الرحالة الألماني هاينريش فون مالتسان بالجزائر
السندباد الألماني ــ الحلقة الأولى ــ
مقدمة: يعد الرحالة الألماني هاينريش فون مالتسان (1826 ـ 1874) أحد أهم الذين نظروا إلى الواقع الجزائري أثناء الاحتلال الفرنسي بنوع من الدقة والحياد، وهو، إضافة إلى حنكته ودقة ملاحظاته، ظاهرة حقيقية في أدب الرحلة. وقد كانت نظرته الاستشراقية متميزة، قياسا إلى ما ورد في كتابات فرنسية وإنجليزية وروسية، أو في مدوَنات بعض الكتَاب المكرسين الذين نقلوا صورا تأسيسا على منطلقات ومرجعيات خاصة قد تخدم مواقفهم والبلدان التي ينتمون إليها: جي دو موباسان، فيكتور هوجو، أندري جيد، وغيرهم من الذين مجدوا، بشكل من الأشكال، الدور الإيجابي للوجود الفرنسي في ما وراء البحر، أو أولئك الذين سكتوا مفضلين الأمَ على العدالة، سواء تعلق الأمر بموقف ألبير كامو أو غيره من المثقفين الذين كتبوا عن الجزائر في نصوص شعرية وقصصية وروائية، أو في رحلاتهم التي اهتمت بالمشاهد الطبيعية، أكثر من اهتمامها بمعاناة الإنسان الجزائري في فترة قاسية من تاريخه.
كتاب “ثلاث سنوات في شمال غربي إفريقيا”(1)، في جزءيه، علامة فارقة في أدب الرحلة، وهو مؤثث بزاد معرفي وبلاغي معتبر بالنظر إلى أن المؤلف عالم آثار متميز، وصاحب أسلوب أدبي يتجاوز أساليب أدب الرحلة، وهو، إذ ينقل حياة المدن وتاريخها، يضمَن مواقفه من المشاهد اليومية ومن سلوك الأشخاص: الأهالي والغزاة على حد سواء، وبقدر كبير من الملاحظة والنباهة. الكتاب ذو قيمة كبيرة على عدة أصعدة، وقد يحتاج إلى عدة قراءات بالنظر إلى الجهد الكبير الذي بذله صاحبه في التأريخ والتأصيل والتسجيل. كما أن ترجمة المرحوم أبو العيد دودو كانت ترجمة شاعرية تحتاج بدورها إلى تنويه خاص لقيمتها الكبيرة في نقل الكتاب إلى اللغة العربية، وبتلك الأبهة النادرة.
لقد عرف عن هاينريش فون مالتسان، إضافة إلى الرحلات التي اهتمت بالمدن الجزائرية وتاريخها وآثارها ومعناها، اهتمامه بالجزائر في كتابه الموسوم: “مدخنو الحشيش في الجزائر”(2)، وهو مؤلف يحاول الإحاطة فيه بالجوانب النفسية والاجتماعية التي أسهمت في انحرافات فئة من الشباب في فترة الاحتلال. مع أن المسوغات الواردة قد تحتاج، على الأقل في جزء منها، إلى مساءلات لمعرفة الدوافع الحقيقية من وراء بعض ما ورد في الكتاب، إذ يبدو، من منظورنا، أقل عمقا في معالجة الظاهرة، وأقل زادا، مع أنه غاية قي الأهمية من حيث بعض المعلومات والتفاصيل، وخاصة من حيث الأسلوب الباهر الميال إلى إعطاء قيمة كبيرة للجانب البلاغي والاستعاري، وهو أمر لا يحدث دائما في أدب الرحلة.
في حين أن كتاب ثلاث سنوات في شمال غربي إفريقيا، في تقديرنا، أكثر مقدرة على التعامل مع المحيط الخارجي وعلاقاته المتشابكة، وأكثر موضوعية وانسجاما من سابقه، ومن كتابه الذي ألفه أثناء سفره إلى مكة عندما كان في الرابعة والثلاثين من عمره: “رحلتي للحج في مكة.” وهو كتاب يحتاج إلى قراءة رغم نزعته العابثة التي قد تتناقض مع الحيز ومرجعياته الدينية، إن لم تكن متعارضة جذريا مع المقام. وقد ارتأينا، تأسيسا على ما ورد في الكتاب، التركيز على نقطتين مهمتين تعكسان تجليات المقاومة الجزائرية، مع أنه يمكن توسيع الموضوع إلى نقاط أخرى لا تقل أهمية عن موضوع المقاومة، وهي كثيرة ومفيدة ومثيرة.
