تلمسان - Zianides (Abdelwadides)

دور ملوك بني زيان في خدمة العلم في تلمسان



دور ملوك بني زيان في خدمة العلم في تلمسان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد فإنّ مما لا ينبغي أن ينكر في تاريخ الإسلام أن للحكام دورا كبيرا في خدمة العلوم الشرعية، وغيرها من العلوم التي قامت عليها الحضارة الإسلامية، ولا شك أنّ قيام دولة إسلامية قوية يجد فيها الناس الأمن والاستقرار مما يساعد على نمو العلوم وازدهارها، وأن ضعف الدولة أو انهيارها يؤثر سلبا في جميع العلوم الدنيوية والدينية، وقد قرَّر ابن خلدون في مقدمته (ص777):« أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، والسبب في ذلك أن تعليم العلم من جملة الصنائع، والصنائع إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة؛ لأنه أمر زائد على المعاش، فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع».

ويمكن التأكد من ذلك بالنظر في شكل التأليف في العلوم الشرعية عموما، كيف تحول ودخل في دور الانحطاط بعد سقوط بغداد في منتصف القرن السابع.
وكما خدم بعض الحكام العلوم الإسلامية، فإنّ آخرين منهم قد أساؤوا إليها غاية الإساءة؛ وذلك من خلال إهمالها أو اضطهاد العلماء، أو من خلال تدخلهم في أمور العلم، وفرضهم للآراء التي اعتنقوها دون سواها، وقد كان الخلفاء من بني أمية وبعض العباسيين لا يتبنون مذهبا بعينه، فكانوا يعظمون أهل العلم وخاصة أهل الاجتهاد منهم، ويسندون القضاء والمناصب لمن برع في علم الكتاب والسنة، فانصرفت الهمم إلى تحصيل علم الكتاب والسنة والنبوغ فيهما، وأما في عصر التقليد –وابتداء من العصر العباسي- فإن الحكام في كل مصر وعصر قد تبنوا مذهبا من المذاهب الفقهية أو الفكرية ومكَّنوا له، وسَعوا في نشره على حساب المذاهب الأخرى، ومن أثر ذلك قصرهم مناصب القضاء والإفتاء عليه وكذا الأوقاف، الأمر الذي كان دافعا قويا من دوافع التقليد والجمود، ومن أسباب ضعف العلوم الإسلامية وتراجعها.

العلم في تلمسان قبل عصر بني زيان:
وإذا تأملنا تاريخ تلمسان نجد أن نمو الحركة العلمية فيها كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بحكامها وولاتها المتعاقبين عليها، ففي عهد الأدارسة كانت العاصمة فاس المغربية، ولم ينقل لنا التاريخ عن هذا العصر أي أثر من آثار العلم والعلماء، وفي عهد الصنهاجيين (ابتداء من سنة 360) لم تكن تلمسان إلا مجرد مدينة صغيرة انتزعت من يد الموالين لبني أمية، فلم تظهر فيها حركة علمية، إلا أننا نجد أن الفقيه المحدث أحمد بن جعفر الداودي المسيلي الأصل قد استقر بتلمسان وتوفي بها سنة (401)، ولعلّه كان عين هناك قاضيا من طرف الحماديين.
ولما أصبحت تلمسان تابعة لدولة المرابطين ابتداء من (472-1079م) ولمدة 67 سنة، ورغم أن عاصمتها كانت آنذاك فاس ثم مراكش، فقد اهتمت بعمران هذه المدينة وتعميرها، فجدَّدت بناء المدينة القديمة لتلمسان –أجادير- ووسعتها، فصارت حاضرة من الحواضر، وكانت دولة المرابطين حريصة تولية منصب القضاء لأهل العلم الأكفاء، وممن ولي هذا المنصب في عهدهم محمد بن داود بن عطية العكي الجراوي (ت:525)، ومن الفقهاء الذين برزوا بتلمسان في عهد المرابطين يعقوب بن حماد الأغماتي الذي كان مدرسا بجامعها العتيق عام (523)، وعبد الله بن خليفة بن أبي عرجون (ت:534) وعثمان ابن صاحب الصلاة (ت:542)، ومن أقام بها مدة من الأعلام الكبار في هذه المدة يوسف بن محمد ابن النحوي المتوفي في قلعة بني حماد سنة (513). [انظر الصلة (3/874) باقة السوسان (418، 457)]
ثمّ احتلها الموحدون (539-1144) الذين جلبوا بلاء على بلاد المغرب؛ فحاربوا الفقه المالكي وفقهاءه، ونشروا المذهب الظاهري، وفرضوا العقيدة الأشعرية على الناس فرضا، وفتحوا الباب لغلاة التصوف في نشر مذاهبهم الضالة، وكان من أول أعمالهم في تلمسان قتل الفقيه عثمان ابن صاحب الصلاة (ت:542)، ولم يولوا القضاء من الفقهاء إلا من كان له باع في الأصول -على طريقتهم الكلامية- فكان منهم أبو الحسن علي بن عبد الرحمن المعروف ابن أبي قنون (ت:577)، ومحمد بن عبد الحق اليعفري (ت:625)، ومحمد بن عبد الله بن مروان الظاهري الذي ولي قضاء تلمسان ثم استدعي لتولي القضاء في مراكش وتوفي بها عام (601). [انظر باقة السوسان (420-418، 469)]

