الرحالة الألماني هاينريش فون مالتسان بالجزائر-2-
السندباد الألماني ــ الحلقة الثانية ــ
العلامات غير اللغوية:
العلامة غير اللغوية، كما العلامة اللغوية، لها شخصيتها وهويتها، وهي إذ تحضر نصيا، فلكي تؤدي وظيفة ما، سواء تم التصريح بها أم تم إضمارها لغايات وظيفية مخصوصة. وقد وردت في الرحلة عدة علامات غير لغوية ذات دلالة خاصة. إننا يمكن أن نستنتج من سياق السرد والوصف القيمة الاعتبارية التي تحتلها في التأثيث العام وفي إبراز قوتها أو وهنها. ثمة على سبيل التمثيل، ما يحيل على انهزام العلامة أمام ضغط الآخر وحضوره، ما يدل على انحسار المقاومة وهشاشتها أحيانا بسبب اعتبارات عديدة.
«إن وهران، عاصمة الولاية التي تحمل الاسم نفسه، يمكنها، بالنظر لطبيعة مبانيها، أن تكون في أوروبا، دون أن يلاحظ المرء أية غرابة عليها. فليس هناك في الجزائر كلها مدينة فقدت طابعها العربي مثلما فقدته مدينة وهران...” (6)
من الصعب الكشف عن مقاصد صاحب الرحلة من حيث إنه لم يصرح بذلك على مستوى التجليات اللفظية، بيد أن هذا التلميح الذكي له مغزى لا يمكن تجاهله. وإذا كانت الأشكال، في أغلب الأحيان، ليست حيادية لارتباطها الوثيق بالموضوعات والغايات والموروث والبنى المختلفة التي تسهم في تشكيل الذات وتثبيتها، فإن امتلاءها الدلالي يحيل على غرض ومعنى. لذا يمكن تأويل المتغيرات الشكلية كنوع من الاستلاب، أي كهزيمة للعلامة المحلية أمام الاكتساح الشامل للعلامات الغيرية التي لها جذورها ومقوماتها. أي العلامات ذات الشخصية المستقلة عن المحيط الذي هاجرت إليه، أو فرضت عليه لأهداف قد لا تكون حيادية دائما، ومن ثم سيكون ضياع الشكل بمثابة نوع من الفقدان، فقدان العلامة الخاصة وحمولتها.
بالمقابل، يقدم المؤلف سلسلة أخرى من العلامات التي بقيت محافظة على أصالتها وبيئتها، وهي عادة ما تتألف من أشكال العمران وأساليب الحياة اليومية التي تميز الأهالي عن الأوروبيين. وقد تغدو هذه الأجزاء مجتمعة بنية ثقافية مميزة، أو شكلا من أشكال مقاومة العلامات الوافدة من وراء البحر، سواء مع السياح أو مع المعمرين الذين يمتلكون أنظمة من العلامات التي تتعارض والخصوصية المحلية التي لها كيانها ودلالاتها.
«قضينا الليلة الأولى في طريقنا إلى معسكر في خيام قبيلة أولاد ميمون عند سيدي عبد الله، ونزلنا في خيمة الضيافة أيضا، إلا أنه كان علينا، وهو أمر لم أرتح له، أن ننام فوق الأرض التي كانت لحسن حظنا جافة، وذلك لعدم وجود سجادة أو حصيرة. وقدم لنا عشاء قليل يتكون من الكسرة واللبن. وجلس معنا قائد القبيلة، وهو شيخ بائس المظهر، يرتدي برنوسا وسخا..” (7)
يحيل الجانب المعجمي في هذه المقطوعة، كما في مقطوعات أخرى تؤثث المتن، على نمط معيشي شكلته حلقات تاريخية متباعدة زمانيا، وهو يعني، من جملة ما يعنيه، انفراد العلامة بشخصية تحيل آليا على محيط مخصوص له حضوره التاريخي والثقافي. وتؤكد المسميات والدوال: الخيام، قبيلة، أولاد ميمون، سيدي عبد الله، سجادة، حصيرة، الكسرة، اللبن، قائد القبيلة، برنس، على مقاومة حقيقية لمجموع أنظمة العلامات التي كانت تشكل وعيا مختلفا عن الوعي الزاحف بتقاليد أخرى من أجل الحلول محل الحاضر وذاكرة العلامات.
