سنعمل في هذه الدراسة على تجلية أهم خصائص ظاهرة تلمسان اللسانية، التي تنفرد بها مدينة تلمسان عن غيرها من اللهجات الجزائرية الأخرى. ولتحقيق هذه البغية، سنبدأ بوصف التركيبة الاجتماعية لأهل المدينة من حيث الأجناس، بوصفها عاملا يكتسي أهمية قصوى في خلق ظاهرة لسانية جديدة بالمدينة.
وسنحاول بعد ذلك التوغل في المجتمع التلمساني، ارتكازا على دراسة ميدانية تسهل فهم خصائص هذه الظاهرة اللسانية الحديثة العهد. وسننظر بعد ذلك في الإطار الذي ينضوي تحته تصنيف هذه الظاهرة.
وسنخصص المرحلة الأخيرة من هذا البحث، لمناقشة الحقيقة اللغوية بالمدينة، استنادا إلى بيان المدى الذي وصل إليه تأثير اللغة الفرنسية على المنطوق التلمساني، والإنجازات التي حققتها سياسة التعريب في سبيل فض الإشكالية التي تطرحها هذه الأزمة.
1-التركيبة السسيولوجية لمدينة تلمسان من حيث الأجناس:
سنتطرق في هذا المقام إلى التركيبة الاجتماعية لأهل مدينة تلمسان من حيث الأجناس، حتى يتسنى للقارئ فهم الأسباب التي تقف وراء التغيرات الفونولوجية للمنطوق التلمساني الجديد.
يتحدد انتماء أهل مدينة تلمسان عبر ثلاثة عناصر، وهي:
*العنصر البربري.
*العنصر العربي.
*العنصر التركي.
أ*العنصر البربري:
لقد سكنت المغرب الكبير منذ أقدم العصور أجناس بربرية كثيرة، من بينها زناتة التي استوطنت المغرب الأوسط. "وأطلق اسم زناتة على السهل الواقع في الشمال الغربي من تلمسان، كما أن هذه المدينة أسسها في العصور القديمة بنو يفرن الذين ما هم سوى فرقة من زناتة. وتعد زواغة ونفرة وجراوة، من جملة الفرق التي سكنت تلمسان وضواحيها".
استوطن بعدها بنو عبد الواد الزيانيون المنطقة وجعلوا منها عاصمة المغرب الأوسط أثناء القرن السابع والثامن والتاسع للهجرة (الثالث عشر والخامس عشر للميلاد)
بعد نزوج الأعراب إلى المغرب، تعرب بربر زناتة واختلطوا بالعرب، فتركوا لغتهم وصاروا يتكلمون لغة العرب، غير أنها بقيت ممزوجة بألفاظ وعبارات زناتية، إلى يومنا هذا.
ويقول بن خلدون في وصفه لزناتة:" أخدون بشعار العرب وسكنى الخيام واتخاذ الإبل وركوب الخيل والتقلب في الأرض وإيلاف الرحلتين وتخطف الناس من العمران والإبل...". بقيت هذه الأوصاف حكرا على أهل البادية، أما الذين سكنوا المدن، فصقلت طباعهم وتحضروا، وهذبت أخلاقهم، وبالتالي أصبحوا كغيرهم من سكان المدينة.
ولا تزال إلى يومنا هذا عدة قبائل زناتية تقطن الجبال الواقعة في نواحي تلمسان الغربية والشمالية كبني سنةس، ومسيردة، وأهل جبل فلاوسن المشرف على مدينة ندرومة وما جاورها من جبال السواحلية وترارة وبني وارسوس وولهاصة. والكثير من هؤلاء القبائل انتقلوا إلى مدينة تلمسان واستوطنوها واندمجوا مع أهلها اندماجا كليا بعد أن تحضروا وباشروا نفس الأعمال التي يباشرها غيرهم من سكان البلد".
ب*العنصر العربي:
لقد تم فتح تلمسان على يد العرب صحبة عقبة بن نافع وأبي المهاجر، أثناء القرن الأول للهجرة (السابع للميلاد).
لم يستوطن العرب الفاتحون المنطقة، في بداية الأمر، بل واصلوا من خلالها فتوحاتهم بالمغرب الأقصى والأندلس، لكنهم تركوا بها أفرادا قلائل أسندت إليهم مهمة تعليم الناس أمور دينهم.
في أواسط القرن الخامس الهجري (أواسط القرن الحادي عشر للميلاد)، بدأ بنو هلال وأحلافهم غزواتهم على تلمسان ونواحيها، فاستوطنوا نواحيها الشرقية والجنوبية بأعداد كبيرة، من جملة قبائلهم: بنو وعزان، وأولاد سيدي العبدلي، وأولاد الميمون، وبنو غزلي، وبنو ورنيد، وبنو هديل، وغيرها من القبائل المعروفة في المنطقة إلى يمنا هذا.
لقد شرع الكثير من أفراد هذه القبائل العربية بالتروح إلى المدينة، وبالتالي اختلطوا اختلاطا كليا بأهلها عن طريق المصاهرة، كما فعلت القبائل الزناتية من قبل. وبمرور الوقت، تحضر أولئك الأعراب وصاروا شيئا فشيئا من أهل المدينة حتى استقروا كليا.
إضافة إلى هؤلاء الأعراب المتحضرين، نجد عنصر المهاجرين الأندلسيين الذين شردوا من ديارهم في أواخر القرن التاسع وطيلة القرن العاشر للهجرة (أواخر القرن الخامس عشر، وطيلة القرن السادس عشر للميلاد) والتجؤوا إلى تلمسان بعد عبورهم البحر وتعرضهم للأخطار ومقاساتهم المشاق.
