الممارسات الخاطئة ليست من التصوف الإسلامي الصحيح
التحق بالصوفية بعض الْمُدَّعين للتصوف ممن لا دين لهم ولا صلاح ولا علم بالكتاب والسنة، وهم الذين يُشَوِّهُون صورته، لذلك لا يجوز أن يَحْكُم الناس على التصوف بما يرونه من هؤلاء الْمُدَّعين، فهؤلاء قد اتخذوا طريق التصوف سُلَّما لتحصيل أغراضهم وشهواتهم وابتدعوا فيه بِدَعًا ما أنزل الله بها من سلطان، وزعموا أنها الحقيقة، وأنهم يجوز لهم ما يكون مُحَرَّما في الشريعة، وكذبوا فإن الشريعة والحقيقة صنوان، وما خالفت الحقيقةُ الشريعةَ قط إلا في نظر جاهل، فمثل هؤلاء ليسوا من التصوف في شيء.
ومن الظلم البَيِّن أن يعترض بعض الناس بفعل هؤلاء الجهلة ويجعله حجة على التصوف والصوفية، فما التصوف إلا اتباع الكتاب والسنة، وما الصوفية إلا قوم جاهدوا أنفسهم في الله، فهداهم الله، والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين.
وليس من التصوف الإسلامي: الكذب على الله، والدعاوى العريضة، والبلادة، والبطالة، والجهالة بدين الله، وادعاء الولاية، والمتاجرة بالكرامات، وليس منه ما يحدث في الموالد من اختلاط محرَّم، ومباذل وسفاسف لا يرضاها عاقل، وادعاءات فضفاضة وتغييب للعقول. وليس منه أيضا ادعاء الغيب والدجل والشعوذة والاتصال بالجن والشياطين والسحر والألفاظ الأعجمية والساذجة، واستغلال ذلك في جذب مريد التربية.
وأما ما قيل بأن من شعائر الصوفية تقديس القبور والدعوة إلى زيارة أضرحة أولياء الله الصالحين، فمردود أيضا؛ وهو دعوى مجردة من الدليل، ونصوصهم بين أيدينا ليس فيها أن ذلك ركنا من أركان التصوف أو قاعدة من قواعده، أو مقاما من مقامات السلوك، ولم يستحب الصوفية الحقيقيون من ذلك إلا ما استحبته الشريعة ولم يجوزوا أو يمنعوا إلا ما أجازته أو منعته، فزيارة الأضرحة ليست جزءا من السلوك الصوفي ولا هي مقام من مقامات الطريق ولا منزل من منازله، ولو طمست كل الأضرحة - لا قَدَّر الله - ما طمس الطريق الصوفي ولا اختل منه شيء.
ولا يعدو ما وقع في كلامهم حوله أن يكون ضمن الكلام على الآداب المتعلقة بأفعال السالك سواء في علاقته مع ربه أو شيخه أو إخوانه أو نفسه أو ما في الأكوان، فلا يتجاوز كلامهم فيه الكلام عن أدب من الآداب الشرعية، فلقد حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على زيارة القبور، فقال: "فزُورُوا القُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ المَوْتَ"([5]) وأولى القبور بالزيارة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبور آل البيت النبوي الكريم؛ لأن في زيارتهم ومودتهم برًّا وصلة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قبور الأولياء والصالحين.
والصلاة في القبور المنهي عنها ليست هي الصلاة في المسجد الذي به ضريح سواء اتصل الضريح بالمسجد أو انفصل عنه، لأن الصلاة في هذه المساجد صحيحة ومشروعة وقد تصل إلى درجة الاستحباب، بدليل قوله تعالى {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] فوجه الاستدلال بالآية أنها ذكرت القولين - وهما نبني عليهم بُنيانا أو لنتخذن عليهم مسجدا - دون استنكار، ولو كان فيهما شيء من الباطل لكان المناسب أن تشير إليه وتدل على بطلانه. قال الرازي في تفسير الآية: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد.
ومن السنة حديث أبي بصير الذي رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، أن أبا بصير كان في سيف البحر وحضرته الوفاة، وقد بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إليه برسالة هو ومَن كان معه يأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، فمات أبو بصير وكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده يقرأه، فدفنه أبو جندل مكانه، وبني على قبره مسجدا.
وأما استدلالهم على عدم جواز الصلاة في هذه المساجد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا" وفي رواية لمسلم زاد: "قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ"- فغير مُسَلَّمٍ؛ لأن علماء الأمة لم يفهموا من هذا الحديث أن المقصود النهي عن اتصال المسجد بضريح نبي أو صالح، وإنما فسروا اتخاذ القبر مسجدا تفسيرا صحيحا، وهو أن يُجْعل القبر نفسه مكانا للسجود، ويسجد عليه الساجد لمن في القبر عبادة له. وبهذا تبين لنا أن ما يفعله الصوفية في بناء الأضرحة وزيارتها أمر لا حرج فيه. والله أعلم.
