتل و كانت خسارة الفرنسيين بالغة و استمر الشيخ محي الدين في قتاله للعدو و ليثبت إرادة الشعب في الكفاح و يدرب المجاهدين على أساليب الحرب مع الفرنسيين.
توفى الشيخ محي الدين البركة المقتدر به في كل سكون و حركة يوم الأحد ثالث ربيع الأنور سنة تسعة و أربعون و مائتين و ألف الموافق ليوم 21 جويلية 1833 م. و قد تم دفنه بسيدي قادة و أمر ببناء ضريحه الأمير عبد المالك و ابن أخيه الأمير خالد. كما توفي في تلك الفترة ابنه أحمد بعد مرض ألزمه الفراش مدة من الزمن يوم الثلاثاء من شهر جمادى الأول سنة 1252 هجري، و تم في الحين قبره بجوار والده الشيخ محي الدين، و هو يعتبر الأخ الأكبر للأمير عبد القادر، فهو فقيه صوفي له اهتمامات ببعض علوم عصره، حيث كان يقرض الشعر وقد ولد بقرية القيطنة من نواحي معسكر، رحل إلى المغرب حيث تولى مشيخة والده في الطريقة القادرية، و قد عرضت عليه الأمارة قبل أن تعرض على أخيه عبد القادر فلم يقبلها، ولم يقبل الزواج من أسرته لا من قريب و لا من بعيد، و لكنه اشترك مع أخيه في كفاحه ضد الفرنسيين، و دوره في هذا الكفاح غير بارز، كما أن دوره العلمي غير بارز، بحيث أن تراثه مغمور.
تاريخ الإضافة : 26/03/2022
مضاف من طرف : soufisafi
صاحب المقال : Photo : Hichem Bekhti
المصدر : elmoheba.yoo7.com