عرف الأندلسيون بحضارتهم العريقة وتفوقهم في شتى العلوم والفنون والحرف التي بلغت ذروتها آن ذاك، لذا كان لجوؤهم لتلمسان نعمة كبيرة على أهلها، إذ نشروا حضارتهم، فازدادت بذلك تلمسان في التقدم والرقي في جميع الميادين، حتى صارت تضاهي أعظم العواصم العربية الإسلامية. أما الموسيقى الأندلسية الغرناطية التي اشتهرت بها تلمسان في الماضي والحاضر، فترجع إلى هذا العهد، أي أثناء هجرة أهل الأندلس إلى المنطقة .
جـ- العنصر التركي:
في الوقت الذي استولى فيه الأتراك العثمانيون على مدينة الجزائر أثناء القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، كانت دولة بني زيان في تلمسان على وشك الانهيار، فبلغ بها الضعف إلى أن صارت تحتمي تارة بالأسبان المسيحيين النازلين بوهران والمرسى الكبير، وتارة أخرى يلجئون للأتراك النازلين بالجزائر، وبقيت بين هذا وذاك إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة، واستولى الأتراك نهائيا على عاصمة تلمسان، وتركوا بها حامية كبيرة وقوية من الجنود.
بمرور الوقت، طابت للجنود الانكشاريين الإقامة بتلمسان، فنزحوا بنساء عربيات أو بربريات مستعربات فنجم عن ذلك التناكح نسل جديد دعي بالقراغلة، والمفرد قرغلي، وقد تقلب القاف كافا والراء لاما، ومعناه في اللغة التركية، ابن الجندي المملوك، لأن الجنود كانوا يعتبرون مماليك للسلطان العثماني"
إن تعدد الأجناس بمدينة تلمسان، الذي سبق لنا شرحه، إضافة إلى خلقه ظاهرة لسانية جديدة، سوف نتطرق إليها لاحقا، وضعية اجتماعية فريدة من نوعها بالمنطقة، حيث أصبح التمييز العنصري والقبلي يغلب على عقول الأغلبية الساحقة لأهل المدينة. فهناك طبقة اجتماعية تعتبر نفسها أرقى الطبقات كونها من سلالة أنبل، حسب اعتقادهم، وهي سلالة القراغلة الذين يعتبرون أنفسهم الأهل الأصليين لمدينة تلمسان، والباقي ما هم سوى أعراب أتوا من هنا وهناك. كما أن هناك عائلات تعد أيضا من أهل المدينة.
ولكن الحقيقة التي تظل ثابتة، في تقديرنا، هي أن السكان الأصليين والأسبق بالمنطقة هم البربر من زناتة، الذين استوطنوا وأسسوا أغادير، المدينة الأولى قبل ظهور المدينة المعروفة اليوم بتلمسان.
وأيا كان الأهل الأصليين لمدينة تلمسان، فهذا غير مهم، والحقيقة أن هناك مجتمع تلمساني يجب أن نتعامل معه كما هو، فالإنسان العاقل لا يمكنه أن يقوم مساره الخلاقي (Arcologique) بالنبل والتمييز عن الآخرين عن طريق لقب عائلي يحمله.
2- أهم خصائص الظاهرة اللسانية بتلمسان:
في مؤتمر فدراليات المؤسسات المعرفية لشمال إفريقيا الذي انعقد بتلمسان سنة 1936 م، أعلن "كونتنو" )J.Contineau)، اللساني الفرنسي المشهور، عن نيته في وضع أطلس لغوي للهجات العربية الجزائرية.
في عام 1936م، كان قد شرع في إنجاز خمس عشرة تحريات خاصة بناحية تلمسان، وانطلاقا من عام 1938م، تابع أبحاثه في كل محافظة وهران، وبلغ عددها الثمانية والثمانين.
يصف "كونتو" محافظة وهران على أنها الوحيدة التي تحتل البربرية فيها المكانة الأصغر، إذ لا توجد سوى قلة قليلة جدا من الناطقين بالبربرية، تلك المقيمة ببني سنوس وبني بوسعيد بالجنوب الغربي لتلمسان. في النواحي الأخرى، لا توجد سوى نقاط بربرية قليلة متناثرة هنا وهناك: بني منقوش التابعة لبلدية مغنية، والمهاجرون الريافة المغاربة المتواجدين بمرسى بن مهيدي (Port say سابقا ببلدية مغنية أيضا، وتلك المتواجدة بأرزيو بين وهران ومستغانم.
لم يبقى من البربرية شيء في دوار عشاشة ببلدية قصاين وبني حليمة ببلدية فرندة، أين وجد "رونيه باسي " (René Basset) بعض الناطقين بالبربرية في القرن التاسع عشر الميلادي. في منطقة عين الصفراء، نجد الناطقين بالبربرية في العديد من القصور: بغلالة، بسمقون، بعسلة، بتيوط، بالموقاران، ببني ونيف، ... وغيرها.
أما إذا فحصنا منطوقات المتكلمين بالعربية، فهي لا تتجاوز الأربعة: منطوق أهل المدن (الحضر) خصوصا تلمسان ومستغانم، والمنطوق البدوي (أهل الريف) ترارة ومسيردة شمال تلمسان، على وجه الخصوص، يحتل الحضر العرب بمحافظة وهران مكانة أقل من تلك التي تحتلها محافظة قسنطينة، لكن تبدو أكثر أهمية بالقياس إلى تلك التي تحتلها محافظة الجزائر.
استنادا إلى التقسيمات التي وضعها "كونتنو" في مقاله الموسوم "ملاحظات حول تكلمات الحضر السوريين، اللبنانيين، والفلسطنيين"، وطبقها على محافظة وهران، نجد ثلاث مجموعات: المجموعة S1 تخص المسلمين بمستغانم، "المجموعة S1’ تخص فقط المسلمون بتلمسان، و"المجموعة S2 تخص سكان الريف، خصوصا مسيردة وترارة شمال تلمسان.