من المعروف أن لكل علامة مرجعيتها الخاصة بها، ولأن العلامات المذكورة لها إحالاتها وجذورها، فهي تشكل حصانة ضد المسخ والذوبان في الآخر، وقد تلعب دورا لا يقل أهمية عن دور المقاومة بمختلف الأسلحة، إن لم تتعداها في كثير من الحالات، كما أثبتت التجربة والوقائع. وقد كانت هذه البنى الصغرى، في تناغمها وتماسكها، أداة تمييزية فرضت حضورها كقوة في مواجهة التفسخ وفقدان الخصوصية، أي فقدان أجزاء أساسية من الذات.
إننا نعتبر تلك العلامات الساكنة، سيميائيا وتداوليا، أفعالا ذات ميزة تأثيرية غاية في القوة، وفي حال ضمورها، أو انمحائها كليا، ستفتح المجال لغزو يقضي على جزء من المعرفة والشخصية. إنها، من وجهة نظر أخرى، قوة مضمرة مؤهلة لحمل كفاءة قيمية من حيث امتلائها بعناصر ثقافية وتاريخية ودينية وتراثية. وقد يكون القضاء عليها أكثر صعوبة من القضاء على علامات أخرى أقل شأنا، وأقل امتلاء، رغم قيمتها المادية، ورغم حضورها العيني.
يقول هنريش فون مالتسان، تعليقا على هذا الجانب الذي قد لا نوليه أهمية في الحرب وفي التعامل اليومي: “لقد كان الفرنسيون يحتقرون الأهالي إلى أبعد الحدود، وهذا ما جعلهم لا يهتمون بدراسة عاداتهم وتقاليدهم أدنى اهتمام.. فعندما تكون للمرء قضية مع أناس، متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم إلى حد التعصب لها، مثلما هو الحال عند هذه القبائل، فإن على المرء أن يتذكر أن أي مساس بهذه التقاليد المقدسة قد يجعل من الصديق عدوا لدودا بالنسبة إليها، إلا أنه من العسير على الفرنسيين أن يهتموا بخصائص الشعب الذي يضطهدونه”. (8)
ما يعني أن دراسة هذه المنظومة العلاماتية، قد تفتح الطريق لمعرفة جزئياتها وتشكلاتها ودلالاتها وجوانبها الرمزية، ومن ثم البحث عن الطرائق الممكنة لفهمها والتعامل معها في حدود معينة من أجل الهيمنة الاستراتيجية. ويبدو للعيان، أن الرحالة الألماني انتبه إلى هذه المنظومة، لذا نبه إليها في عدة مقامات. لقد كان يرى أن من أخطاء الغزاة وعنجهيتهم عدم الفصل بين الأشياء، ومن ثم وقوعهم في مطبات كانت تؤدي إلى القتل في أغلب الأحيان، مثلما أشار إلى ذلك الكاتب في حديثه عن قتل العناية (المرابط) وانتقام أحد سكان بجاية بتصفيته جسديا لقناعته بأن الاعتداء على رجل الدين هو بمثابة اعتداء على كرامة الأهالي ومعناهم.
لقد كانت العلامة حاملة لأبعاد مركبة قد تدل على الشرف والسيادة والمرجع والهوية والذات والكرم والحصانة، وهي تمثل، حتى في الحالة السلبية أو الخرافية، عنصرا من العناصر التي يقوم عليها الكيان. وقد نجد نوعا من هذا المحو المبرمج في حديث الرحالة عن إحدى المدن التي بنيت خصيصا لفئة من المعمرين، وهي تبدو، من خلال المواصفات الخارجية، مكانا بديلا عن المرجعية المحلية، أي حيزا مستقلا، ومعتديا على الحيز العام الذي يميز الجزائري عن غيره.