العلم في تلمسان في عصر بني زيان:
ثمّ حكم تلمسان الزيانيون ابتداء من سنة (633-1235م) واتخذوها عاصمة لدولتهم، وعرفت المدينة نوعا من الاستقرار؛ حيث دام حكمهم أكثر من ثلاثة قرون، وفي عهدهم أصبحت تلمسان حاضرة من أعظم حواضر العلم في العالم الإسلامي، ونشأ بها علماء لا يشق لهم غبار، وأضحت قبلة طلاب العلم من كل الجهات، وخلفت بجاية التي كانت عاصمة للعلم ومظاهر الحضارة مدة طويلة من الزمن، وصارت تضاهي في سمعتها القاهرة وبغداد وقرطبة.
وذلك عندما تنافس ملوك بني زيان في تقريب العلماء والأدباء وإكرامهم غاية الإكرام وترحيبهم بمن وفد إليهم من غير تلمسان، وتنافسوا في بناء المدارس التي لا يزال كثير من آثارها قائما إلى يومنا، تلك المدارس التي عينوا بها علماء أكفاء يقومون على التدريس فيها مختلف العلوم الشرعية، وزودوها بمرافق تخدم طلبة العلم الذي ضمن لهم فيها المأوى والمطعم والملبس.
ومن الناس من يرى أنّ ذلك كان بدافع التباهي وتخليد الذكر، أو منافسة ملوك البلاط الحفصي والبلاط المريني، ومهما يكن الأمر فإن هؤلاء الملوك قد عرفوا الطريق الذي يُكسبهم ثقة شعوبهم، واهتدوا إلى العمل النافع الذي يُخلد ذكرهم، وهو في الواقع نفسه زاد أخروي ينالون ثوابه بحسب درجة إخلاصهم فيه.

وفيما يأتي تفصيل مظاهر خدمة العلم والعلماء:

أولا: إنشاء المدارس
أول شيء نذكره في هذا السياق هو بناء المدارس الشرعية الخاصة؛ التي كانت تعادل المعاهد والجامعات في عصرنا من حيث المستوى العلمي للمدرسين فيها والكتب المقررة فيها، إضافة إلى سلوك طريق التعليم المنظم، واعتماد النظام الداخلي للطلاب.
ومما يلاحظ أن بني مرين الذين ملكوا تلمسان -في مدة تخللت عصر بني زيان- قد تأثروا بهم وسلكوا مسلكهم في بناء هذه المدارس، وفيما يأتي تعداد لهذه المدارس.


1 المدرسة القديمة أو مدرسة ابني الإمام :

أنشأها أبو حمو موسى الأول عام (710) إكراما للأخوين الفقيهين المعروفين بابني الإمام التنسي أبو زيد عبد الرحمن (ت:743) وأبو موسى عيسى (ت:750) لما انتقلا إلى تلمسان، وزودها بجميع المرافق بما في ذلك سكنان للشيخين المذكورين، وكان موقعها غرب مسجد ابني الإمام الذي لا يزال قائما بحي المطمر القديم، وصارت هذه المدرسة قبلة الطلبة من كل حدب، وقد تخرج منها كبار فحول العلماء في تلك الحقبة كالشريف التلمساني، وابن مرزوق الجد، وأبو عبد الله المقري، وابن عبد النور الندرومي، وسعيد العقباني وغيرهم ممن اخترقت شهرتهم الآفاق، [انظر بغية الرواد ليحيى بن خلدون (1/131) تاريخ ملوك بني زيان للحافظ التنسي (139) باقة السوسان (397)].


2 المدرسة التاشفينية :

بناها أبو تاشفين عبد الرحمن الأول (718-738) لما صارت مدرسة ابني الإمام لا تكفي لكثرة الطلبة الوافدين عليها، وعين بها مدرسين من كبار العلماء من أمثال أبي موسى عمران بن موسى المشدالي (ت:745) وأبو عبد الله محمد السلاوي (ت:737)، وكان موقعها بجانب الجامع الكبير جنوبا، وقد أودع فيها بانيها أجمل نماذج الزخارف فكانت تحفة فنية، قال المقري في وصفها بأنها من بدائع الدنيا، وقال الحافظ التنسي:"إنها عديمة النظير"، ولم تزل قائمة حتى هدمها الفرنسيون، وبنوا مكانها دار البلدية، ونقلت تحفها وزخارفها إلى بعض المتاحف الجزائرية والفرنسية، وممن درَّس بها من الأعلام أبو عثمان سعيد العقباني (ت:811) [انظر تاريخ ملوك بني زيان للحافظ التنسي (141) أبو حمو موسى الزياني حياته وآثاره لحاجيات (44، 61-62) باقة السوسان (397) تلمسان عبر العصور (128) نفح الطيب للمقري (6/47) ].