في بحثنا هذا، سوف نتطرق لأهم خصائص ومميزات الظاهرة اللسانية بتلمسان.
لأهل ولاية تلمسان ثلاثة منطوقات، لكل مميزاته الخاصة، المنطوق الحضري الذي نحن بصدد دراسته، والمنطوق الجوزي الخاص بسكان المناطق والقرى المتاخمة مباشرة لمدينة تلمسان، والمنطوق البدوي، وكلها نابعة من اللغة العربية الفصحى التي فقدت في هذه المنطوقات علامات الإعراب جميعها، وصار آخر كل كلمة ساكنا، ثم دخلها تغيير في النطق ببعض الحروف، وتعويض بعض المفردات بغيرها من اللغات الأخرى، كالزيانية والتركية والإسبانية، لأسباب تاريخية يعلمها الجميع.
ينتمي الشكل اللساني التلمساني إلى عائلة المنطوقات الحضرية، كما أشار إليه "ويليام مارسي" (William Marçais) في كتابه "اللهجة العربية المتكلمة بتلمسان"الصادر بباريس عام 1902م، و"كونتنو" (J.Contineau) في مقاله "التكلمات العربية بمحافظة وهران"، فصنف المنطوق التلمساني ضمن عائلة المنطوقات الحضرية.
يتميز المنطوق التلمساني بإبدال القاف همزة، حيث تنطق هذه الأخيرة بانقباض شديد حتى تغلق الأحبال الصوتية تماما، مثلا:
- قَرْدْ - أَ رْدْ (بمعنى القرد)
- قَهْوَة - أَهْوَة (بمعنى القهوة).....إلخ
وتنطق "التاء" و"الثاء" "تس" /ts/، مثلا:
- الثلج - التسَلْدْجْ
- التمر - التًسْمرْ.
في حين نجد الغياب التام للتمييز بين المذكر والمؤنث المخاطب من ناحية الاسم والفعل مثلا:
"نَتْيينَ أُلْتسْ"، تستعمل هذه العبارة لمخاطبة المؤنث أو المذكر، وتعني "أنتَ قلتَ" إذا كان المخاطب ذكرا، و"أنتِ قلتِ" إذا كانت المخاطبة أنثى.
أداة الانتماء "دِّي" /eddi/ و""دْيالْ" /diel/ تستعملان أكثر من نْتسَاعْ" /ntsà/ مثلا:
"لْحَادْجَةدِّ أُتْسلًكْ عْلِيهَا" أي الشيء الذي كلمتكَ أو كلمتكِ عنه.
"هَدْ لَكْتَابْ دْيالِ" تستعمل "دْيَالْ" لتثبيت الملكية.
يتميز المثنى في أسماء الأعداد، الزمن، القياس، وغيرها، بإضافة عبارة "أين" /ein/ مثلا:
"أَلْفايَنْ" أي ألفين.
"يُومَاينْ" أي يومين...إلخ.
رغم أن مدينة تلمسان محاطة من كل الجهات بالمنطوقات التي تتميز باللاحقة (suffixe) "أَهْ" /ah/ الخاصة بالمخاطب المذكر، إلا أنها تتميز بالملاحقة "أُو" /u/ لنفس الغرض، مثل:
نْدَرْبهْ" /naddarbah/ تصبح عند التلمسانيين "ندَّربُ" /naddarbou/
وتضاف مميزات أخرى إلى سابقتها تميز المنطوق التلمساني، تتمثل في قلب الذال المعجمة إلى دال مهملة، مثل:
"الدِّيبْ" بدلا من الذئب.
"الدْهبْ" يدلا من الذهب.
كما أن الحضر من أهل مدينة تلميان لا يفرقون بين الضاد والظاء في كثير من الأحيان، بل يقلب هذان الحرفان عندهم إلى دال مفخمة، مثلا:
"الدْهَرْ" بدلا من الظهر، هذا خاص بالرجال، أما النساء فيقلبن الظاء والضاد إلى طاء، فيقلن مثلا: "مْريطْ" أي مريض، و"الطْهرْ" أي الظهر.
كما أنهم ينطقون الجيم الممثلة بدلا من الجيم العادية (د ج)، مثلا:
"دْجْنَانْ أي البستان، عوض "جْنَانْ".
وأخيرا يجب الإشارة إلى الأعداد الهائلة من العبارات والكلمات والأسماء والمفردات...الدخيلة على المنطوق التلمساني، خصوصا من الزناتية والتركية والفرنسية وحتى الإسبانية، وهذا راجع بالطبع للتعمير الطويل لهؤلاء بالمنطقة، وبالتالي فإنهم أثروا تأثيرا بارزا لا نزال نلاحظ مفعولاته إلى عهدنا هذا.
ولئن كانت تلك من أهم خصائص ومميزات المنطوق الحضري التلمساني الذي كان قديما يخص فقط السكان الحضر المتمركزين بالمدينة القديمة المبينة في الخارطة (ب)، ولا يتعداها، فإن الأوضاع اليوم تغيرت، ولم تعد تلمسان تلك المدينة الصغيرة المنطوية على نفسها، بل توسعت بفعل العمران وكبرت رقعتها من كل الاتجاهات، نظرا للتزايد المستمر للوافدين عليها من كل المناطق المجاورة لها، وحتى من المناطق الجزائرية الأخرى بمدنها وقراها، الشيء الذي خلق وضعية لسانية واجتماعية جديدة لا بد من دراستها.