مقاومة الدين:
يورد الكاتب في عدة متون مدى ارتباط الإنسان الجزائري، عبر الوقت، بالدين الإسلامي وتعاليمه، دون أن يقدم تنازلات من أجل الاستفادة من إغراءات الآخر، مهما كان نوعها، وتحت أي ظرف كان. وقد ظل هذا الآخر، محل ارتياب، كائنا دخيلا على نواميس تعد متكأ للأهالي، وسمة من السمات القاعدية التي تميزه عن المعمَر، الذي يعد، بالنسبة إليه، إنسانا مختلفا، ومعتديا على الأخلاق العامة والممارسات والشعائر التي تمنحه قيمته ومعناه. ومن الواضح أن صاحب الكتاب، أراد من وراء بعض المقاطع، التي انتقاها بذكاء، التأكيد على مقاومة الخصوصية التي تتجلى في عدة مواقف مثيرة. وقد تظهر، في سياقات، بمثابة نوادر لا يمكن أن تكون سوى نتاج ذاكرة جمعية، رغم تأكيد الرحالة على واقعيتها الحرفية، وعلى المعايشة عن قرب.
كانت الطبقة الفرنسية الجاهلة الفظة، من حيث الأخلاق والتعامل، وهي الطبقة المهيمنة في فترة الاستعمار، من منظور الكاتب، تحتقر الأهالي، مهما كان مستواهم وخطابهم، ومهما كانت أخلاقهم والجهة التي ينتمون إليها، من الشمال أو من الجنوب، عربا أو بربرا. وكان مقتهم لا يرتكز على مبررات واضحة تجعلهم ينظرون، هم الدخلاء، إلى الجزائريين كمتوحشين، أو كحيوانات برية وجب التعامل معها بازدراء لإذلالها باستمرار. ومن ثم كانت هذه اللحظات الصدامية التي لا تتوقف ما بين الفرنسيين والأهالي كما كانت تسميهم فرنسا الاستعمارية. مع أنَ هذه المواقف ما زالت مكرسة إلى اليوم، ببعض الفروق في مستويات الخطاب ومعجمه، لأسباب كثيرة لها علاقة بمجموعة كبيرة من المضمرات.
وقد قدم الرحالة هاينريش فون مالتسان، بنوع من الصدق والحياد، عينات تمثيلية عن مجموعة من الثنائيات المتضادة، وهي تعكس، دون شك، المقاومة الفعلية للجانب الديني، رغم المسخ الذي برمجته الآلة الاستعمارية من أجل اجتثاث الجزائري وتغريبه في منظومة من العلامات التي لا أهل له بها. بيد أن احتماءه بالإيمان، كما ورثه، وبتلك العفوية الغريبة التي ميزته، جعله يحافظ على هويته ووحدته، إن لم يكن هذا العامل هو الذي أبقاه جزائريا طوال مدة الاستعمار التي جرب فيها الغزاة كل الوسائل لتحييد الدين كعنصر قاعدي يقف ضد مشاريعها المتمثلة في اجتثاث الأهالي عن أصولهم وإيمانهم ليسهل عليها الهيمنة عليهم، بصرف النظر عن طبيعة الممارسات الدينية.
يروي هاينريش فون مالتسان في مؤلفه عدة أحداث كفيلة باستنتاج المواقف التي كانت مبنية على المعتقد، ومنها حادثتان طريفتان وردتا في مطلع الجزء الثاني من الرحلة، وهما كافيتان للتدليل على بعض أنواع المقاومة الدينية التي ميزت الأهالي خلال فترة التواجد الفرنسي في البلد، ولو كانت بشكل عفوي في جزء منها. غير أنها، مع ذلك، تعكس ارتباط الناس بمقدساتهم كركيزة وحصن يجنبهم الذوبان في معتقدات الغزاة وأنظمتهم الفكرية التي كانوا يسعون إلى تحيينها لتقوية تواجدهم في البلد.