3 _ مدرسة أبي الحسن المريني :

أنشأها أبو الحسن المريني عام (748)، وموقعها غرب جامع سيدي أبي مدين بقرية العبَّاد، وذلك أيام استيلاء المرينيين على تلمسان، وهي المدرسة الوحيدة التي لا يزال بنيانها قائما إلى يومنا هذا [باقة السوسان (399)].


4 _ مدرسة إبى عنان :

أنشئت بجانب جامع سيدي الحلوي، وكلاهما من تشييد أبى عنان فارس المريني عام 745، وكأنه قلد والده أبا الحسن الذي أنشأ جامع سيدي أبي مدين والمدرسة المجاورة له [باقة السوسان (398)].


5 _ المدرسة اليعقوبية :

أنشأها السلطان أبو حمو موسى الثاني عام (765)، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى يعقوب والد السلطان أبي حمو لقربها من ضريحه، وكانت مدرسة فريدة في بنيانها أيضا، وقد قيل في وصفها بأنها: «مدرسة مليحة البناء واسعة الفناء بنيت بضروب من الصناعات ووضعت في أبدع الموضوعات، سمكها بالأصبغة مرقوم وبساط أرضها بالزليج مرسوم..غرس بإزائها بستانين يكتنفانها و.. صنع فيها صهريجا مستطيلا، وعلى طرفيه من الرخام خصتان يطردان مسيلا فيا لها من بنية وما أبهجها»، وكان موقعها شمال جامع سيدي إبراهيم مصمودي، ولم تنطمس آثار هذه المدرسة إلا في أواخر القرن الماضي، وقد أوكل التدريس فيها لأبي عبد الله الشريف التلمساني (ت:771)، بل قد بنيت له كما قال الحافظ التنسي، وكان التلمساني رحمه الله يبدأ نشاطه فيها من الفجر ولا يرجع إلى بيته إلا بعد العشاء، وربما اتصل نشاطه بها أياما وشهورا دون انقطاع، حتى بقي بها مرة ما يزيد على ستة أشهر لم ير فيها أهله وولده اشتغالا بالدرس والبحث، وتخرج من هذه المدرسة على يد التلمساني علماء كبار أمثال ولديه عبد الله وعبد الرحمن، وعبد الرحمن بن خلدون وأخيه يحيى.
وقد خلفه عليها ابنه أبو محمد عبد الله (ت:792)، وممن درَّس بها من المشاهير بعد ذلك العصر أحمد بن زاغو (ت:845) كما نقله القلصادي في رحلته (ص104) [انظر تاريخ ملوك بني زيان للحافظ التنسي (179) البستان (165، 177) تاريخ الجزائر العام للجيلالي (2/286) باقة السوسان (399) أبو حمو موسى الزياني حياته وآثاره (160،182)].

6-مدرسة سيدي الحسن أبركان:
سميت باسم أحد العلماء، وهو الحسن بن مخلوف الراشيدي الشهير بأبركان، وموقع هذه المدرسة قرب أطلال مسجد سيدي الحسن المذكور؛ خارج باب زير وانطمست آثارها، وقد تكون هذه المدرسة هي المدرسة الجديدة التي أنشأ السلطان أبو العباس أحمد المعروف بالعاقل فيما بين (824-865). وقد كانت موجودة في عصر محمد بن يوسف السنوسي (ت:895) حيث نقل أن السلطان بعث له في أخذ شيء من غلة مدرسة سيدي الحسن أبركان فامتنع واعتذر عن ذلك. [تاريخ بني زيان للحافظ التنسي (248-249) باقة السوسان (399) البستان لابن مريم (240)]

7-مدرسة منشر الجلد:
لا يعلم شيء عن منشئ المدرسة أو موقعها، وقيل ربما كان موقعها قرب مسجد ابن البناء، إذ بجوار هذا المسجد كان إلى عهد قريب سوق الجلد يقصده الدباغون والخرازون، وفي البستان أن اسم المدرسة منشار الجلد إضافة إلى سوق قريب منها، وأنها كانت قائمة في عهد ابن مرزوق الحفيد (ت:842). [باقة السوسان (399-400) البستان لابن مريم (79، 270، 230)]