لقد نتجت عن اتساع المدينة أحياء ومجمعات سكنية جديدة، جعل الكثير من سكان المدينة القديمة (مستعملي المنطوق التلمساني الحضري) ينتقلون إلى أحياء أخرى جديدة، وحل محلهم سكان آخرون أتوا من باقي دوائر وقرى ولاية تلمسان، وحتى من مناطق جزائرية أخرى. هذا التأثير والتأثر خلق ظاهرة لسانية جديدة بمدينة تلمسان، فلم تعد تلمسان تتميز بذلك المنطوق الحضري المتميز، بل أصبحت تضم تنوعات لسانية عديدة، وهذا ما عملنا على تجليته من خلال الرسم البياني (ج) الذي يوضح التقسيمات اللغوية لأهم أحياء مدينة تلمسان الجديدة (بعد التوسع).
بناءا على ما سبق، فإن تلمسان لم تعد تلك المدينة المنغلقة على نفسها والمتميزة بمنطوقها الذي سبق شرحه، بل تفتحت وتوسعت مما خلق ظاهرة لسانية جديدة سوف نتطرق الآن وصفها ودراستها دراسة سوسيولسانية.
يبين الرسم البياني (ج) مدينة تلمسان الحالية، إذ أن القرى والمداشر التي كانت متاخمة لها، وكانت تضم البدو والحوز، أصبحت اليوم من أهم أحيائها، فلم تعد الأشياء كما كانت عليه في السابق.
بعد الاستقلال مباشرة، عرفت جل المدن الجزائرية ما يعرف بالنزوح الريفي، وكانت تلمسان واحدة منها. نزح سكان القرى والمداشر المحيطة بمدينة تلمسان، وخرج منها السكان إلى أحياء جديدة بعد أن بدأت مدينة تلمسان في التوسع، مما خلق تنوعات لسانية أخرى بوسط المدينة، وبهذا لم يعد المنطوق التلمساني المتميز بإبدال القاف همزة يخص وسط المدينة فقط، ولا الحضر دون سواهم من سكان مدينة تلمسان الحالية.
يسكن البنايات المجاورة للسوق المغطاة أغلبية ساحقة ممن نزحوا من منطقة سيدي بومدين (أو العباد) أين تنطق الهمزة في منطوقهم العربي، لذا نجد أغلبية سكان هذه المنطقة من وسط المدينة اليوم، يستعملون المنطوق التلمساني المتميز بقلب القاف همزة.
إضافة إلى سكان سيدي بومدين، نزح إلى نفس المنطقة بعض أهل أغادير، أين نجد مستعملي الهمزة ومستعملي القاف. بتغلغل هؤلاء جمعا في منطقة السوق المغطاة وما جاورها بوسط المدينة، أصبح جميع سكان هذه المنطقة يستعملون المنطوق الحضري التلمساني، بما فيهم من كانوا يستعملون القاف، وهذا راجع لتأثير الأغلبية على الأقلية.
بالأماكن المتبقية من وسط المدينة، نجد الأشكال الفنولوجية الثلاثة: الهمزة، القاف، والقاف /g/.
بالنسبة "القاف"/g/، يعود السبب لتروح العديد من سكان المناطق المحيطة بمدينة تلمسان من مستعملي القاف /g/، إلى وسط المدينة، خصوصا من منطقة القلعة العليا، بودغن، الكيفان القديم، سيدي سعيد، سيدي الحلوي، سيدي لحسن، وأغادير.
أما "القاف"، فيعود السبب في تواجدها بوسط المدينة إلى نزوح العديد من سكان ندرومة وما جاورها من القبائل أين يستعمل هذا الشكل اللساني.
يبين الجدول الآتي المنطوق التلمساني الحالي بأشكاله الفنولوجية الثلاثة: الهمزة، القاف، والقاف/g/بأمثلة حية.
التغيرات الفونولوجية الثلاثة للمنطوق التلمساني
الجدول (1)
التغير الفونولوجي
المصطلحات (المفردات)
الجانب النحوي
"أ"
صوت حنجري-
شديد- مهموس-
مرقق
$1- ألب= القلب
$1- خَاي= أخي
$1- أُفَّة= القفة
$1- أَدرَة= قدر
-دَربُ لأَلبُ= ضربه لقلبه.
-خَايْ ريه رَائَد= أخي نائم.
-أَدْجِ أَخَايْ= تعالى يا أخي
-رفَد لُأُفَّة= خد القفة
-نُحَرئَتْ لْأَدْرَة= حرق القدر
"ق" /g/
صوت غاري- رخو- مجهور-مرفق
-قَلْبْ
-خُويَ.
-قُفَّة.
-قَدْرَة.
-دَرْبَهْ لْقَلْبَهْ.
-خُويَ رَاهْ رَاقَدْ.
-رْوَاحْ أَخُويَ.
-رْفَدْ لْقُفَّة/ هَزْ لْقفَّة.
-نْحَرْقَتْ لْقَدْرَة.
"ق"
صوت لهوي- شديد- مهموس- مرقق
-قَلْبْ.
-خَايْ/ خُويَ.
-قُفَّة.
-قَدْرَة.
-دَرْبُ لْقَلْبُ.
-خَايْ/ خُويَ رَاهْ رَاقَدْ.
-أَج/ رْوَاحْ/ أَخُويَ/ أَخَايْ.
-رْفَدَ/ هَزْ لْقُفَّة.
-نْحَرْقَتْ لَقُدْرَة.
عرفت مدينة تلمسان، في العشرية الأخيرة، توسعا كبيرا من الناحية العمرانية، فظهرت أحياء جديدة لا تزال هي الأخرى في التوسع كإيمامة والكيفان وشتوان، الشيء الذي دفع بالكثير من سكان وسط المدينة إلى الاستقرار بها قصد التوسع.