يقول المؤلف، بنوع من السخرية اللاذعة: كان هناك طباخ فرنسي “يشمئز من أبناء الجزائريين بصورة مضحكة، وكان يدَعي أن لديه ما يبرر كرهه للعرب. فقد خدعه أحدهم بطريقة صعب عليه أن ينساها، مع أنه كان هو الظالم، فروى لنا ظلم البدوي المزعوم له. فقد تراهن هذا الطباخ على أنه سيحمل عربيا مخادعة أو ارتشاء على تناول لحم الخنزير الذي يحرمه القرآن كما هو معروف. ولكي يكسب الرهان دعا أحد سكان قرية مجاورة إلى فندق سان كلو. وهناك قدم له طعاما من جملته دجاجة محمرة، كانت في الواقع دجاجة مزيفة، إذ أنها كانت في واقع الأمر عظام دجاج ملبسا بلحم الخنزير بطريقة فنية. وكان الطباخ يتصور أن العربي لن ينتبه إلى هذه الخديعة، فالدجاج يحل له أكله، إلا أنه أخطأ في هذه النقطة الأخيرة. فالعرب يحل لهم حقا أكل الدجاج، غير أنهم لا يأكلون ما يذبحه الكفار. وهكذا أكل العربي كل ما قدمه له باستثناء الدجاجة. “(3)
قد لا تحتاج هذه النادرة إلى أي تحليل كيما نثبت قيمتها الاعتبارية، شأنها شأن أحداث أخرى متكافئة دلاليا، وهي تقوم بالوظيفة ذاتها، ولها البعد نفسه. لقد بقي الدين، بالنسبة إلى الإنسان الجزائري، على تبايناته الفكرية والعرقية، طيلة مرحلة المسخ التي عاشها في ظلَ قوى وحشية، أحد أعمدته التي حافظت على كيانه. لقد قاوم الإنسان الجزائري مشاريع التخريب الجذري لذاكرته وروحه بعدة أشكال، ومنها الإبادة الجماعية لكل ما له علاقة بالوطن. غير أن ارتباطه بالمقدس سيظل، مهما اختلفت القراءات وتضاربت، أهم أشكال المقاومة التي جنبته فقدان الهوية والذوبان في الآخر.
يقول المؤلف تعليقا على النادرة: “والواقع أنه لا بد أن يكون المرء فظا حتى يستجيد اللعب بالقوانين المقدسة والتراهن عليها كما وقع في الرهان المذكور. وكان هذا الظلم الكبير هو كل ما ينسبه ابن الأمة العظمى إلى العرب، وقد كرههم من أجله...” (4)
وكتتمة للعينة التمثيلية السابقة، الدالة على الموقف الثابت من الجانب الديني الذي لا يمكن التنازل عنه خدمة لغرض دنيوي طارئ، يقدم الرحالة نموذجا آخر يصب في الدلالة نفسها: لقد أراد الطباخ الفرنسي تجريب مدى تمسك البدوي بتقاليده وطقوسه فدعا العربي إلى مطعم” ووضع أمامه لحم الخنزير المحمر دون مواربة، ووضع تحت الطبق قطعة نقدية من ذوات الخمسة فرنكات، وعده بإعطائه إياها، إن هو أكل لحم الخنزير أمام مراهنيه مكافأة له.
والظاهر أن البدوي الذكي انتظر شيئا من هذا النوع، فتزود في النهاية بقطعة من لحم البقر، أخفاها في قلنسوته... وعرف كيف يغير لحم الخنزير من فوق طبقه... وراح بعد ذلك يأكل لحم البقر...(وقال لهم): خذوا لحمكم المحمر الدنس، فهو نجس كأرواحكم ومقرف كأجسامكم.” (5)
ـــ يتبع ـــ
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 08/09/2013
مضاف من طرف : yasmine27
المصدر : http://www.djazairnews.info