أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني
حياته وأثاره
مساهمة بقلم الأستاذ/ الحسين يختار
مهتم بالتراث الإسلامي....مستغانم
مقال منشور بجريدة صوت الغرب جويلية 2013
أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني شخصية إسلامية فذة اجتمع له من الخصال العلمية والأدبية والسلوكية ما جعله يحظى بالتقدير والإحترام الكبيرين
اهتم بحياة العقباني وترجم له كبار أصحاب السير والمترجمين أمثال ابن فرحون وأحمد بابا التنبكتي وابن مخلوف في شجرة النور والمقري في رياض الأزهار وعلم الدين السخاوي في الضوء اللامع وغيرهم، ونوه كل واحد من هؤلاء على سعة علمه وكرم أخلاقه
ولد ابو الفضل قاسم بن سعيد العقباني بتلمسان، وبها نشأ وترعرع ولم تنص أي من المصادر التي تعرضت لترجمته عن تاريخ ولادته، إلا أن علم الدين السخاوي حاول كسر هذا الصمت المضروب فصرح في ضوئه اللامع بأن ولادته كانت سنة ثمان وستين وسبعمائة 768 هـ"
حظي العقباني بنشاة في أسرة مليئة بالعلم والعلماء، فلم يجد كبير عناء في الوصول إليه ،فكوكبة العلماء التي زاحمت بيت العقبانيين أغنته عن الترحال في طلب العلم ، وكانت أسرته أول محطاته العلمية التي تدرب وارتاض بها .
ويجمع مترجموه على أن والده أبو عثمان أول وأشهر شيوخه وأكثرهم ملازمة لمجالسه، ثم شمس الدين أبوعبد الله محمد بن مرزوق الرحالة المتصوف الشهير بالخطيب الذي أخذ عنه مبادىء التصوف وقواعده بمدرسة العباد"
رزق العقباني شغف العلم وتعلق به وهو حدث صغير ، ونشأ محباله و" قطع فيه صدر العمر "و ساهمت رحلاته ـ الإضطرارية ـ التي رافق فيها والده لما شغل مناصب القضاء في كبرى الحواضر العلمية في صقل مواهبه وتهذيب مداركه ،كما كانت رحلة الحج التي قادته سنة 830 هـ إلى البقاع المقدسة لأداء مناسك الحج فرصته الأخرى التي التقي فيها بأكابرالعلما ء واستفاد منهم .
ويذكر البلوي في ثبته أن ممن لقيهم في هذه الرحلة بمكة المكرمة العلامة الشريف أبو الطيب محمد بن أحمد الحسني الفاسي المكي المالكي قاضي قضاة المالكية بمكة المشرفة " أخذ عنه حديث الرحمة سماعا من لفظه بشرطه وأحاديث غيره وأجازه في ذلك وفي كل ماله فيه حق الرواية وكتب له خطه "ولدى عودته من الحج توقف بمصر في ذي القعدة من نفس العام وحضر "مجالس الحافظ ابن حجر العسقلاني الحديثية واستجازه كما حضر أيضا مجالس البساطي ودرس عليه
تولى القضاء بتلمسان لنحو أربعين سنة وعدل فيه مثل أبيه ،ولما اكتملت مواهبه ونمت مداركه انبرى لتدريس العلوم النقلية والعقلية التي تلقاها عن والده ومشايخه في المدارس الملحقة بالمساجد، فشرح ابن الحاجب والمنطق والفرائض والحساب علاوة على فقه المذهب الذي وبرع فيه واتقنه سيما المستفاد من مختصرات خليل و القيرواني على المدونة
تصدى للإجابة عن الفتاوى التي كانت ترد عليه والنوازل التي وقعت بتلمسان وبجاية ومازونة خلال عصره فأحسن وأجاد وفاق أقرانه حتى وصفه ابن مخلوف بـ:"الفقيه الإمام شيخ الإسلام ومفتي الأنام الرحلة أحد الشيوخ المحققين الفضلاء الأعلام الحافظ المجتهد أحد الجهابذة النقاد " وكانت له اختيارات خارجه عن المذهب ولم يعاتب عليها لبلوغه رتبة الإجتهاد.
تزاحم على على مجالس قاسم بن سعيد خلق كثير وتتلمذ على يديه كبار الأئمة والفضلاء الذين وفدوا عليه من مختلف الأصقاع فضلا عن أبنائه وأحفاده الذين ذكرنا :"فأفاد الأفذاذ وأمتع الجهابذة والنقاد وأسمع الأسماع ما اشتهى كل منها وأراد "
فممن درس عليه العلامة محمدابن مرزوق الحفيد ونصر الزواوي (ابراهيم المصمودي) ومحمد بن العباس ويحي المازني- صاحب الجواهر المكنونة والحافظ أبو الحسن التنسي و أبو العباس أحمد بن يحي الونشريسي الذي نقل جل فتاويه في المعيار ،ولم تكن الصفات التي نعته بها تلميذه أبو الحسن القلصادي كسعة علمه وبراعته ورسوخه فيه وحدها التي عجلت بإقبال الطلاب والعلماء على دروسه والإنكباب على مجالسه إذ كان مع ماذكر "ذو أبهة وحبوة مملوءة من علم خالية من ازدهاء" .
