“ابن مريم التلمساني” فقيه ومؤرّخ جزائري من أعلام القرنين: التاسع والعاشر الهجريين. يُقال بأنّ مؤلَّفاته جاوزت 13 كتابًا، وصلنا منها كتابٌ واحد هو “البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان”، ولا تُوجد ترجمة كافية وافيّة عن سيرته ومسيرته وحياته.. نشرت المطبعة “الثعالبيّة” كتاب “البستان” سنة 1908، وجاء في الغلاف “وقف على طبعه واعتنى بمراجعة أصله حضرة الشيخ محمد بن أبي شنب المُدرّس بالمدرسة الثعالبيّة الدولية ومدرسة الآداب العليا بالجزائر”.
قال “ابن مريم” عن كتابه أنَّه “جمع أولياء تلمسان وفقهائها الأحياء منهم والأموات، وجمع من كان بها وحــوزها وعمالتها”. وعن سبب تأليف كتابه، قال: “ثبت أنَّ المرء مع من أحبَّ، فكيف بمن زاد عن مجرّد المحبّة بموالاة أولياء الله تعالى وعلمائه وخدمتهم ظاهرًا وباطنًا، بتسطير أحوالهم ونشر محاسنهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم نشرًا يبقى على مرِّ الزمان”. وقد أحصى مدير المكتبة الوطنية في سبعينيات القرن الماضي، الأستاذ “محمد بوعياد”، عدد الذين ترجم لهم “ابن مريم”، فقال: “ترجم ابن مريم في البستان لاثنين وثمانين ومائة عالِمٍ ووليٍّ ولِدوا بتلمسان أو عاشوا بها”.
نشر الأستاذ “محمد بوعياد” مقالة بجريدة “الأصالة” الجزائرية في شهر نوفمبر 1975، حول كتاب “البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان” وقيمته التوثيقيَّة لأعلام الجزائر الذين عاصروا “ابن مريم” أو كانوا قبله بأزمنة قصيرة أو طويلة. وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر المقالة..
من هو صاحب البستان؟
مؤلِّف كتاب “البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان” هو “الشيخ الإمام العلاّمة القدوة الهمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الملقب بابن مريم الشريف الميلتي المديوني التلمساني”، هكذا ذكَر “محمد بن أبي شنب” ناشر الكتاب، ونجد في بداية الكتاب نفسه “المديوني جارًا والميليتي نسبًا، التلمساني منشأ ومولدًا ودارًا”.
ورغم الأبحاث الطويلة في كُتب التّراجم الشرقية والغربية لم نحظ بالعثور على ترجمة للمؤلِّف، ولم يتعرَّض “ابن أبي شنب” لحياته في تصدير طبعته، واكتفى “الحفناوي” – صاحب كتاب “تعريف الخلف..” – في الصفحات المتوالية التي خصَصها في كتابه لترجمة “ابن مريم”، بنقل أسماء العلماء والصالحين المُترجَم لهم في “البستان”، وقال إنّه “لم يقف على ترجمة ابن مريم”، كما ضرَب صفحًا عن حياة المؤلف المستشرقون بمن فيهم “بروقنزالي”، ناقل الكتاب إلى اللغة الفرنسية، ولهذا رجعنا إلى “البستان”، وهو كتاب “ابن مريم” الوحيد الذي بلغنا، نسبر غوره، علَّنا نجد فيه بعض المعلومات عن حياة المؤلف.
إنَّ أول فائدة استخلصناها من مطالعة “البستان” هي أنَّ المؤلف ذكَر في ترجمته لسیدي محمد بن أحمد بن محمد الشريف المليتي، أنّه احترف التعليم وكان أول عهده بتعليم الصبيان يوم خلف أباه عندما مرِض مرَض الموت، وقد حثّه والده على الاستمرار في هذه المهنة، فقال: “فتماديت على ذلك، فتخرَّج عليَّ والحمد لله بدعاء والدي وبركاته، أزيد من أربعين ولدًا، كلهم يحفظون القرآن، وبعضهم علماء يدرِّسون العلم في كل فن من العلوم الظاهرة والباطنة، والحمد لله”.
والفائدة الثانية هي أنَّنا تمكَّنا بالرجوع إلى الكتاب، من معرفة سنة انتهاء المؤلِّف من تأليف “البستان” ومكان تأليفه، فقد قال في خاتمة الكتاب: “وفي سنة إحدى عشرة وألف، بمدينة تلمسان وضعناه”.
