آثار اللغة البونية في اللهجة الجزائرية
إن مسألة تناول اللهجات واللغات القديمة مسألة لا تقل أهمية عن مثيلاتها من الدراسات الأخرى، فمن الممكن أن نلتمس في اللغات السامية التي عاشت في الجزيرة العربية وخارجها واللغات الحامية والتي عاشت في شمال إفريقيا بعض الظواهر اللغوية الموجودة في اللهجات العربية الحديثة التي انحدرت من هذه اللغات، إذ أن " الدراسة التاريخية المقارنة تحتم على الباحث ألاّ يغفل بحال من الأحوال أهمية هذه اللغات واللهجات جميعا في سبيل التعرف على مصادر الظواهر اللغوية الحديثة ومكــوناتـها الأولى" ( عبد المجيد عابدين، من أصول اللهجات العربية في السودان).
أدّى الموقع الجغرافي للجزائر -بشكل خاص والمغرب العربي بشكل عام- الذي كان مناسبا لدخول شعوب مختلفة عليه إلى اتصال سكانه بعدة شعوب وبالتالي بلغاتهم، وكان أول من اتصل به هم الفينيقيون ثم الإغريق ومن بعدهم الرومان. ومع مجيء الإسلام وظهور الفتوحات الإسلامية في بداية القرن السابع الميلادي، انتشرت اللغة العربية انتشارا واسعا في شمال إفريقيا فتعرب الأمازيغ في وقت قياسي، فأصبحوا يُتقنون العربية مع احتفاظهم بلغتهم الأصل.
ويرى بعض الباحثين أن سبب تعرب سكان شمال إفريقيا بسرعة كان مردّه إلى أن هؤلاء السكان كانوا على اتّصال وثيق بالفينيقيين الذين أتَوا من المشرق العربي وأسّسوا مدينة قرطاجة، وطالت مدة تواجدهم مع هذا الشعب وعاشوا معه متأثرين ومؤثرين في مختلف مجالات الحياة. والمهم في هذا الصّدد هو التأثير اللّغوي الذي مسّ لغة المغاربة، إذ أنّ اللغة التي كان يتكلم بها فينيقيو شمال إفريقيا تعرف بالبونية وهي لُغيَّة منحدرة من الفينيقية التي هي أخت اللغة العربية لأنها من الأرومة السامية.
وكانت اللغة البونية تروق البربر وتعجبهم[1]، فأقبلوا على تعلمها لتسهيل الاتصال بالقرطاجيين وأخذوا عنهم أسباب الحضارة في الزراعة والصناعة والملاحة والتجارة، إلى آخره. ويقول محمد علي دبوز إن البونية "انتشرت انتشارا واسعا في كل أنحاء المغرب، وأتقنها الرجال والنساء من البربر، ونشأت ناشئتهم وهي تتكلم لغتين وتحسنهما، البربرية، والبونية".[2]
وفي هذا الصدد تؤكد النقوش المؤرخة بعد سنة 146 ق.م والتي عُثر عليها في التراب الجزائري، خاصة في الجزء الشرقي بأن "اللغة الرسمية في المملكة النوميدية والموريطانية حتى ما بعد تهديم قرطاجة كانت هي البونية".[3] فبها كانت تكتب الصيغ النذرية للآلهة والشواهد القبرية والنصوص الإدارية والعملات في كامل الشمال الإفريقي.[4]
واستنادا على هذه الأدلة يُستنتج بأن اللغة البونية حقا عمرت طويلا في شمال إفريقيا سواء في الأوساط الحاكمة أو بين سكان الحواضر،[5] فقد أكد القدّيس أوغستين الذي عاش بعد تهديم قرطاجة بخمسمائة سنة "بأن سكان البادية المحايدة لمدينة عنابة هيبون (Hippone) القديمة كانوا لا يزالون حتى وقته يتكلمون البونية".[6]
بينما ذهب بعض المؤرخين أمثال روني باسيه (R. Basset) وغوتيه (Gantier) ومحررو موسوعة يونيفارساليس إلى القول بأن اللغة البونية ظلت منتشرة بين البربر يتكلمون ويكتبون بها إلى أن جاءت اللغة العربية فحلت محلها.[7]
يقول باسيه (R. Basset): "إن اللغة البونية لم تختف من المغرب إلا بعد دخول العرب... إن المناطق التي انتشرت فيها البونية أكثر هي التي تعربت بالكامل. والبونية لغة قريبة من العربية التي ما إن دخلت المغرب حتى خلفت البونية وبسهولة".[8]
إذن اللغة الأمازيغية -لغة سكان شمال إفريقيا- حتما قد تأثرت بالبونية وأدخلت فيها كلمات جديدة وربما تغيرت صيغة جملها وعباراتها وطبعت بالصبغة السامية فلما جاء العرب الفاتحين إلى هذه البلاد كانت بعض الصور اللغوية المشتركة فيما بين اللغات السامية موجودة والتي سهلت تعرب سكان شمال إفريقيا.