ولأن التلمسانيين معروفون بالتجارة وصناعة الحلي منذ القدم، فلقد أصبح أكثرهم من الأغنياء، وبهذا، ظهرت الأحياء الغنية الجديدة، لعل أبرزها: الكيفان (2)، وبيروانة، وحيا الهواء الجميل والأفق الجميل اللذين يعدان حيين غنيين، ظهرا بعد الاستقلال، مباشرة بعد رحيل الفرنسيين في تقديرنا، نلاحظ أن هذا السبب أفرز التغيرات اللسانية من حين إلى آخر.
وتوضح الجداول الثلاثة التالية التغيرات الفونولوجية في الأوساط الغنية، فاخترت حي الهواء الجميل نموذجا تنطبق مميزاته على كل الحياء الغنية بمدينة تلمسان.
حي الهواء الجميل
العائلة "أ" من أصل حضري
الجدول (2)
أفراد العائلة
السن
العمل
عناوين الجرائد
التغيرات الفونولوجية داخل البيت
التغيرات الفونولوجية خارج البيت
الأشكال اللسانية المستعملة داخل البيت
الأب
57 سنة
صيدلي
المجاهد
أ
أ
المنطوق العربي+ الفرنسية
الأم
50 سنة
بدون
مجلة فرنكفونية
أ
أ
المنطوق العربي+ الفرنسية
الأبـــــنــــــاء
شوقي
30 سنة
طبيب
Horizon + Algérie Actualité
أ
أ + قْ /g/
المنطوق العربي + الفرنسية
نهيدة
28 سنة
أستاذة
Horizon +
مجلة
أ
أ
المنطوق العربي
وفاء
23 سنة
بدون
Horizon
+
مجلة فرنكفونية
أ
أ
المنطوق العربي + الفرنسية
شكيب
19 سنة
طالب
المجاهد
+
Algérie Actualité
أ
ق + ق /g/
المنطوق العربي
+ الفرنسية
حي الهواء الجميل
العائلة "ب" من أصل ريفي
الجدول (3)
أفراد العائلة
السن
العمل
عناوين الجرائد
التغيرات الفونولوجية داخل البيت
التغيرات الفونولوجية خارج البيت
الأشكال اللسانية المستعملة داخل البيت
الأب
60 سنة
صاحب مصنع
المجاهد
ق /g/
ق/g/
المنطوق العربي + الفرنسية
الأم
54 سنة
بدون
Horizon
ق + أ
أ
المنطوق العربي + الفرنسية
الأبــــــنـــــــاء
جميلة
30 سنة
بدون
Horizon+
مجلة فرنكفونية
ق+ أ
أ
المنطوق العربي+ الفرنسية
صورية
28 سنة
تتابع تربصا في الخياطة بإسبانية
Horizon +
المجاهد
ق+ أ
أ
المنطوق العربي
+ الفرنسية
أمينة
26 سنة
معلمة بالإبتدائي
Horizon
ق+ أ
أ
المنطوق العربي
+ الفرنسية
عبد القادر
24 سنة
صائغ
Horizon+
Le Soir d’Algérie
ق+ أ
ق+ أ
المنطوق العربي+ الفرنسية
نبهاة
21 سنة
طالبة
Horizon
ق+ أ
أ
المنطوق العربي+ الفرنسية
مريم
18 سنة
تلميذة بالثانوية
Horizon
ق+ أ
أ
المنطوق العربي+ الفرنسية
حي الهواء الجميل
العائلة "ج" من أصل ريفي
الجدول (4)
أفراد العائلة
السن
العمل
عناوين الجرائد
التغيرات الفونولوجية داخل البيت
التغيرات الفونولوجية خارج البيت
الأشكال اللسانية المستعملة داخل البيت
الأب
65 سنة
تاجر
أمي
ق /g/
ق/g/
المنطوق العربي+ الفرنسية
الأم
55 سنة
بدون
أمية
ق/g/ + أ
أ
المنطوق العربي
الأبــــــنـــــــاء
فريدة
33 سنة
بدون
/
ق/g/ + أ
أ
المنطوق العربي
فاطمة الزهراء
32 سنة
معلمة بالابتدائي
/
ق/g/ + أ
أ
المنطوق العربي + الفرنسية
محمد
29 سنة
تاجر
المجاهد+ Le Soir d’Algérie
ق/g/
ق/g/ + أ
المنطوق العربي
فتحي
22 سنة
طالب
المجاهد+ Le Soir d’Algérie
أ
ق/g/+ ق
المنطوق العربي + الفرنسية
خالد
15 سنة
تلميذ
/
ق/g/
ق/g/
المنطوق العربي
كانت تلك أهم المميزات اللسانية والفردية الخاصة بسكان الأحياء الغنية بتلمسان:الأفق الجميل، الهواء الجميل، بيروانة، الكيفان (2). إن المثال الخاص بالاستعمال أو السلوك اللغوي عند العائلات القاطنة بحيي الهواء الجميل والأفق الجميل، تنطبق تماما على كل الأحياء الغنية لمدينة تلمسان. أما الأحياء الأخرى المتبقية، بما فيها الشعبية والجديدة، فإن الرسم البياني (ج)يوضح أهم مميزاتها اللسانية.
*استعمال التنوع اللساني: من يكلم من؟ وأين؟
استنادا إلى الجداول السابقة (2-3-4)، المبنية على أساس بحث ميداني، يمكن أن ننتهي إلى أن المنطوق الحضري التلمساني لم يعد منطوقا لسانيا كباقي المنطوقات، يستعمل للتعبير عما يجول في خاطر المرء، بل أضحى يعبر عن طبقة اجتماعية أرقى.