كُتبٌ في حُكم المفقودة
أمَّا الفائدة الثالثة التي حصلنا عليها هي ذكر المؤلف، آثاره في آخر الكتاب أيضًا، وعدد هذه المؤلفات اثنا عشر كتابًا زيادة على “البستان”، والموضوعات التي تناولتها هذه الكتب هي العقائد، والأذكار والحديث النبوي و”حكايات الصالحين”، ممَّا يدلُّ على ميل المؤلف إلى الزُّهديات والإيمان “بكرامات الأولياء، وبركة الصالحين”، وعنوان أحد مؤلفاته وهو: “تحفة الأبرار وشعار الأخيار في الوظائف والأذكار المستحبّة في الليل والنهار”، لا يترك مجالاً للشك في نزعة المؤلِّف إلى الزُّهد، وفي ميله إلى إجلال الصالحين وتقديسهم. وإذا استثنينا “البستان”، فإنَّ تآليف “ابن مریم” كلّها في حكم المفقودة اليوم، إذ لم يُطبع منها كتاب واحد، كما أنَّنا لم نعثر على أيّ أثر لها في فهارس المخطوطات العربية المعروفة..
“محمد بن أبي شنب” يحفظ البستان من الضّياع
أمّا “البستان”، فقد نشره “محمد بن أبي شنب” كما ذكرنا في أول هذا البحث، واعتمد الباحث لتحقيق الطّبعة، على عدّة نُسخ واتْبع المتنَ بعدّة فهارس غير أنّ هذا العالِم المُحقِّق الذي أتحف المكتبة العربية بعدّة كتب من التراث، أبرَزها في حلّة علميّة نادرة المثال في عهده، لم يصدِّر طبعته بأيّة دراسة عن “البستان”، ولا عن صاحبه حسبما أشرنا إلى ذلك قبل قليل، كما أنَّه لم يصحب المتن إلاّ بالنّزر اليسير من التعاليق. مع أنَّ هناك كثيرًا من المعلومات كأسماء بعض الأشخاص، وأسماء بعض الأمكنة، وعناوين بعض الكُتب كانت في حاجة إلى المزيد من الإيضاحات حتى يسهل على الباحث استعمال هذا الكتاب.
دافع تأليف الكتاب
ترجم ابن مريم في “البستان” لاثنين وثمانين ومائة عالِمٍ ووليٍّ ولِدوا بتلمسان أو عاشوا بها، وأشار المؤلِّف في أول الكتاب إلى هدف تأليفه، فقال أنَّه يقصد “جمع أولياء تلمسان وفقهائها الأحياء منهم والأموات، وجمع من كان بها وحــوزها وعمالتها”. وذكر أنَّ التقرُّب إلى الله كان الدّافع الحافز لتأليف الكتاب، فقال: “ثبت أنَّ المرء مع من أحبَّ، فكيف بمن زاد عن مجرّد المحبّة بموالاة أولياء الله تعالى وعلمائه وخدمتهم ظاهرًا وباطنًا، بتسطير أحوالهم ونشر محاسنهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم نشرًا يبقى على مرِّ الزمان”.
وفي الحقيقة لم يحصر “ابن مريم” سبب الخوض في الترجمة للأولياء والعلماء في الإفادة الدينية وفي التقرّب إلى الله، بـل ذكر في خاتمة الكتاب هدفًا علميًّا للكتابة في مثل هذا الموضوع، فقال: “اعلم أنّ معرفة الكتب وأسماء المؤلفين من الكمال، ومعرفة الفقهاء من مهمّات الطالب، وكذلك ما ألِفوه في حصر المسائل”.
منهج “ابن مريم” في البستان
ورتَّب “ابن مريم” تراجمه حسب حروف الهجاء، مبتدئًا بمن اسمه “أحمد” ومنهيًا تراجمه بمن اسمه “يحيى”. وقد تفاوتت تراجمه في الطول تفاوتًا كبيرًا، فبعضها لا يزيد على سطر واحدٍ، بينما خصَّص “ابن مريم” لبعض العلماء عدَّة صفحات من كتابه، نذكر منها على سبيل المثال: ترجمة “محمد بن يوسف السنوسي” صاحب المؤلَّفات الشهيرة في علم الكلام التي بلغت إحدى عشرة صفحة. وترجمة “ابن مرزوق الحفيد”، وقد خصَّص لها ثلاث عشرة صفحة. وبلغت إحدى التَّراجم عشرين صفحة، وهي ترجمة “الحسن بن مخلوف” الشهير بـ “أبركان”. وممَّا يجب التنبيه إليه أنَّ “ابن مريم” ترجم لبعض الأعلام من فقهاء المالكية ممَّن لم تكن لهم علاقة مباشرة بتلمسان، مثل: خليل ابن إسحاق، الإمام ابن عرفة، البرزلي..