المصادر والمراجع
1) الاستيعاب، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، دار الجيل .
2) التصوف الإسلامي – رياضة روحية خالصة، د. سعيد مراد (رئيس قسم الفلسفة – آداب الزقازيق)، القاهرة : عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ، 2002 م .
3) التصوف الإسلامي في ميزان الكتاب والسنة، د. عبد الله يوسف الشاذلي (الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف)، مصر : طنطا ، مكتبة الأزهر الحديثة ، 2001 م .
4) التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، د. محمد عبد اللطيف العبد (أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية سابقا – دار العلوم – جامعة القاهرة) ،، القاهرة: دار النصر، ط 2، 1419 هـ / 1999 م.
5) السيرة الحلبية المسماة : (إنسان العيون فى سيرة الأمين المأمون) ، على بن برهان الدين الحلبى الشافعى ، القاهرة : مصطفى البابي الحلبي .
6) الطبقات الكبرى، ابن سعد، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر – بيروت، الطبعة الأولى، 1968 م.
7) الطرق الصوفية فى مصر نشأتها ونظمها وروادها ، للدكتور عامر النجار ، القاهرة : دار المعارف ، ط 5 ، د ت .
8) الطريق الصوفى وفروع القادرية بمصر ، للدكتور يوسف زيدان ، بيروت : دار الجيل ، ط 1 ، 1411 هـ / 1991 م .
9) حسن التلطف في بيان وجوب سلوك التصوف، عبد الله الغماري، القاهرة: مكتبة القاهرة ، 1415هـ / 1994م.
10) صحيح البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، اليمامة، الطبعة الثالثة ، 1407 هـ - 1987م.
11) صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت : دار إحياء التراث العربي.
12) كشف المحجوب ، الهجويري، دراسة وترجمة وتعليق: د. إسعاد عبد الهادي قنديل، القاهرة : المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1394هـ/ 1974م.
([1]) للتوسع بخصوص انتهاء نسب سلسلة الطرق الصوفية إلى الصحابة رضوان الله عليهم راجع: كشف المحجوب، الهجويري، (1/267- 274)
([2]) للتوسع بخصوص تعدد الطرق الصوفية راجع: إتحاف أهل العناية الربانية باتحاد الطرق الصوفية الشيخ فتح الله بن أبي بكر البناني المغربي (ت 1353 هـ)، التصوف الإسلامي – رياضة روحية خالصة، د. سعيد مراد (رئيس قسم الفلسفة – آداب الزقازيق)، (ص 191 – 310)، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه،.د. محمد عبد اللطيف العبد (ص 91 – 98).
([3]) وكما سنجد لكل مذهب كتاب أو أكثر يتكلم عن تاريخه ونشأته وتطوره كالفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية للسقاف في مذهب الشافعية، والمدخل لابن بدران في مذهب الحنابلة، وهكذا في بقية المذاهب، بالإضافة إلى كتب أصول الفقه المؤلفة على أصول كل مذهب، فسنجد أيضا كمًّا متنوعا وقيما في أصول أكثر الطرق، كدرة الأسرار وتحفة الأبرار لابن الصباغ، والمفاخر العلية في المآثر الشاذلية لابن عياد الشافعي وكلاهما في أصول الطريقة الشاذلية، وألف الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي كتابه القيم:"تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية"، ومثل:بهجة الأسرار للشطنوفي في طريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني، والبهجة السنية في آداب الطريقة العلية النقشنبدية للخاني، وجميعها طبع مرارا بمصر وغيرها، وغير هذه الكتب كثير في هذا الشأن، مما يكشف للمطلع عن عمق وأصالة هذه الطرق، وأساليبها في التربية والسلوك.
ومن الدراسات المعاصرة في هذا الشأن: الطريق الصوفي وفروع القادرية بمصر، للدكتور يوسف زيدان، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1411 هـ / 1991 م. وكتاب: الطرق الصوفية في مصر نشأتها ونظمها وروادها، للدكتور عامر النجار، القاهرة:دار المعارف، ط 5، د ت.
([4]) حسن التلطف في بيان وجوب سلوك التصوف، (ص 12، 13).
([5]) أخرجه مسلم في كتاب «الجنائز» باب «استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه» حديث (976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([6]) تفسير الرازي (21/106).
([7]) ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (4/1614) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (4/134)، وصاحب السيرة الحلبية (2/720) .
([8]) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الجنائز» باب «ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور» حديث (1265) واللفظ له، ومسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «النهي عن بناء المساجد على القبور» حديث (529) من حديث عائشة رضي الله عنها.
([9]) أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «النهي عن بناء المساجد على القبور» حديث (532) من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 08/02/2012
مضاف من طرف : yasmine27
المصدر : موقع الصوفية الطريق الى الله