وكان لتواضعه الذي عرف به أثره على خط الفتوى الذي رسمه لنفسه وأوصى به غيره المتمثل في الإلتزام بالمشهور من المذهب واجتناب الشاذ من الفتوى .
ومما حفظ عنه في هذا الشأن قوله:"لاينبغي لمفت أن يفتي فيما علم المشهور فيه إلا بالمشهور " واتخذ من الإمام المازري قدوة له وضرب به المثل معنفا عمن خالف هذا الطريق " وإذا كان المازري وهو في طبقة الإجتهاد لايخرج عن الفتوى بالمشهور ولايرضى حمل الناس على خلافه فكيف يصح لمن يقصر عن تلامذته أن يحمل الناس على الشاذ ، هذا لاينبغي "
تحقق لقاسم بن سعيد العقباني شهرة فائقة في العلم والرياسة والقضاء وقدم راسخة في العلم والفقه والنظر قلما تتحقق لغيره ،وستظل فتاويه ومواقفه المخلدة في مصادر النوازل أصدق دليل على ذلك .
ومما يدل على علو كعبه ومنزلته العلمية الرفيعة أنه ظل مقصد الفتاوى التي كانت ترد عليه من مختلف الجهات، والتي لم تكن محصورة في الأبواب الفقهية المعهودة من عبادات ومعاملات ونحوها فحسب بل تجاوزت ذلك لتتناول كبرى قضايا الأمة التي شغلت بها العامة والخاصة .
وكانت قضية يهود توات التي لم يبد فيها الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي موقفه المعروف إلا بعد أن استرشد برأي العقباني، واحدة من هذه القضايا التي كان رد العقباني فيها حازما ومرصعا بالدعاء عليهم:"أخمد الله ظهورهم وأعز الإسلام بذلتهم وصغارهم"
وكان أبو عمران يحي المازوني - وهو من أقرانه في الفقه والقضاء - قد بعث إليه يستفتيه قبل أن يقضي في البيت المحبس الذي أشرف على الإنهيار وباعه محسن واشترى بعوضه مدرسة ألحقها بإحدى جوامع مازونة "وكذلك الأمر بالنسبة لقضية السور الذي تهدم بمازونة وبه مجموعة من الأهالي يشتركون في الإحتماء به"
ولما اختلف فقيها بجاية أبو عبد الله المشدالي وأبو العباس ابن الشاط في وصية وتركة التاجر الكبير أبو الحسن بن الجرنيط البجائي سنة845 رفعا هذه المسألة إلى عالم تلمسان ومفتيها أبو الفضل العقباني وخاطباه بالقول:"حمى الله ساحتكم من الغير ، ومحاسنكم السليمة الكدر ، وخصكم من التحيات بأطيبها نشرا ، وأطلقها بشرا ،المرغوب من كمالكم أن تسهمنا بجمل من كلامكم العذب الزلال، الحلو الحلال ، السائغ السلسال ، على ماتضمنته الأوراق المكتتبة بعد هذه هل هو صحيح يجب الرجوع إليه ، أو باطل يحرم العمل عليه؟"
ومع أن العقباني ينتمي إلى تيار التصوف السني الرقيق، إلا أن أجوبته اتسمت بالشدة والصلابة عندما يتعلق الأمر بشيوع المنكر أو ذيوعه في الأعراف الإجتماعية ،فقد انتقد الخبازين والجزارين و التجار بتلمسان دون هوادة لما لاحظ طغيان الغش والتطفيف في البيوع
ولما جاءه خبر اليهودي الساحر الذي كان يسب المسلمين بقلعة هوارة - بجبل بني راشد - عام 849 هـ ويدعى أن"لا أصل لهم ولاحسب ولا نسب " ويمشي بينهم مشية المتكبرين المتجبرين قضى العقباني في حقه بـ:"الضرب الوجيع والسجن الطويل في القيد" بعد أن وصفه بـ"الشرير الخبيث في جنس المغضوب عليهم"
ولإخلاص العقباني في الإنكار على البدع والمنكرات انتقلت هذه المواقف الصارمة إلى سيرة أحفاده وطبعت فتاويهم وتواليفهم حتى صنف حفيده ابو عبدالله محمد بن أحمد العقباني كتابا نفيسا جمع فيه الفتاوى الرادعة للمنكرات السائدة بإقليم المجتمع الزياني وخارجه