وضعت قيد الفحص والتحليل ثلاث عائلات غنية تقطن حي الهواء الجميل، الذي يعد من الأحياء الراقية بمدينة تلمسان، ويستعمل كل واحد منها أحد التنوعات الفونولوجية الثلاثة التي أصبحت تميز مدينة تلمسان اليوم. ويمكن تطبيق هذه الأمثلة على كل الأحياء الغنية لمدينة تلمسان.
اخترت العائلة "أ" من أصل حضري، التي توارثت المنطوق التلمساني الحضري أبا عن جد، وحاولت التحري عن المستوى الثقافي للفرد، والتغير الفونولوجي داخل وخارج البيت، وما لحقه من تنوعات لسانية أثناء الممارسة الكلامية داخل البيت. كل هذا مع الأخذ بعين الاعتبار السن والجنس (ذكر أو أنثى)، وطبقت الطريقة نفسها على العائلة "ب" و "ج" من أصل ريفي.
العائلة "أ" من أصل حضري
من خلال الجدول الأول الذي يمثل العائلة "أ" من أصل حضري، نستنتج أن الجنس والسن يؤديان دورا كبيرا في السلوك اللغوي للفرد. نلاحظ في هذا المساق أن الأب البالغ من العمر 57 سنة والأم البالغة من العمر 50 سنة، يستعملان التنوع اللغوي نفسه داخل وخارج البيت، أما فيما يخص الأبناء فإن الأمر يختلف.
إن الابن الأول البالغ من العمر 30 سنة، يستعمل المنطوق التلمساني الحضري داخل البيت، أما في الخارج، فيستعمل الهمزة والقاف، وهذا بحسب الظروف. بمعنى أنه يستعمل الهمزة مع مستعملي هذا التنوع الفونولوجي، والقاف مع من يستعملون القاف، سواء كانوا من داخل المدينة أو من خارجها. والجدير بالذكر هنا، هو أن التلمسانيين كلما غادروا المدينة إلى مناطق أخرى من الوطن، ويمكن أن نرد هذه الظاهرة إلى ما يشعرون به من خجل من ناحية، وانتقاص لرجولتهم من ناحية ثانية.
أما الإبنة البالغة من العمر 28 سنة، فتستعمل الهمزة داخل وخارج البيت دون أية عقدة، وكذا أختها وفاء التي تبلغ من العمر 23 سنة.
أما شكيب البالغ من العمر 19 سنة، فإنه يستعمل الهمزة داخل البيت فقط، أما في خارج فلا يستعملها أبدا، ويعوضها بالقاف داخل المدينة والقاف خارجها.
من خلال كل هذا، يتبين لنا أن المنطوق التلمساني الحضري المتميز بإبدال القاف همزة، أصبح يقتصر فقط على النساء بمختلف أعمارهن، والرجال المسنين. إن هذه الفئة تستعمل هذا التنوع اللساني داخل وخارج البيت دون أي عقدة. أما الذكور في الثلاثينات من أعمارهم، فيستعملون الهمزة داخل البيت، أما في الخارج فيستعملونها مع أهل المدينة الحضر فقط. وبخصوص القاف، فإنهم فيستعملونها مع سكان المدينة غير الحضر أو عند تنقلهم إلى مناطق أخرى من الوطن.
يبقى أن نشير في النهاية، إلى أن فئة الشباب الذكور البالغين من العمر أقل من 8 سنة، يستعملون المنطوق التلمساني الحضري داخل البيوت فقط، أما خارجها، فإنهم يتخلون تماما عنه في كل الظروف ويستعملون القاف بدل الهمزة داخل المدينة، والقاف خارجها أو عند مخاطبتهم لمن يستعلون القاف من سكان المدينة.
إن هذه الملاحظات تقتصر على العائلات التلمسانية ذات الأصل الحضري، سواء كانت عائلات غنية أو فقيرة أو متوسطة. أما أغلبية العائلات ذات الأصل الريفي القاطنة بمدينة تلمسان، فإنها تستعمل مجملها القاف أو القاف، سواء كانوا ذكورا أو إناثًا. غير أن الأمر يختلف بالنسبة للعائلات الغنية من أصل الريفي. نلاحظ ذلك حليا في الجدول (3) الذي يمثل عائلة غنية من أصل ريفي تقطن حي الهواء الجميل الغني.
العائلة "ب" من أصل الريفي
نلاحظ في الجدول (3) الذي يمثل التغيرات الفونولوجية لعائلة غنية من أصل ريفي تقطن بحي غني (حي الهواء الجميل) بمدينة تلمسان، أن الأب البالغ من العمر 60 سنة يستعمل القاف داخل وخارج البيت، أما الأم فتستعمل تارة القاف وتارة أخرى الهمزة، داخل البيت: تستعمل القاف أو القاف مع أفراد عائلتها، والهمزة عند استقبالها للضيوف، كالصديقات والجارات والمعارف. أما خارج البيت فإنها لا تستعمل سوى المنطوق التلمساني الحضري، أي الهمزة. وقس على ذلك بناتها.
أما الابن عبد القادر، فإنه يستعمل القاف والهمزة داخل البيت في الظروف نفسها التي لاحظناها عند الأم وبناتها. أما في الخارج فيستعمل القاف مع من لا يستعملون المنطوق التلمساني الحضري، والهمزة مع من هم من أصل حضري، مع العلم أن الشبان ذوي الأصل الحضري أصبحوا يمتنعون في الغالب عن الاستعمال الهمزة خارج البيت.
نستخلص من خلال هذين المثالين أن المنطوق التلمساني الحضري الذي يتميز بنطق الهمزة بدل القاف أو القاف، لم يعد يخص فقط سكان مدينة تلمسان الحضر كما كان الأمر في الماضي. ولم يعد الناطق بالهمزة بعرب عن أصله الحضري، ولا الناطق بالقاف أو القاف يعرب عن أصله البدوي.