ومثلما تفاوتت التَّراجم في الطّول، تفاوتت أيضًا أهمية المعلومات المذكورة بها. فلم تزد بعض التَّراجم على بضع كلمات لا طائل فيها، كترجمة “محمد بن سليمان النجار”، التي حصرها المؤلِّف في الكلمات التالية: “من مديونة العالم الصالح…”. بينما ذكر في تراجم أخرى اسم المُترجَم له، وأصله، وتاريخ وفاته، وأسماء شيوخه، وأسماء تلامذته، وعناوين الكتب التي ألَّفها وأحيانا الكتب التي درسها، والبلدان التي زارها، وأسماء من أجازه من العلماء وهكذا.. ونادرًا ما خلت ترجمة قصيرة كانت أو طويلة، سوى التي لم تتجاوز بضع كلمات، من ذِكر كرامات ومناقب تُنسب للوليّ الصالح، صاحب التَّرجمة. كما ضمَّن المؤلِّف أكثر التَّراجم أقوال المعاصرين من العلماء والمؤرّخين في المُتحدَّث عنه، ففي ترجمة “محمد بن عبد الله التِّنسي” مؤلِّف “نظم الدرّ والعقيان في بيان شرف بني زيان وذكر ملوكهم الأعيان”، التي تبلغ صفحة واحدة، استشهد المؤلف بأقوال خمسة علماء في صاحب الترجمة، ولم يُكثر المؤلف من إيراد الشعر، واكتفي في بعض التّراجم بأن روى أبيات شعريّة قالها المُترجم له أو قيلت فيه..
مصادر “البستان في ذِكر الأولياء والعلماء بتلمسان”
أفرد المؤلف نفسه قائمة لمصادر “البستان” في خاتمة الكتاب، فذكر منها “نيل الابتهاج بتطريز الديباج” لأحمد بابا التنبكتي، وهو كتاب معروف في تراجم علماء المالكية جعله صاحبه ذيلاً لـ “الديباج المذهَّب في معرفة أعيان علماء المذهب” لابن فرحون. و”بغية الروّاد في أخبار الملوك من بني عبد الواد” ليحيى بن خلدون، الذي خصّص عدّة صفحات من كتابه لتراجم بعض العلماء الذين ولِدوا بتلمسان أو استوطنوها. و”التقييد في مناقب الأربعة” لمحمد السنوسي، ولم نتوصّل إلى معرفة هذا الكتاب، ولم يذكره “ابن مريم” مع مؤلَّفات محمد بن يوسف السنوسي. و”روضة النسرين في مناقب الأربعة المتأخرين” لمحمد بن صعد التلمساني، ويعني صاحب الكتاب بالأربعة: الهواري، إبراهيم التازي، الحسن أبركان، أحمد ابن الحسن الغماري. و”النجم الثاقب فيما لأولياء الله من المناقب” لمحمد بن صعد التلمساني السابق الذِّكر. وما زال هذا الكتاب مخطوطًا أيضًا مثل الكتاب الذي سبقه. و”الكواكب الوقَادة فيمن كان نسبته من العلماء والصالحين القادة”، ولم نتوصّل إلى التحقّق من اسم المؤلف ومن مضمون الكتاب.
مصادرٌ أخرى..
وأنهى “ابن مريم” قائمة المصادر الستّة السابقة بقوله: “ومن كتب عديدة…”. مشيرًا إلى أنّ هناك كُتبًا أخرى رجع إليها وإن لم يذكرها بين مصادره، وقد استخرجناها من ثنايا تراجمه، ومن أهمّها: “الإحاطة في أخبار غرناطة”، تأليف “لسان الدين بن الخطيب”. “كتاب العِبر” تأليف “عبد الرحمن بن خلدون”. “الوفيات” تأليف “ابن الخطيب القسنطيني”. “المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب” تأليف “أحمد الونشريسي”. “الديباج المذهَّب في معرفة أعيان المذهب” تأليف “برهان الدين بن فرحون”.