ومن هذا المنطلق يمكن القول أنه من الممكن أنّ ما يسود بلادنا من ظواهر لهجية مختلفة ومتباينة قد تكون لها صلة باللغة البونية التي كان يستعملها معظم الأمازيغ في مجال الحكم والتجارة وحتى في المجال اليومي على حد تأكيد "رونيه باسيه (R. Basset) في قوله: "إنّ اللغة البونية لم تختف من المغرب إلا بعد دخول العرب." ومعنى هذا أن هذه اللغة بقيت قائمة هذه المدة بالمغرب لتسعة عشر قرنا. إذن من المحتمل أن بعض الأشكال اللغوية لهذه اللغة لا تزال موجودة في اللهجة الجزائرية.
وبناءا على هذه الفرضية قمنا بمحاولة إيجاد آثار لغوية للغة البونية في اللهجة الجزائرية. ومن بين النتائج التي توصلنا إليهاعلى المستوى الصرفي لكل من اللغة البونية واللهجة الجزائرية هو وجود وزنين مشترَكَين بينهما؛ أولهما وزن ’نْفْعَلْ’ الذي يدل في اللهجة الجزائرية ليس على المطاوعة فحسب ولكن على المبني للمجهول بصورة أخص وهو عكس العربية التي تبني الفعل الثلاثي للمجهول بضم أوله وكسر ثانيه، فتقول "كُسِر" و"سُرِق"[9] وفي اللهجة يقال نْكْسَرْ ونْسْرَقْ ونْكْتَبْ ونْفْتَحْ.
ومثال ’نفعل’ في البونية ما يلي: /nktb/ أي كُتِبَ، /ngzl/ بمعنى احْتُضِرَ أو سُلِبَ، /nʕnsh/ بمعنى نَعُمَ أي صار ناعما.[10] وثانيهما وزن ’شَفْعَلْ’ وهي صيغة غير موجودة في العربية- يدل في اللهجة على استمرار الحركة مثل شقلب أو شخلط، وهو قليل الاستعمال.
وأما "شفَعل"في البونية فلم يُعرف مدلوله لأنه لم يُعثر على كلمات كثيرة يُستدلّ بها، ويقابله وزن ’أفعل’ في العربية، ومثاله في البونية /ṡhmkr/ من الجذر /mkr/ بمعنى يمكر أو يخون.[11]
وعليه يُرجّح أن يكون هذان الوزنان ’نْفْعَلْ’ و’شَفْعَلْ’ من بقايا اللغة البونية في اللهجة الجزائرية.
وأما على المستوى المعجمي فقد استخلصنا مجموعة من الألفاظ البونية التي لا تزال موجودة ومستعملة في اللهجة الجزائرية ومن بين هذه الألفاظ ما يلي:
بَقَّـشْ/bqsh/: بمعنى "يبحث" وهي كلمة بونية الأصل لا تزال تستعمل في اللهجة بالمعنى نفسه.
بِيتْ/bt/: هذا اللفظ موجود في العربية ولكن له مدلول آخر في البونية غير معنى "المنزل"، فهو يقصد به غرفة أو مخدع أو حجرة. وأما في اللهجة الجزائرية فيقصد بلفظ "بيت" الغرفة تماما كالبونية. ولكي لا يلتبس عليهم معنى المنزل والغرفة فيفرّق بينهما باستعمال كلمة "دار" التي يقصدون بها المنزل.
دار/dr/: زيادة على معناه كما في الفصحى أي"منزل" تستعمل اللهجة هذا اللفظ بمعنى"عائلة" فيقال:"دار فلان" أي"عائلة فلان" وذلك كاستعماله في البونية. ففي هذه اللغة "دار" تعنى"عائلة" فقط، ولا يقصد بها منزل كما في العربية.
زريعة/zrʕ/: معناها في اللهجة البدور والذرية، فيقال: "زرّيعة فلان" أي "ذرية فلان". وفي البونية يقصد بها " الذرية" فقط.
حليب/lbḥ/: بمعنى اللبن في الفصحى، ولكن اللهجة الجزائرية لا تتفق مع الفصحى في استعمال هذا اللفظ "اللبن" وتتفق مع البونية في استعمال لفظ "حليب". وأما كلمة ’لبن’ في البونية فمعناها اللون الأبيض؛ يقول عبابنة: ولما « كان لون اللبن هو أبيض فقد أطلق عليه، وهو من قبيل انتقال الدلالة.»[12]
حقرة/qrḥ/: وتعني الاحتقار. لا توجد هذه اللفظة في القاموس الذي وضعه دارسو اللغة البونية ولكن توجد في جملة كـ̛تِبت على رخامة عُثر عليها في البرازيل تحمل تاريخ 125 ق.م. والجملة هي كالتالي: "هنا أحنا بني كنعان فرنم حقرة حمل" ويمكن قلبها إلى عامية الشمال الإفريقي فيقال:" هنا احنا بني كنعان من فرانم حْمَلْنا الحُڤـْرَة." ومعناها بالفصحى: " هنا نحن بني كنعان من فرانم (اسم مدينة) تحمّلنا الاحتقار."[13] والظاهر أن هذه الكلمة لا تزال تستعمل في اللهجة الجزائرية بالصيغة الفينيقية نفسها.