«كانت مدينة سكيكدة مدينة مثالية، يتمنى مثلها مئات من الفرنسيين الرسميين في الجزائر، فهي مدينة فرنسية حديثة، فليس فيها بيت حضري ببواكيه الهوائية، ولا فناء عربي بأعمدته الجميلة، ولا أسواق ولا أروقة ذات طابع شرقي، ولا مسجد، ولا منارة، فالفاتحون لم يأخذوا أي شيء يدل على عبقرية الأهالي الخلاقة”. (9)
لقد سعى المستعمر، في فترات تاريخية، إلى إبادة كل العلامات الدالة على الهوية من أجل القضاء على السند الذي يعد سلاحا آخر، أي على مكوَنات الذاكرة الجمعية المشكلة من عناصر لغوية وغير لغوية. وكان العمران، شأنه شأن المكان والصورة والبنيان واللباس ولون البشرة وأثاث الكوخ ومسمياته، إحدى هذه المكوَنات التي أسهمت، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تقوية الحس بالانتماء إلى الأرض المسلوبة، وإلى شعب مختلف عن هذا الآخر على كافة الأصعدة، في اللباس واللون والعمران والطقوس، وفي أنظمة الإشارة.
وربما لعبت هذه العلامات، على تعددها وتلونها، وعلى عمقها وبساطتها، دورا أخطر من الدور الذي قامت به بعض السياسات والأيديولوجيات والثقافات في حقب معينة من تاريخ الجزائر. لم يكن المسجد، على سبيل التمثيل، شكلا أجوف لا وظيفة له. لقد كان، بصرف النظر عن الخطاب الذي يقدم فيه، دعامة حقيقية أسهمت في دعم التمايز، كما الأضرحة والأولياء والأساطير والأحاجي التي تشكلت مع الوقت وأصبحت جزءا من الذاكرة، ومتكأ للناس.
لا يمكن، بطبيعة الحال، إغفال الدور المهم الذي قامت به منظومة العلامات في مقاومة المستعمر الفرنسي. لقد كان للدين دوره المصيري، وكان للسياسة دورها الهام، كما كان للسلاح دوره. لكن العلامات قاومت بطريقتها، وكانت مؤسسة قائمة بذاتها، كما ظلت، خلال أزيد من قرن، مرجعا ساعد على النظر إلى الأحداث من زوايا أخرى لها أهميتها الاستثنائية، غير التي اعتمدتها مختلف المقاومات التي بنت على الخطاب اللغوي، أو على السلاح.
خاتمة: من المهم أن ينتبه التاريخ إلى هذا الجانب لأنه يستحق التفاتة أكاديمية تعيد له مكانته الحقيقية. لقد ظلت المؤسسة غير اللغوية، من المنظور السيميائي، شخصية جماعية مجردة قامت بدور أساسي في الحفاظ على الكيان الجزائري، إن لم تسهم في دعم الكفاح وتقويته بطريقتها الخاصة، كذاكرة ذات كفاءة عالية. ومن ذلك ما تعلق باللباس والشكل واللون والممارسات والنظام الغذائي والطقوس والأعياد والعمران. وإذا كان الرحالة الألماني هاينريش فون مالتسان، قد أدرك بعض الجوانب، وأشار إليها باقتضاب، فإن البحث في المقاومة ملزم بأن يأخذ في الحسبان هذه العناصر التي تبدو حيادية، رغم قيمتها التاريخية التي لا يمكن إنكارها. هناك علامات أكثر فتكا من السلاح والأيديولوجيات المكدسة في الكتب والأذهان، كتلك التي لا تقيم أية صلة بالمحيط الخارجي وخصوصياته، أو تلك التي تسعى إلى استيراد ذاكرة الآخر في سياق متعارض مع جوهر العلامات المحلية. ذلك لأن العلامات تنشأ وتكبر وتتجذر في المجتمع عبر الوقت. إنها شعب خافت، لكنه حاضر وفعَال ومحرَك، ولا يمكن القضاء عليه لأنه جوهر من الجواهر التي تشكل حصنا للأمة والذاكرة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 10/09/2013
مضاف من طرف : yasmine27
صاحب المقال : السعيد بوطاجين
المصدر : http://www.djazairnews.info