وأكثَر “ابن مريم” من النَّقل من كل الكتب التي رجع إليها لتأليف كتابه، ولم يفصل بين النصوص المنقولة، وبين ما كتبه هو، إلى درجة أنّه يصعب على القارىء التمييز بين ما هو منقول وبين ما هو من بنات أفكار المؤلف.
“البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان” كتابٌ أراد به صاحبه أن يجمع سِيَر العلماء والأولياء، لا أن يكون كتابًا في التاريخ والأدب. وإضافة إلى هذا، فهو ينفرد بمعلوماتٍ حول بعض أسماء الأماكن والعادات والتقاليد في “تلمسان”.. ويرى الأستاذ “محمد بوعياد” بأنَّ الكتاب يُعتبر مصدرًا مفيدًا للباحثين “في تاريخ الدولة الزيانية وتاريخ المغرب الأوسط”.
“ابن مريم التلمساني” فقيه ومؤرّخ جزائري من أعلام القرنين: التاسع والعاشر الهجريين. يُقال بأنّ مؤلَّفاته جاوزت 13 كتابًا، وصلنا منها كتابٌ واحد هو “البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان”، ولا تُوجد ترجمة كافية وافيّة عن سيرته ومسيرته وحياته.. نشرت المطبعة “الثعالبيّة” كتاب “البستان” سنة 1908، وجاء في الغلاف “وقف على طبعه واعتنى بمراجعة أصله حضرة الشيخ محمد بن أبي شنب المُدرّس بالمدرسة الثعالبيّة الدولية ومدرسة الآداب العليا بالجزائر”.
قال “ابن مريم” عن كتابه أنَّه “جمع أولياء تلمسان وفقهائها الأحياء منهم والأموات، وجمع من كان بها وحــوزها وعمالتها”. وعن سبب تأليف كتابه، قال: “ثبت أنَّ المرء مع من أحبَّ، فكيف بمن زاد عن مجرّد المحبّة بموالاة أولياء الله تعالى وعلمائه وخدمتهم ظاهرًا وباطنًا، بتسطير أحوالهم ونشر محاسنهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم نشرًا يبقى على مرِّ الزمان”. وقد أحصى مدير المكتبة الوطنية في سبعينيات القرن الماضي، الأستاذ “محمد بوعياد”، عدد الذين ترجم لهم “ابن مريم”، فقال: “ترجم ابن مريم في البستان لاثنين وثمانين ومائة عالِمٍ ووليٍّ ولِدوا بتلمسان أو عاشوا بها”.
نشر الأستاذ “محمد بوعياد” مقالة بجريدة “الأصالة” الجزائرية في شهر نوفمبر 1975، حول كتاب “البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان” وقيمته التوثيقيَّة لأعلام الجزائر الذين عاصروا “ابن مريم” أو كانوا قبله بأزمنة قصيرة أو طويلة. وتواصل جريدة “الأيام نيوز” نشر المقالة..
قيمة الكتاب التوثيقية
نعنى بقولنا القيمة التوثيقية للكتاب الفوائد المختلفة التي يستخرجها الباحث أو القارىء من هذا الكتاب.. إنَّ الباحث يستخرج من “البستان”، الذي وُضع كما يدلّ عليه اسمه للتَّرجمة لرجال العلم والصلاح، فوائد عديدة ومتنوعة، وهذا رغم ما ضمَّته أكثر التّراجم من الخرافات والأساطير، وهذه الفوائد يعثر عليها القارىء عرَضًا في ثنايا تراجم الرجال، إذ كان هدف المؤلِّف التحدُّث عن حياة العلماء والأولياء وتدوين كراماتهم ومناقبهم، لا تصنيف كتاب في التاريخ والأدب.