والمتتبع لأجوبة وفتاوي العقباني يلحظ مدى عمق استنباطاته وبعد النظرات الفقهية الثاقبة التي تدل بصدق على رسوخه في العلم وشموخه في الحكمة والنظر في نصوص الشرع ومقاصده ،فلما بلغه خبر الرجل الصالح الذي لزم موطن الفساد والحرابة من أجل دفع الأذى عن أهل الإيمان وعن المسافرين أعجب به العقباني غاية الإعجاب فأفتى:"وما أعظم المثوبة في ذلك وماهذا إلاجهاد عظيم ، وشرف دائم " معللا رأيه هذا ومخاطبا إياه بالقول:"فإقامتك بهذا المكان على رغم أهل الفساد سداد ورشاد ،وإن شق عليك فذلك أرفع للعمل الصالح،لأنه يصير لوجه مولاك لا لغرض يحصل لك "
ولما زار القلصادي في المرة الثانية تلمسان وجده قد خلف الشيخ عبد الرحمان ابن زاغو في منصب التعليم والكرسي الذي كان يدرس به في المدرسة اليعقوبية بتلمسان "
ولأجل ماتقدم، أكثر تلامذته ومعاصروه من إطرائه والثناء عليه ، وكان تلميذه أبو الحسن القلصادي أكثر المادحين له المعجبين بسيرته وأخلاقه كما كرر أبو العباس الونشريسي من الثناء عليه في مواضع متعددة من معياره
فمما جاء عنه:" الشيخ الفقيه الإمام العالم الصدر الأوحد المفتي المدرس المحقق الحجة"وقال أيضا:" شيخنا وبركتنا"ووصفه يحي المازني في أول نوازله :شيخنا شيخ الإسلام علم الأعلام العارف بالقواعد والمباني " و من وصف الحافظ التنسي له :"شيخنا الإمام العلامة وحيد دهره وفريد عصره " ومماوصفه به محمد بن العباس التلمساني:"شيخنا مفتي الأمة علامة المحققين وصدر الأفاضل المبرزين أخر الأئمة "
ولما حضر أبو الحسن القلصادي مجلسه بالمدرسة اليعقوبية قال:ًٍ شيخنا وبركتنا الإمام الفقيه المعمر ملحق الأصاغر بالأكابر العديم النظراء والأقران المرتقي درجة الإجتهاد بالدليل والبرهان "
وسار مترجمو أبي الفضل العقباني على النحو الذي جاء من تلامذته ومعاصريه في المدح والثناء علي سيرته
وخصه أحمد بابا التنبكتي السوداني بترجمة وافية حيث يقول :" التلمساني الإمام أبو الفضل وأبو القاسم شيخ الإسلام ومفتي الأنام الفرد العلامة الحافظ القدوة العارف المجتهد المعمر ملحق الأحفاد بالأجداد القدوة الرحلة الحاج أخذ عن والده الإمام أبي عثمان وغيره وحصل العلوم حتى وصل درجة الإجتهاد ""
ونعته ابن مريم بـ: "خاتمة قضاة العدل بتلمسان " كما ترجم له :"شيخ الإسلام ومفتي الأنام الفرد الحافظ القدوة العلامة المجتهد العارف المعمر ملحق الأحفاد بالأجداد القدوة الرحلة الحاج "
توفي أبو الفضل العقباني في ذي القعدة من عام أربع وخمسين وثمانمائة854 هـ بعد رحلة من العمر دامت 86 سنةكانت كلها حافلة بالعلم والقضاء والفتوى والورع والزهادة ، تاركا وراءه ثلة من العلماء لايحصون كثرة ممن قرأوا عليه وارتحلوا إليه، ومنهم "الإمام ابن العباس التلمساني وأبو البركات النائلي وولده القاضي ابو سالم العقباني وحفيده القاضي العلامة محمد بن أحمد وأبو زكريا المازوني والونشريسي واكثرا من النقل عنه في نوازلهما والعلامة ابن زكري والشيخ العالم محمد بن محمد بن مرزوق الكفيف "
إلى جانب ذلك خلف العقباني إنتاجا علميا وفكريا هائلا ظهر من مؤلفاته التي ماتزال تنتظر الطبع والتحقيق التي منها أرجوزته في فن التصوف ، ومصنف في أصول الدين ، وشرحه على قصيدة البردة، وكتاب في الفرائض، وشروح على خليل والمدونة مع حاشية التعليق، بالإضافة إلى أجوبته الكثيرة المبثوثة في كتب النوازل
وحضر جنازته سلطان تلمسان نفسه،وصلى عليه مع جمع غفير من المشيعين والمحبين الوافدين من داخل تلمسان وخارجها "ودفن إلى جوار ضريح رصيفه ابن مرزوق بالجامع الأعظم بتلمسان"
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 11/12/2014
مضاف من طرف : aziz27
صاحب المقال : الأستاذ الحسين يختار