ثانيا: تشييد المساجد
لم يكن التعليم في تلمسان مقصورا على المدارس والمعاهد فحسب، بل كان له مجال أوسع من ذلك، وهو المساجد التي كانت المقر القديم والأصلي للتعليم، وقد قال ابن باديس رحمه الله كما في الآثار (4/94):« المسجد والتعليم صنوان في الإسلام من يوم ظهر الإسلام...فارتباط المسجد بالتعليم كارتباطه بالصلاة، فكما لا مسجد بدون صلاة كذلك لا مسجد بدون تعليم، وحاجة الإسلام إليه كحاجته إلى الصلاة، فلا إسلام بدون تعليم، ولهذه الحاجة مضى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – على عمارة المسجد بهما، فما انقطع عمره كله عن الصلاة، وعن التعليم في المسجد، حتى في مرضه الذي توفي فيه. ثم مضى المسلمون على هذه السنة في أمصار الإسلام يقفون الأوقاف على المساجد للصلاة والتعليم، ومن أظهر ذلك وأشهره اليوم، الجامع الأزهر، وجامع الزيتونة، وجامع القرويين».
وقد اعتبر الميلي التعليم في المدارس تعليما حكوميا والتعليم في غيرها تعليما حرا، وإذا اعتبرنا تلك المدارس مقرا للتعليم العالي الخاص بالطلبة؛ فإن المساجد كانت ولا زالت محلا للدروس التي يحضرها العامة والخاصة، الطلبة وغيرهم، ومقرا للتعليم بجميع مراحله ابتداء من تعليم المبادئ الأولية للعلوم كالخط والحساب وتحفيظ القرآن الكريم، كما أنها قد حوت مكتبات عامرة بالمخطوطات الموقوفة التي ينتفع بها العلماء والطلبة، وحسب بعض الإحصاءات فإن عدد مساجد تلمسان كان في نهاية القرن التاسع حوالي ستين مسجدا. [انظر تاريخ الجزائر للميلي (2/866) تاريخ الجزائر الثقافي لسعد الله (1/45)].
ومن أهم المساجد التي بقيت إلى يومنا هذا الجامع الكبير أو الأعظم الذي يرجع على عهد المرابطين، وقيل إنه من بناء الحماديين وجدده المرابطون، وفيه توسيعات حدثت في عهد بني زيان، ومن العلماء الكبار الذين تولوا إمامته والتدريس فيه سعيد بن محمد العقباني (ت:811). وكان يعتبر جامعة من جامعات العلم على نمط جامع الزيتونة والقرويين.
ومنها مسجد سيدي أبي الحسن الذي أسسه السلطان أبو سعيد عثمان سنة (696)، ومسجد أولاد الإمام وكان تابعا للمدرسة التي بناها أبو حمو موسى الأول سنة (710)، ومسجد سيدي إبراهيم المصمودي: أسسه السلطان أبو حمو موسى الثاني إلى جانب المدرسة اليعقوبية سنة (765)، وقد سبق ذكر مسجد سيدي بومدين الذي بناه أبو الحسن المريني، وكان ولى عليه محمد ابن مروزق ثم ابن أخيه محمد بن أحمد الشهير بابن مرزوق الخطيب(ت:781)، ومنها مسجد سيدي الحلوي الذي بناه أبو عنان المريني عام (750). [ انظر جوانب من الحياة في المغرب الأوسط لمحمود بو عياد (81-82) تلمسان عبر العصور لمحمد بن عمرو الطمار (44) أبو حمو الزياني حياته وآثاره لعبد الحميد حاجيات (35) بغية الرواد (1/60) نيل الابتهاج (2/112)]
ومن نوادر ما يحكى في هذا الباب ما ورد في البستان (ص:145) أن علي بن يحيى السلكسني (ت:972) كان إماما لمسجد أجادير، وكان يدرس فيه أنواع العلوم طول النهار لا يفتر إلا وقت الصلاة والأذان، ويتولى الأذان بنفسه ليخرج من الخلاف في أجرة الإمام، وكان إذا صعد الصومعة يصعد معه طالب يقرأ عليه في طريقه ذهابا وإيابا.

ثالثا: إنشاء المكتبات العامة
ومن الركائز المهمة التي بنيت عليها الحياة العلمية؛ وزادت من حركتها في عهد بني زيان: المكتبات العامة، ولا يمكن لأي حركة علمية أن تزدهر إذا اقتصرت على تدريس المُقرَّرات في العلوم فحسب، بل لا بد أن يصحب ذلك حركة النسخ التي توفر الكتب الموسوعية التي لا تُدرَّس غالبا، ولكن تُعتمد في البحث والتأليف والمطالعة، ووضع هذه الكتب في مكتبات عامة يجعلها في متناول طالبيها من غير حاجة إلى نسخها أو شرائها مما يوفر للمعلمين والمتعلمين وقتهم وأموالهم.
ومن تلك المكتبات العامة التي أنشئت في تلمسان مكتبتا الجامع الأعظم، الأولى المكتبة التي أنشأها السلطان أبو حمو موسى الثاني عام 760 (1359) وقد كان معروفا بحب جمع الكتب، وكانت هذه المكتبة على يمين المحراب من الجدار القبلي، وقد هدمت المكتبة وفقد ما كان بها من كتب حوالي عام 1266هـ (1850) حين قامت مصلحة الآثار التاريخية الفرنسية بإصلاح وترميم ما تلاشى أو انهدم من الجامع الأعظم.
والثانية المكتبة التي أنشأها السلطان أبو زيان محمد بن أبي حمو الثاني عام 796 (1394)، وكانت هذه المكتبة بالقسم الأمامي من الجامع الكبير، ثم نقلت إلى المدرسة الدولية عام 1323 (1905)، ثم نقلت بقية منها إلى مكتبة ثانوية الحكيم ابن زرجب [باقة السوسان (400)].
ويتبع هذا الإنشاء التعمير الذي لا يقتصر على عصر منشئها وجهوده، بل يتعدى إلى عصور الملوك بعده، وجهود العلماء ونساخ المخطوطات والمحسنين؛ الذين يتبرعون بالكتب ويوقفونها طلبا للأجر وعموم المنفعة بها. قال الحافظ التنسي في وصف أبي زيان المذكور(ص:211): « نسخ رضي الله عنه بيده الكريمة نسخا من القرآن وحبسها ونسخة من صحيح البخاري ونسخا من الشفا لأبي الفضل بن عياض حبسها بخزانته التي بمقدم الجامع الأعظم من تلمسان المحروسة، التي هي من مآثره الشريفة المخلدة من ذكره الجميل، ما سرت به الركبان لما أوقف عليها من الأوقاف الموجبة للوصف بجميل الأوصاف». وممن ملأت مخطوطاته خزائن أهل تلمسان الفقيه الأديب محمد بن الحداد الوادي آشي الذي دخلها بعد سقوط غرناطة (897)، وقد ذكر المقري في أزهار الرياض أنه رأى في خزائن أهل تلمسان بخطه نحو المائة سفر.