عاد/ʕd/: قال الجوهري: وعاد إليه يَعُودُ عَوْدَةً: رجع. وعادَ فعلٌ بمنزلة صار.[14] لهذا اللفظ في اللهجة عدة استعمالات يقال في أمثالهم:"ابْنَكْ اِدَا عَادْ صبَّاطَكْ(حِداؤُك) قَدْ صَبّاطُو، بالَكْ من خْلاطُو." فهنا ’عاد’ بمعنى صَارَ وأَصْبَحَ، وهذا كما في الفصحى.
وأما قولهم: "عاد ما كَمَّلْشْ" التي يقابلها في العربية" لم ينتهي بَعْدُ" فمعنى ’عاد’ هنا "بَعْدُ" وبالإنجليزية /yet/ وبالفرنسية (encore). ففي الفصحى تأتي "بَعْدُ" في آخر الكلمة وأما في اللهجة الجزائرية فلا يستعمل هذا اللفظ البتة في هذا السياق، بل يـ̛ستبدل بلفظ "عَادْ" ويكون في أول الكلمة وأصل هذه الكلمة فينيقي.
طرشي/trsh/: فلفل حار مصبّر في الخل، والظاهر أنه مأخوذ من كلمة/trsh/ البونية التي تعني الخمر الذي يستخرج منه الخل.[15]
خاتمة
البحث في هذا المجال لا يزال يحتاج إلى بحوث ودراسات معمقة وواسعة. وهذا حاليا ما استطعت إيجاده من ألفاظ بونية مستعملة في اللهجة الجزائرية، فمنها ما بقي محافظا على أصواته ومعناه مثل " بقش" و"حليب" و"عاد"، ومنها ما تغّير لفظه ومعناه بعض الشيء.
= = = = =
المراجع:
=1= سعدي، عثمان. الأمازيغ "البربر" عرب عاربة. د.ط، 1996.
=2= دبوز، محمد علي. تاريخ المغرب الكبير ج1. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط1، 1984.
=3= ظاظا، حسن. كلام العرب من قضايا اللغة العربية. دار النهضة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، 1976.
=4= ابن منظور الإفريقي المصري. لسان العرب. دار صادر للطباعة والنشر، بيروت-لبنان، ط3، 2004.
=5= عبابنة، يحي. اللغة الكنعانية، دراسة صوتية صرفية دلالية مقارنة في ضوء اللغات السامية. مكتبة مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان-الأردن، ط1، 2003.
=6= غانم، محمد الصغير. المملكة النوميدية والحضارة البونية. دار الهدى، عين مليلة-الجزائر، د.ط، 2006.
=7= Substrat Phénico-Punique Dans le Parler Algérien ".Taleb Mohammed Nour-Eddine. Dans Langues et Didactique Νº3. Laboratoire de Langues, Littérature et Civilisation/Histoire en Afrique. Université d’Oran. Edition Dar El-Gharb.2007. p35-68.
=8= http://islamport.com/d/3/amm/1/255/3271.htm
الهوامش
[1] تاريخ المغرب الكبير، ج1، ص149.
[2] نفسه.
[3] المملكة النوميدية والحضارة البونية، ص 110.
[4] نفسه.
[5] نفسه.
[6] (Ch. Soumagne « La survivance Punique du V et VI siècle » Karthago. Tome 04.1953. pp.169- 178); نقلا عن المملكة النوميدية والحضارة البونية، ص 110.
[7] الأمازيغ عرب عارية، ص 15- 18.
[8] (R.Passet :«Les Influences Puniques Chez les Berbères »Revue African .V62.(1921) p. 340); نقلا عن الأمازيغ عرب عاربة، ص 16،15.
[9] كلام العرب من قضايا اللغة العربية، ص 168.
[10] نفسه، ص 229.
[11] نفسه، ص 229.
[12] اللغة الكنعانية، ص 365.
[13] http://islamport.com/d/3/amm/1/255/3271.html
[14] لسان العرب، م10، مادة /عود/ ص328،327.
[15] "Substrat Phénico-Punique Dans le Parler Algérien ".Taleb Mohammed Nour-Eddine. Dans Langues et Didactique Νº3. Laboratoire de Langues, Littérature et Civilisation/Histoire en Afrique. Université d’Oran. Edition Dar El-Gharb.2007.p64.
- See more at: http://www.oudnad.net/spip.php?article509#sthash.VZ4Ox35U.dpuf
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 19/08/2013
مضاف من طرف : yasmine27
صاحب المقال : زليخة بلعباس
المصدر : http://www.oudnad.net/spip.php?article509