أما فيما يخص النساء، فيعبر المنطوق التلمساني الحضري عن الأنوثة أولا، والحس الحضاري ثانيا. أما المرأة التي تستعمل القاف فإنها تعبر عن الخشونة وانعدام الذوق والرقة، وتفاديا لسوء التأويل، فإن هذه المسألة تدفع العديد من النساء من الأصل الريفي إلى استعمال المنطوق التلمساني الحضري خارج بيوتهن. أما النساء المنحدرات من عائلات غنية ذات الأصل الريفي، فتستعملن المنطوق التلمساني الحضري لأن هذا التنوع اللساني أصبح ف أيامنا هذه يدل على حظوة (prestige) اجتماعية راقية، فالغنى وحده لا يمنح العائلة رقائها الكلي وسط المجتمع التلمساني الحالي. وينطبق هذا أيضا على الذكور من العائلات الغنية من أصل ريفي، خصوصا الشباب الذين ستعملون المنطوق التلمساني الحضري خارج البيت محاولين بذلك إدماج عائلاتهم ضمن العائلات الحضرية التلمسانية.
من هذا المنطلق، أصبح المنطوق الحضري التلمساني اليوم، يعبر عن طبقة اجتماعية راقية، إلى درجة أنه خلق مركب نقص عند نسبة كبيرة من سكان المدينة، بما فيهم الحضر والبدو الذين تحضروا واندمجوا في المجتمع التلمساني.
محاولة تصنيف ظاهرة تلمسان اللسانة
تبين لنا الملاحظات المقيدة سلفا، أن المنطوق التلمساني الحضري الحالي أصبح يحمل ثلاثة تنوعات فونولوجية (الهمزة- القاف- القاف)، ولم يعد من الممكن إقصاء هذا التنوع من الظاهرة اللسانية الجديدة بتلمسان. وأضحى استعمال هذا التنوع يتوقف على الحالة التي يكون فيها الشخص، بغض النظر عن انتمائه إلى أهل الحضر أو الريف.
ويمكن أن نتساءل في هذا المقام، عن طبيعة التنوعات اللسانية التي يمكن أن نصنف في صلبها هذه الظاهرة اللسانية الجديدة التي وسمت المنطوق التلمساني. وفي سبيل صياغة إجابات مرضية على هذا التساؤل، يجدر بنا أن نعرض لأهم خصائص هذه الظاهرة اللسانية.
أولا، لا يمكن اعتبار هذا التنوع لغة مضبوطة كون المتكلمين لا يتقيدون بقوانين لغوية مضبوطة، ولا برموز كتابية تجمعهم جميعا، بل نجد لكل واحد منهم طريقته وسلوكه اللغوي الخاص تحت المنطوق الأسمى الذي يميز البيئة التي يعيشون فيها.
رغم الاختلافات الفونولوجية والصوتية التي تتسم بها الظاهرة اللسانية الجديدة بمدينة تلمسان، إلا أن الدلالات تبقى نفسها في أغلب الأحيان عند مستعملي الهمزة أو القاف أو القاف /g/، فكلمة "تَأْد" أو "تَقْد" تحملان المعنى نفسه، أي تقوم بعمل البيت من تنظيف وطهي وغسيل، وهي كلمة تحمل الإيحاء connotation) الدلالي نفسه عند كل أهل مدينة تلمسان، بالرغم من الاختلافات الفونولوجية. غير أن نفس الكلمة "تَقْد" تحمل معنى آخر في الجزائر العاصمة وما جاورها، وهو التسوق، ومن هذه الأمثلة يوجد الكثير. وهنا ندرك الفوارق الدلالية في الاستعمال اللهجي.
إن ما نهدف إلى بيانه في هذا المقام، يتمثل أساسا في أن هذا التنوع اللساني الجديد، هو الوحيد الذي يميز مدينة تلمسان عن غيرها من المدن الجزائرية الأخرى، إذ لأن الجزائر تزخر بالعديد من التنوعات اللسانية التي تميز منطقة عن باقي المناطق الأخر.
تضم الظاهرة اللسانية التلمسانية بتنوعاتها الفونولوجية الثلاثة (أ- ق- ق /g/) كل فئات المجتمع التلمساني، بحضرها وبدوها، كما لاحظنا ذلك سابقا. حيث أصبحنا نلمس استعمال هذا التنوع تبعا للظروف التي يجد المتكلم نفسه فيها. فهذه الظاهرة اللسانية تنتمي إلى رقعة جغرافية محددة، هي مدينة تلمسان. يقول "فرغيسون" (Ferguson) و "غمباز" (Gumpez) و "هلداي" (Holliday):" إن التنوعات المعروفة بأصلها الجغرافي تنضوي تحت اللهجات."
نستنتج من كل هذا أن الظاهرة اللسانية الجديدة بتلمسان، بتنوعاتها الفونولوجية الثلاثة، ما هي إلا لهجة، فاللهجة في الاصطلاح العلمي الحديث، هي مجموعة من الصفات اللغوية، تنتمي إلى بيئة خاصة ويشترك في هذه الصفات أفراد هذه البيئة.
بهذا يمكنا التحدث عن مجموعة لسانية تلمسانية (une communauté Linguistique). فالمجموعة اللسانية توجد في اللحظة التي يكون لكل أفرادها على الأقل تنوع لساني واحد مشترك، بالإضافة إلى قواعد استعماله الصحيحة، بهذا تستطيع المجموعة اللسانية أ تنحصر في مجموعة من الأشخاص منغلقة على نفسها، ويكون هؤلاء الأشخاص متفاهمين ومتعايشين، بحيث يحتاج الواحد للآخر في حالات ومواقف محددة.