رابعا: جعل الجرايات على العلماء والطلبة
ومن أهم مظاهر الاهتمام بالعلم والعلماء إضافة إلى تشييد مؤسسات التعليم: تخصيص المخصصات والجعالات للعلماء، وتأمين نفقات طلبة العلم، ولا شك أنّ إهمال الدولة للتعليم وعدم اعتنائها بأهله من أعظم أسباب نقص العلم أو زواله، كما أنّ محاربته وطرد أهله وتشريدهم يؤدي إلى ذلك، ويظهر الإهمال بعدم بناء المدارس وعدم تعيين المعلمين فيها وفي الجوامع والمساجد بخلا وشحا على خزينة الدولة، وذلك ما حدث في العصور المتأخرة جدا كما قال الطاهر بن عاشور في كتابه أليس الصبح بقريب (83):«وبقي العلم مع استمرار دولة مماليك الترك الدايات في حضيض السقوط، فانتثر سلكه وانزوى الناس في بيوتهم اتقاء الفتن، فذوت شجرة العلم وصار ضئيلا، لإقبال أهله على أسباب الارتزاق بأنواع الحرف» فذكر من المشاهير من كان يحترف بيع الزهور ومن كان دباغا، ومن كان يقرئ العلم بالأجر يأخذه من التلاميذ.
وفي عهد بني زيان كان القيام على هذا الأمر ظاهرا، وسبق في هذه المقالة شيء من دلائله، ومن ذلك قول الحافظ التنسي عن أبي حمو الثاني لما شيد مدرسته:« وقد احتفل بها هذا السلطان واعتنى بها، وأكثر عليها الأوقاف ورتب فيها الجرايات».
إلا أنه في العصور الأخيرة قبل الانهيار والسقوط، قد ضعفت العناية بالعلماء كما حكى ذلك حسن الوزان أو ليون الإفريقي. [انظر تاريخ الجزائر الثقافي (1/274)]

خامسا: وقف الأوقاف
يعتبر الوقف الإسلامي من أهم دعائم الحركة العلمية واستمرارها، إذ كثير من الملوك والأثرياء قد حبسوا الأحباس على العلماء والطلبة والأئمة، وكل من يخدم العلم والقرآن والمساجد؛ طلبا للثواب والصدقات الجارية التي لا تنقطع إلا باندثار الوقف، ولا شك أن الكتاتيب والمعاهد والمساجد والمكاتب تحتاج إلى أموال كثيرة لتسييرها وتعميرها وصيانتها، كما أن الجرايات وحاجات طلبة المعاهد تستدعي نفقات لا يمكن أن توفي بها خزينة الدولة على الدوام، ولقد كانت الأوقاف عبر تاريخ الإسلام هي المصدر الدائم لأهل العلم وطلبته وخدامه، والمصدر الآمن الذي لا يتأثر بميول الحكام أو ضعف الخزينة، وكما أن كثرة الأوقاف والقيام عليها يضمن دعم الحركة العلمية؛ فإن قلتها أو ضياعها أو غصبها سبب قلة العلم وضعفه؛ كما حدث في عهد الأتراك في قسنطينة وبسكرة، وقد شهد بذلك الورتيلاني في رحلته حيث قال (ص:111):« فأصبحوا يأكلون منها وينتفعون بها كالأملاك الحقيقية، وهي ليست لهم وليسوا أهلها، ولكنهم تمردوا وطغوا وجعلوا جميع الخطط الشرعية لهم ظلما، وهذا سبب اندراس العلم وأهله من كل وطن يوجد فيه ذلك».
ولا شك أن كل تلك المؤسسات التي شيدها بنو زيان كان لها من الأوقاف ما يؤمن سيرها، ومما نقل لنا في هذا الصدد أن أبا حمو الثاني لما افتتحت مدرسته أكثر عليها من الأوقاف ورتب فيها الجرايات، وبعد أن حضر أول درس ألقاه فيها الشريف التلمساني؛ أشهد على تلك الأوقاف وكسا طلبتها كلهم وأطعم الناس، وقد سبق أن ولده قد نسخ مجموعة كبيرة من الكتب وأوقفها في مكتبة الجامع الأعظم.
وقال الحافظ التنسي في وصف أبي العباس أحمد العاقل (834-866) (ص:248-249):« بنى مدرسة جديدة أوقف عليها أوقافا جليلة، ووجد كثيرا من ريع الأحباس قد دثر، والوظائف التي بها انقطعت فأحيى رسمها وجرد ما دثر، وأجرى الوظائف على أزيد مما كانت عليه قبل، فحُمد في سعيه وبقي له ذكر حسن».