ومن أنواع الفوائد التي يمكن استخراجها من كتاب “ابن مريم”، المعلومات التاريخية ويحصل القارىء عليها – كما قلنا سابقًا – عرَضًا في أثناء حديث المؤلِّف عن شخص أو مكان أو كتاب… ونذكر بعضها فيما يلي على سبيل المثال:
يقول ابن مريم في ترجمته لمحمد بن عبد الجبار بن ميمون بن هارون “توفي سنة خمسين وتسعمائة في عام أخذ النّصارى تلمسان”. وإذا رجعنا إلى كتب التاريخ لاحظنا أنَّ الإسبانيين دخلوا تلمسان يوم الثلاثاء آخر ذي القعدة من سنة 949 هـ – 1543، ورغم أنَّ الفرق قليل في التاريخ إذ أنَّ المؤلِّف قد حدَّد دخول النصارى لتلمسان في سنة 950 هـ بينما وقع الحادث حسب المصادر الإسبانية، قبل شهر من نهاية سنة 949 هـ، فإنّ صاحب “البستان”، يثبت الأخبار المذكورة في الوثائق الأجنبية مصدرنا الفريد لمعرفة أكثر أحداث تلك الفترة الغامضة من تاريخ “بني زيان” ملوك المغرب الأوسط.
تاريخٌ تخالطه بعض الخرافات
وألصق “ابن مريم” أحيانًا، بعض الخرافات بأحداث تاريخية كما فعل بالحادث السابق الخاص باستيلاء الإسبانيين على تلمسان، فقد قال في ترجمة “سيدي سعيد البجائي” الذي التجأ إلى “يبدر”، وهو مكان قريب من عاصمة “بني عبد الواد”، “حين أخذت النصارى تلمسان دمرهم الله، فذهبتُ إليه مع أبي، وأخذنا منه الدعاء”.. وقال لوالدي: “أهل تلمسان كلهم يرجعون لبلدتهم، حتى محمد يرجع إلاّ سعيد ما يرجع، يعني بمحمد السلطان”. وكان الإسبانيون قد تدخّلوا عسكريًّا في الشؤون الداخلية للدولة الزيانية المنهارة، بسبب الخلاف الذي شبَّ إثر ثورة “أبي زيان” الثائر على أخيه السلطان “أبي عبد الله محمد” الذي كان قد خلف أباه “أبا حمو الثالث”. ورغم تحالف الإسبان مع السلطان وتعهُّدهم باحترام الأهالي، فقد عاثت عساكرهم فسادًا بعد دخولهم تلمسان سنة 949 هـ، وقتلوا واسترقّوا كل من سقط بين أيديهم من سكان المدينة، وأعادوا إلى عرش تلمسان حليفهم “أبا عبد الله محمد”، وهذا يفسِّر الكلام السابق “حتى محمد يرجع “.
حقيقة تاريخَّية لا توجد إلاّ عند “ابن مريم”
ووجدنا في ثنايا الكتاب فائدة تاريخية ذات أهمية كبرى لم نجدها إلاّ عند “ابن مريم”، وهي تُلقي ضوءًا جديدًا على حادث مهمٍّ في تاريخ تلمسان وهو الحصار الكبير الذي ضربه السلطان المريني “أبو يعقوب يوسف” على عاصمة بنى زيان من سنة (698 هـ – 1299) إلى سنة (706 هـ – 1307)، وقد أجمع المؤرّخون على القول، إنّ المدينة كانت مطوَّقة تطويقًا كاملاً، وإنَّ التَّضييق بلغ بالمحاصرين أشدّه حتى أنَّ “الطّيف كان لا يخلص إليهم”، حسبما قال “عبد الرحمن بن خلدون”، وها نحن نعثر لأول مرة على مصدر تاريخي يفنِّد هذا الكلام، فيحكي “ابن مريم” عرَضًا عند ترجمته لـ “أحمد بن مرزوق الحفيد” أنَّ هذا العالِم عُذِّب وسُجن لأنّه كان يبعث بانتظام بتموين ورسائل من قرية “العباد” قرب تلمسان حيث كان قاطنًا، إلى أقاربه بالمدينة المحاصرة. (بنو زيان أو بنو عبد الواد تربّعوا على عرش تلمسان من سنة (633 هـ / 1236) إلى منتصف القرن العاشر).