*الحقيقة اللغوية:
لقد عمر الفرنسيون طويلا بالجزائر، وبعد كفاح طويل، افتك الشعب الجزائري حريته وتخلص من الهيمنة الفرنسية في كل الميادين، هذا ما تحاول الأجهزة الرسمية في البلاد، إذاعته في الناس.
غير أن المتغلغل في المجتمع الجزائري، يلحظ بدون مشقة أن اللغة الفرنسية لا زالت تحتل مكانة متميزة، على الرغم من أن الجهات الرسمية في البلاد تحاول تقديم الجزائر على أنها بلد موحد لغويا (اللغة العربية)، محاولة بذلك خرق حقيقة هي في الواقع مخالفة لذلك تماما.
لا زالت الثقافة واللغة الفرنسية تعيش مع الجزائريين، وأهل مدينة تلمسان ينطبق عليهم الشيء نفسه، بل أصبحت أكثر ترسخا من ذي قبل.
تحاول الجهات الرسمية للبلاد أن تقدم الجزائر على أنه بلد موحد ثقافيا ولغويا عن طريق لغة وطنية، اللغة العربية. فتحاول بهذا طمس الحقيقة التي هي في حقيقة الأمر مخالفة تماما لذلك، وبالتالي غض الطرف عن المكانة التي تحتلها اللغة الفرنسية في الوسط الجزائري.
إذا دققنا النظر في هذه المسألة، نلاحظ أن اللغة العربية الفصحى لا تمثل على الإطلاق الحقيقة اللغوية للجزائريين، نلمس تجليات ذلك في هيمنة اللهجات العديدة التي تستعمل استعمالا عاديا وعفويا في كل مناطق البلاد. كما أنها تظهر في مجمل، إن لم نقب، كل الأعمال الفنية أين أخذت مكان الفرنسية بعد انقضاء زمن الاحتلال، من مسرح وسينما وغناء....
رغم الانتصار الذي حققته اللغة العربية الفصحى لدى الجيل الجديد وتأخر اللغة الأجنبية، على رأسها الفرنسية، إلا أنها بقيت محصورة في المجالات الرسمية، فالواقع يثبت العكس، إذ ما زالت الفرنسية تحضى بمكانتها المميزة في الوسط الاجتماعي. ولعل لهجة تلمسان كغيرها من اللهجات الجزائرية، تضم عددا كبير من المفردات والعبارات ذات الأصل الفرنسي.
استنادا إلى التحاليل السابقة، يمكن أن نقدم النتائج الآتية الخاصة بخصائص الظاهرة اللسانية لمدينة تلمسان.
لقد أفرز النزوح الريفي و الحضري و الوافدون من أنحاء مختلفة من أرجاء الوطن، توسعا معماريا كبيرا بمدينة تلمسان، الشيء الذي خلق بدوره ظاهرة لسانية جديدة لم تكن موجودة قيل العشرية الأخيرة. وأصبح المنطوق التلمساني عموما يضم ثلاثة تنوعات فونولوجية (الهمزة – القاف – القاف /g/) تستعمل من طرف جميع سكان المدينة، فلم يعد المنطوق الحضري المتميز بقلب القاف همزة يخص فقط الحضر من أهل المدينة، ولا استعمال القاف أو القاف /g/ يخص فقط من هم من أصل ريقي، بل أضحى اختيار هذا التنوع الفونولوجي أو الآخر يتم وفقا لمساق الكلام.
إن مدينة لم تعد تلك المدينة الصغيرة المنغلقة على نفسها والمتميزة بلهجتها الحضرية الخاصة، بل توسعت و أصبحت تضم الآلاف من العائلات، إما من أصل ريفي، نزحت إليها مباشرة بعد الاستقلال واستقرت بها، أو بنزوح الوافدين عليها من مختلف المناطق الجزائرية الأخرى ابتداء من سنة 1995 لأسباب أمنية واقتصادية. وقد خلق هذا الاختلاط والامتزاج، ظاهرة لسانية جديدة، يختلف أداؤها الصوتي من هذا المتكلم أو ذالك، تبعا لمنحدراته الجغرافية وسياقات الكلام. وفي ظل هذه التغيرات، يبقى المعنى قارا، و قد قادتنا هذه النتيجة إلى الحديث عن مجموعة لسانية تلمسانية متميزة.
قائمة المراجع:
الحاج محمد بن رمضان شاوش، باقة السوسان في التعريف بحضارة تلمسان عاصمة بني زيان، ديوان المطبوعات الجامعية 1995.
عبد الرحمان بن عبد الجليل، تاريخ الجزائر العام، ديوان المطبوعات الجامعية.
Christian Achour, Littérature et Expression Linguistique en Algérie.
J. Contineau , Les Parlers Arabes Du Département d’Oran, extrait de la revue Africaine n° 384-385, 1940.
J. Contineau, Remarques sur les Parlers sédentaires Syro-Libano-Palestiniens, 1939.
Joshua. A Fishman, Sociolinguistics.
R. Basset, Situation Actuelle Des Parlers Berbères Dans le Département d’Oran, deuxième congrès de la fédération savante de l’Afrique du Nord, Tlemcen 1936.
William Marçais, Le Dialecte Arabe Parlé à Tlemcen.
W.F Mackey, Bilinguisme et Contact des Langues. Paris 1976.
لقد تشرفت كثيرا إثر نشركم لمقالي، أرجو أن أكون قد وُفقت، ولو بالقدر القليل في إرضاء قرائكم الكرام. شكرا.
nadia boulakdem - maitre de conference classe A, université de tlemcen - tlemcen - الجزائر
19/11/2017 - 362969
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 27/01/2017
مضاف من طرف : tlemcen2011
صاحب المقال : نادية بولقدام - جامعة تلمسان
المصدر : http://revues.univ-ouargla.dz/