سادسا: المجالس العلمية في حضرة السلطان
ومن مظاهر اعتناء الملوك بالعلم تلك المجالس العلمية التي كانت تُعقد في قصورهم وبحضرتهم، مجالس يحضرها كبار العلماء والأدباء لقراءة كتب الفقه أو الحديث، أو لمدارسة بعض القضايا ومناقشتها والمناظرة فيها، وممن عرف بهذه المجالس عبد الرحمن أبو تاشفين بن أبي حمو الأول (718-737)، ومن الوقائع التي نقلت إلينا مجلس تناظر فيه أبو زيد ابن الإمام وأبو موسى عمران المشدالي في منزلة ابن القاسم هل هو مقلد لمالك أم مجتهد مطلق، ومجلس اجتمع وأبو إسحاق إبراهيم بن الحكم الكناني وكان يُقرأ على ابن الإمام صحيح مسلم فتناقشوا فيه أبو زيد بن الإمام وأبو عبد الله المقري في مسألة لغوية متعلقة بحديث من الأحاديث. [انظر تعريف الخلف للحفناوي (2/216-217)]
وقد سار على هذا النهج أبو الحسن المريني في أيام حكمه لتلمسان، قال ابن مرزوق الخطيب: «فاجتمع بحضرته أعلام ثم ضم لهم من كان بتلمسان وأحوازها حين استيلائه عليها، ثم استمر هذا العمل في دخوله إفريقية ولم يزل على هذا إلى أن توفي». وممن شملهم هذا المجلس ابني الإمام التنسي أبو زيد وأبو موسى، وأبو موسى عمران المشدالي والقاضي محمد بن عبد الله الندرومي (ت: 749) وشيخ قراء المغرب أحمد بن محمد الزواوي (750) وغيرهم. [مقدمة تحقيق المفتاح للتلمساني لشيخنا فركوس (27-28)].
وتبعه على ذلك ولده أبو عنان الذي قال عنه الشريف التلمساني في مقدمة المفتاح (232) أنه صار يفصل في مضيق المناظرات ويجلو دجى المشكلات ويلي كشف حجابها.
وممن أثر عنه تنظيم مثل هذه المجالس من ملوك بني زيان محمد بن أبي حمو (796-801) حيث قال الحافظ التنسي في مدحه (ص:211) « وتصرف في شبيبته بين دراسة معارف وإفاضة عوارف، وكلف بالعلم حتى صار منهج لسانه وروضة أجفانه، فلم تخل حضرته من مناظرة ولا عُمِرت إلا بمذاكرة ومحاضرة، فلاحت في أيامه شموس وارتاحت للاستغراق فيه نفوس بعد نفوس».

سابعا: تيسير إقامة العلماء وإكرامهم
ومن الأمور التي تدفع بالحركة العلمية في المدن -إضافة إلى الاستقرار الأمني- أن تتيسر إقامة العلماء فيها، وأن يرحب بذلك الملوك وحاشيتهم، بخلاف ما إذا كانت الأحوال السياسية مضطربة، أو كان للملوك موقف سلبي من العلماء، كما كان من شأن الفاطميين والموحدين؛ فإن ذلك يدفع بالعلماء إلى الهجرة من كل بلد يستولون عليها، ومما عُرف به ملوك بني زيان محبتهم للعلماء وترحيبهم بهم، بل ودعوتهم للإقامة في بلادهم ليقينهم بأن شرف النسب والملك لا يكمل إلا بشرف العلم.