ولا تعود أهميّة هذا الخبر إلى تفنيد كلام المؤرّخين الذين تحدَّثوا بإسهاب عن حصار الملك المريني لتلمسان الذي “أدار الأسوار سياجًا على عمرانها كله، ومن ورائها نطاق الحفير البعيد المهوى”.. فحسب، وإنّما تتعدّاها إلى إيجاد تفسير مُرضٍ لقدرة أهل تلمسان على مواصلة المقاومة، والصمود في وجه العدو رغم انقطاع كل مورد للمؤونة والسلاح، مدة ثماني سنوات؟ فهذا النصّ الصّريح لـ “ابن مريم” يغيّر موقفنا من هذا الحادث التاريخي الهام في تاريخ “بني عبد الواد”، لأنّ كلام “ابن مريم” إن صدّقناه ولا داعي لعدم تصديقه، يدلُّنا على أنَّ تلمسان لم تكن مُطوَّقة تطويقًا كاملاً يمنع “الطيف من الخلوص إليها”، على حدِّ تعبير “عبد الرحمن بن خلدون”، بل كانت المؤونة والرسائل تتسرّب إلى أهلها ممّا يبدِّد حيرة القارىء ودهشته من صمود أهل تلمسان أمام هذا الحصار الطويل.
باب “عين الحوت” في تلمسان
ومن الفوائد التاريخية المتعلِّقة بالعمران، ذِكر أسماء بعض الأمكنة الموجودة بتلمسان وضواحيها من مساجد، ومدارس، وأبواب، وأحياء، ومقابر. ومن أمثلة ذلك ذِكر المؤلّف أسماءَ أبواب عاصمة “بنى زيان”، وهذا عند ترجمته لـ “عبد الله بن منصور أحد أولياء عين الحوت”، و “عين الحوت” هي قرية قريبة من تلمسان، وبعض تلك الأسماء ما زال معروفًا إلى يومنا الحاضر.
قيمةٌ اقتصادية واجتماعية للبستان
ويستخرج الباحث أيضًا من “البستان” فوائد خاصة بالحياة العلميّة والثقافية في المغرب الأوسط في العهد الزياني، إذ ذكَر المؤلِّف أكثر العلماء والأدباء الذين عاشوا في ذلك العهد، وأشار إلى آثارهم الفكرية، وأورد في أغلب الأحيان أسماء شيوخهم وتلاميذهم، والكتب المتداولة في زمنهم. كما كان يروي بين الحين والآخر بعض الأبيات التي قالها المُترجِم لهم أو قيلت فيهم.
وفي الكتاب أيضًا فوائد اقتصادية واجتماعية، منها أنَّ “ابن مريم” ذكَر عرَضًا كعادته عند حديثه عن العلماء والصالحين الذين ترجم لهم، أحداثًا ومعلومات تنير طريق الباحث في تاريخ المملكة الزيانية وفي الحياة الاقتصادية والاجتماعية بها. ومن أمثلة هذه الفوائد الاجتماعية والاقتصادية، ما ذكَره المؤلِّف في عدّة مناسبات عن فترات القحط والوباء التي كانت تمرُّ بالبلد.
والاطّلاع على زمن وقوع الآفات كثيرًا ما يساعد الباحث على تفهُّم سير الأحداث الاجتماعية في تلك الفترات. ومنها أيضًا ما أورده في ترجمة “محمد القلعي” من أخبار العادات التي كانت مُتّبعة بتلمسان، بعضها اندثر وبعضها ما زال موجودًا إلى عهدنا، كعادة شراء الناس لثورٍ معلوف لتَقديده، وما يزال سكّان عدّة جهات من المغرب الكبير، وعلى الخصوص في المدن وفي السهول، يجفّفون لحم البقر إلى يومنا.
وجاء في التّرجمة نفسها أن أحد الأشخاص كان يملك رحى بضاحية من ضواحي المدينة، خارج الأسوار. ونودّ أن ننبّه إلى أنَّ هذه الضاحية ما زالت معروفة بالأرحيَّة الموجودة بها إلى اليوم، ويطلق الأهالي اســـم “الرحِّي” (أي الطواحين) على ناحية من هذه الضاحية، ومثل هذا الخبر قد يُعين الباحث في تاريخ المدينة أو تاريخ اقتصادها..
وهذه الفوائد المتنوِّعة التي يتضمّنها “البستان” تجعل من كتاب “ابن مريم” مصدرًا هامًّا لتاريخ الدولة الزيانية وتاريخ المغرب الأوسط، إذ هو مُتمِّم للكتب التاريخية البحتة التي عَنِيَت فقط بالأحداث السياسية والعسكرية، ولم تأت إلا بالنَّزر اليسير من الأخبار الاقتصادية والاجتماعية، وذلك على عادة المؤرخين القُدامى..
تاريخ الإضافة : 16/04/2024
مضاف من طرف : tlemcen2011
صاحب المقال : محمد ياسين رحمة - الجزائر
المصدر : elayemnews.dz