ولقد كان أوَّل من عُرف بهذه الخصلة الحميدة يغمراسن بن زيان (633-681)؛ الذي كان كما وصفه الحافظ التنسي (ص:125وانظر ما بعدها):"ديِّنا فاضلا محبا لأهل العلم والصلاح... وله في أهل العلم رغبة عالية يبحث عليهم أين ما كانوا، ويستقدمهم إلى بلده ويقابلهم بما هم أهله"، وحكى عنه أنه كان يكاتب أبا إسحاق بن يخلف بن عبد السلام التنسي ويدعوه إلى سكنى تلمسان ويرغبه في ذلك، لكن الشيخ لم يقدم إلى تلمسان إلا بعد أن حدثت فتنة في بلاده، ولما بلغ خبره إلى السلطان جاء إليه بنفسه واجتمع به بالجامع الأعظم وقال له أمام فقهاء تلمسان:« ما جئتك إلا راغبا منك أن تنتقل إلى بلدنا تنشر فيها العلم وعلينا جميع ما تحتاج» ووافق ذلك غرض الفقهاء الحاضرين فعظموا عليه قدوم السلطان وطلبه، وعزموا إليه أن يلبي رغبته فقبل. وأقطعه أرضا آلت بعد انقراض عقبه إلى ابني الإمام، قال:« وكان عنده أثير المنزلة لا يوجه في الرسائل غيره، وكذلك كان عند ولده أمير المؤمنين أبي سعيد بن يغمراسن». وكان انتقاله إلى تلمسان سببا لالتحاق أخيه أبي الحسن بها بعد رجوعه من المشرق.
قال التنسي:«ولما اشتهر اعتناؤه بالعلم وأهله، وفد عليه من الأندلس، خاتمة أهل الآداب المبرز في عصره على سائر الكتاب أبو بكر محمد بن عبد الله بن داود بن خطاب، فأحسن نزله ومثواه وقربه من بساط العز وأدناه، وجعله صاحب القلم الأعلى». ووفد عليه أيضا من تنس إبراهيم بن يخلف المطماطي (ت:670)، ومن الأندلس محمد بن غلبون المرسي وقد أكرمه وعينه قاضيا لتلمسان.
وكان أبو حمو موسى الأول (707-718) كذلك أيضا محبا للعلم وأهله، وقد ورد عليه الفقيهان أبو زيد وأبو موسى ابنا الإمام، فأكرم مثواهما واحتفل بهما، وبنى لهما المدرسة التي تسمى بهما، وكان يُكثر من مجالستهما والاقتداء بهما، قال التنسي (ص:139):« فلم ير ما يؤدي به شكر الله على النعمة التي من الله عليه بها من قتل عدوه وتعجيل الفرج إلا الاعتناء بالعلم والقيام بحقه».
وكذلك عبد الرحمن أبو تاشفين بن أبي حمو الأول(718-737)؛ كان له صفة أبيه وسابقيه، ولما وفد عليه الفقيه أبو موسى عمران المشدالي أكرم نزله وأدام المبرَّة له، وولاه التدريس بمدرسته الجديدة، وكذلك لما فرّ محمد السلاوي من بني مرين آوى إلى المدرسة التاشفتية ودرس بها على المشدالي وغيره إلى أن عينه أبو تاشفين مدرسا فيها، ولما ورد الفقيه أبو العباس أحمد بن عمران البجائي إلى تلمسان تاجرا قدمه أبو زيد ابن الإمام إلى السلطان أبي تاشفين؛ فرفع عنه الضريبة وعمن جاء معه وكانت مائتي دينار، وأعطاه زيادة على ذلك مائتي دينار ذهبية إكراما لعلمه وتقديرا له [انظر تاريخ ملوك بني زيان للحافظ التنسي (141-142) أبو حمو الزياني حياته وآثاره لعبد الحميد حاجيات (44)].
وأما أبو حمو موسى الثاني (760-791) فقال عنه التنسي (ص:179-180):« وأما اعتناؤه بالعلم وأهله فأمر يقصر اللسان عن الإجابة به»، ومن العلماء الذين كان يحبهم ويعظمهم الشريف أبو عبد الله التلمساني فإنه بمجرد استرجاعه لملك تلمسان من بني مرين استدعاه من فاس وتلقاه براحتيه وزوجه ابنته وبنى له مدرسة خاصة به، أكثر عليها من الأوقاف ورتب فيها الجرايات، قال التنسي:« وحضر مجلس إقرائه فيها جالسا على الحصير تواضعا للعلم وإكراما له، فلما انقضى المجلس أشهد بتلك الأوقاف وكسا طلبتها كلهم وأطعم الناس وطول الله مدته حتى ختم السيد أبو عبد الله المذكور تفسير القرآن العزيز فيها، فاحتفل أيضا لحضور ذلك الختم وأطعم فيه الناس وكان موسما عظيما».
وقد سبق أيضا في الفقرة السابقة وصف التنسي لأبي العباس أحمد العاقل (834-866) فلا نكرره هنا.

تلمسان قبلة العلماء ومحطة الرحالة:
ومما يدلنا على تيسر الإقامة في تلمسان وترحيب لأهلها بمن وفد عليها من العلماء أنها صارت قبلة العلماء والمتعلمين ومحطة يعبرها الرحالة في طلب العلم أو القاصدون لأداء المناسك ويقطنون بها، ومن هؤلاء: محمد بن محمد العبدري البلنسي (ت:700) في رحلته إلى الحج التي دونها في كتاب طبع باسم الرحلة المغربية، والوزير الملقب بلسان الدين بن الخطيب؛ فقد هاجر إلى تلمسان عام (773) وأقام بها سنة قبل أن يغادرها إلى المغرب، وكذا أبو الحسن علي القلصادي الأندلسي (ت:891) في رحلته، فقد مكث في تلمسان قرابة الثماني سنوات، قبل أن يواصل رحلته.
وكذا أبو جعفر أحمد بن علي الوادي آشي (ت:938) ارتحل من غرناطة إلى تلمسان مع أبيه وإخوته بعد (890)، وأخذ عن علمائها قبل أن يواصل طريقه إلى المشرق، ونزل بها محمد بن الحداد الواد آشي بعد سقوط غرناطة سنة (897)، وقد حلاه المقري في أزهار الرياض بقوله الفقيه الأديب. [مقدمة رحلة القلصادي (27-28)]
وحط فيها أيضا أحمد زروق عام 846 لما كان في طريقه إلى الحج، وأخذ عنه محمد بن علي السنوسي كما في مقدمة نصر الفقير لهذا الأخير.

ثامنا: تشجيع التأليف في العلوم
ومن إسهامات الملوك في الحركة العلمية تحريضهم على التأليف وتشجيع العلماء المؤلفين إما بالسؤال أو جعل الجوائر أو غير ذلك من الحوافز على تنشيط الهمة على الكتابة والتأليف، ومن أشهر هذه المؤلفات في تاريخ الإسلام الرسالة النظامية للجويني التي ألفها للوزير نظلم الملك، والصاحبي الذي ألفه ابن فارس للصاحب بن عباد، والإحكام في الأصول الذي ألفه الآمدي لأمير الشام، وفي تلمسان ألف الشريف التلمساني كتابه المفتاح كما في مقدمته للسلطان المريني أبي عنان، وألف تلميذه يحيى بن خلدون كتاب بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد (وهم الزيانيون)، كما ألّف الحافظ التنسي كتابه التاريخي الأدبي الذي سماه نظم الدر والعقيان في بيان شرف بني زيان، لسلطان زمانه محمد المتوكل حيث قال في مقدمة كتابه بعد أن أثنى عليه(107-108):« ولما كنت من جملة من غمرته آلاؤه وتواترت عليه نعماؤه وألبست منها حللا ضافية...نهضت في خدمته بقدر طاقتي واستعملت في ذلك ما رجوت أن يكون نافقا من بضاعتي جاهدا في مرضاته خاطري ولساني وأعملت فيما يزلف لديه ناظري وشأني جاهدا في ذلك بما أوسع لدي عسى أن أقوم ببعض واجب حقه علي»، وله أيضا راح الأرواح فيما قاله أبو حمو وقيل فيه من الأمداح.

ضعف الحركة العلمية بعد بني زيان:
وابتداء من عصر محمد المتوكل (ت:890) كان الضعف قد دبَّ في الدولة الزيانية، وبدأت تخضع للسلطان العثماني حتى حكموها نهائيا عام (ت:962) الموافق لـ1555م، والذي يلاحظه المؤرخون أن الحركة العلمية قد تراجعت كثيرا بعد هذا العصر.
وفي هذا يقول أبو القاسم سعد الله (1/39):« يعتبر إنتاج القرن التاسع...من أوفر إنتاج الجزائر الثقافي، ومن أخصب عهودها بأسماء المثقفين (أو العلماء) والمؤلفات، وفي إحصاء سريع أجريته لأسماء العلماء المنتجين خلال القرن التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر وجدت أن عددهم في القرن التاسع يفوق أعدادهم في القرون الباقية متفرقة، ولاسيما القرن العاشر…وكثير من إنتاج القرن التاسع ظل موضع عناية علماء القرون اللاحقة».

وبعد أن كانت تلمسان قبلة للعلماء أصبح من بقي منهم فيها يهجرونها إلى البلاد التي يجدون فيها الأمن والاستقرار ويحكمها الولاة والسلاطين الذين يعرفون لأهل العلم أقدارهم، فقد هاجر كثير من علماء تلمسان ونواحيها إلى المغرب الأقصى عقب استيلاء العثمانيين على مملكة بني زيان، وظلت موجة الهجرة مستمرة حتى بعد أن استقرت الأوضاع للعثمانيين [انظر تاريخ الجزائر الثقافي (1/423)].
وممن هاجر إلى فاس أقرب عواصم العلم إلى تلمسان: أحمد الونشريسي (ت:914) ومحمد ابن مرزوق (كان حيا سنة 918) وأحمد الواعزاني (ت:981) ومحمد بن محمد المعروف بشقرون (983) ومحمد بن عزوز الديلمي ومحمد بن محمد العباسي (كان حيا سنة920) وعلي بن موسى المطغري (ت:1051) ومحمد بن أحمد بن الوقاد (ت:1101) وعبد الرحمن بن إدريس الحسني (ت:1179).

خاتمة:
إنّ الله تعالى هو الذي تكفل بحفظ دينه بتسخير العلماء الذين يحملونه ويحفظونه، وبأن يسخر لهم من الأسباب ما يعينهم على القيام بهذه المهمة، ومنها أن يسخر لهم الملوك الذين يعظمون العلم ويخدمونه وأهله، والذين يعزون العلماء ويتبعونهم ولا يذلونهم ويتمندلون بهم، وليس معنى هذا أن الملوك إذا تخلّوا عن العلم والعلماء أن الدين سيضيع، لأنّهم سبب من أسباب كثيرة مجتمعة، والله تعالى يحفظ دينه بما يشاء، بل إنه ربما يسخر لدينه الكفار، كما رأينا ذلك جليا في بعض أعمال المستشرقين من تحقيق للمخطوطات ونشرها وعمل للفهارس ونحو ذلك، وفي الشبكة العنكبوتية النت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» (متفق عليه)، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.





سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)