تلمسان - Autres Religieux Musulmans

تلمسان تسترجع الذكرى المائة لوفاة الشيخ عبد القادر المجاوي التلمساني



تلمسان تسترجع الذكرى المائة لوفاة الشيخ عبد القادر المجاوي التلمساني
عبد القادر المجاوي التلمساني
باعتباره أحد أقطاب النهضة الجزائرية في تصدّيه للاستعمار الغاشم
لم تـكـن النهضة الجزائرية وليدة الصدفة، بل جاءت كمحطة لجهود علماء جزائريين ومثقفين، حاولوا إنقاذ المجتمع الجزائري من حالة التعفن والتخلف والجهل التي وصل إليها من جراء كثرة البدع والخرافات والانحرافات، ولقد تولى مهمة محاربة هذه البدع وأحداث الانبعاث الثقافي في الجزائر الكولونيالية مجموعة كبيرة من المصلحين والعلماء والمثقفين، وفي مقدّمتهم أحد رواد الإصلاح في الجزائر الشيخ عبد القادر المجاوي الذي تحتفل تلمسان بذكرى المائة سنة لوفاته، حيث برز منذ السنوات الــ 40 الأولى من عمر الاستعمار الفرنسي من خلال الدفاع عن القيم الأساسية للشعب الجزائري الذي كان يعاني آنذاك من عنف جنود الاستعمار.
ولد الشيخ عبد القادر المجاوي التلمساني في تلمسان في عام 1266 هـ/ 1848 م، وهو ينتمي إلى أسرة تلمسانية عريقة ساهمت في نشر العلم وممارسة القضاء، حيث تقلّد والده محمد بن عبد الكريم المجاوي منصب القضاء بهذه هذه المدينة لمدة خمسة وعشرين عاما فنشأ ابنه نشأة علمية، ثم انتقل إلى المغرب لما عيّن والده قاضيا بطنجة، فدرس بتطوان ثم بجامع القرويين بفاس على مجموعة من العلماء المعروفين أمثال الشيخ صالح الشاوي، الشيخ أحمد بن سودة، الشيخ جعـفر الكتاني…الخ، ليعود بعدها إلى ارض الوطن عام 1869، أين استقر أولا في قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري، ودرس في مساجدها، وفي سنة 1877 تولّـى تدريس العلوم الشرعية واللغة العربية في المدرسة الكتانية التي أسسها صالح باي في عام 1778، لتـنـتـشر بسرعة شهرته العلمية في البلاد فأقبل على دروسه طلاب العلم من كل أرجاء الوطن، وكان من أبرز تلامذته عالمان كان لهما شأن علمي عظيم، فالأول هو حمدان الونيسي المدرس بالمسجد النبوي بعد هجرته إلى الحجاز، وهو كذلك أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، أما العالم الثاني فهو المولود بن الموهوب المدرس بالمدرسة الكتانية وأستاذ المفكر مالك بن نبي (1905-1973) الذي تحدث عنه كثيرا في كتابه “مذكرات شاهد القرن” وقد لازم الشيخ ابن الموهوب أستاذه لمدة 12 سنة ثم أجازه وسمح له بالتدريس والوعظ، كما ساعـده على الانضمام إلى المدرسة الكتانية ليشتغل بها مدرسا للفقه والأدب العربي، وأصبح فيما بعـد 1908 مفتيا لقسنطينة، لينتقل بعد الشيخ المجاوي عام 1898 إلى الجزائر العاصمة للتدريس بمدرسة الجزائر العليا (الثعالبية) المكلفة بتكوين القضاة والمترجمين الجزائريين، ثم توسع نشاطه بداية من سنة 1908 خارج المدرسة الثعالبية للدعوة والإرشاد فعمل إماما واعظا في مسجد سيدي رمضان ومسجد سيدي محمد الشريف، كما أسدى الشيخ المجاوي نصائح مفيدة لطلبة العلم في كتابه “إرشاد المتعلمين” وليس للمعلمين، حيث يجيب عن السؤال: ماذا ندرس؟ ولا يجيب عن السؤال: كيف ندرّس؟ ومحاولته هي حوصلة لمجموعة العلوم التي يجب أن يتعلمها الإنسان وهو يشبه في ذلك كل العلماء المسلمين الذين درسوا هذا الموضوع فيما يمكن أن نسميه بعلم إحصاء العلوم وهو متأثر كثيرا بمنهج ابن خلدون في كتابه المعروف بــ “المقدمة”، وقد قسّم الشيخ المجاوي العلوم إلى ثلاثة أنواع : علوم اللسان، علوم الأديان، علوم الأبدان، ففي القسم الأول يركز على تعلم اللغة، واللغة المقصودة هنا هي العربية، فهي في نظره “أقدم لغات العالم المستعملة الآن أوسعها، وفضلها على غيرها يشهد به كل من يعرفها ولو كان أعجميا، فهي أفصح اللغات منطقا وبيانا وأكثرها تصرفا في أساليب الكلام وأقبلها تفننا في النثر والنظام، وقد ملأها الله من الآداب والحكم فنالت من الأمثال القديمة والحديثة ما لم ينله غـيرها، وهي في الشعـر لا يشق لها غـبار ولا يباريها مبار”، كما تحدث في القسم الثاني عن علوم الأديان وهو يقصد بذلك العلوم الشرعـية المتمثلة في علم التفسير، العقيدة وعلم الحديث، علم الفرائض، الفقه وأصوله، حيث ساهم الشيخ المجاوي بكل ما أوتي “في إحياء اللغة العربية والعلوم الإسلامية وبذل جهدا جهيدا في سبيل ارتقاء مستوى الجزائر الثقافي”، وكذا إحياء أمجاد ماضيها وغرس مع جيله من المثقفين البذرة التي تحوّلت فيما بعد إلى مصدر للروح الوطنية الجزائرية، أما القسم الثالث فقد تضمّـن عدة علوم تخدم في مجموعها صحة الإنسان، وهي في نظره : الطب، علم الطبيعة، التاريخ الطبيعي، علم الحيوانات، علم النباتات، علم الطبقات الأرضية، الكيمياء، ويرى الشيخ المجاوي أن علم الطب هو الأهم لأن كل العلوم “حتى علوم الدين لتوقف القيام بها عليه”، وقد كانت دروس الشيخ المجاوي تعالج كل هذه المسائل من علم التوحيد والتفسير وشرح الأحاديث النبوية، حيث كانت طريقته دقيقة ومركزة تتناول الموضوع من كل جوانبه ولا يتعداه إلى موضوع آخر.
وبالإضافة إلى علمه الغزير كان يتمتع بأخلاق عالية وعلى رأس هذه الأخلاق التواضع التي هي أهم خصلة التي يجب أن يتصف بها العالم الحقيقي، وهي الخصلة التي تفتح لها القلوب وتكسب لصاحبها القبول عند الناس، فالشيخ المجاوي كان متواضعا مع غيره مهما كانت منزلته العلمية أو الاجتماعية، وكان من شدة تواضعه قربه الشديد من تلامذته فهو يهتم “بشؤونهم، ويذل الوسع في قضاء مآربهم، ويصده علو الهمة عن مجاراتهم فيما يزري بخطته بالشريفة…ولعـل هذا الخلق الذي لا ينبل الرجل إلا به، هو الذي غرس له في قلوب الجمهور مودة واحتراما”، فمهمّته لا تتوقف إذن على التعليم في المدرسة أو المسجد بل كان هذا الأستاذ “يتابع تلاميذه بجـدية، ويشجعهم دائما ويتتبع سيرتهم داخل وخارج المدرسة وينبههم دائما على الأوضاع والمشاكـل المعاشة، إذ كانت يقظته متواصلة وتصب في الصالح العام”.
إنتاجه العلمي واهتمام الشيخ بتعلم اللغة العربية
لقد ألّـف الشيخ عبد القادر المجّاوي عدة كتب في شتى العلوم وهي في غالبيتها كتب مدرسية، صغـيرة الحجم موجهة لطلاب العلم، فمنها ما طبع، ومنها ما بقي مخطوطا لم يطبع بعـد، ويبلغ عددها حسب الدكتور سعد الدين بن أبي شنب ثلاثة عشر كتابا ورسالة، وهي : إرشاد المتعلمين، نصيحة المريدين، شرح إبن هشام، شرح اللامية المجرادية في المسائل النحوية، الدرر البهية على اللامية المجرادية في الجمل، نزهة الطّرف فيما يتعلّق بمعاني الصّرف، الدرر النحوية على المنظومة الشبراوية، شرح الجمل النحوية، شرح منظومة ابن غازي في التوقيت، الإفادة لمن يطلب الاستفادة، شرح منظومة البدع، الفريدة السنية في الأعمال الجيبية، تحفة الأخبار فيما يتعلق بالكسب والاختيار، كما نشر كتاب “إرشاد المعلمين” في القاهرة سنة 1877، وقـد أثار صدوره قلق المصالح الاستعمارية في الجزائر التي رأت فيه دعوة لليقظة والإصلاح، وهذا ما أكده الباحث الأمريكي آلان كريستلو، الذي درس مجموعة من الوثائق العسكرية المحفوظة بمركز أرشيف المستعمرات الفرنسية باكس آن بروفانس، موازاة مع ذلك قام مؤخرا باحث جزائري بتحقيقه ونشره بدار ابن حزم، وهو تضمن مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، وقـد نشرت جريدة “المغـرب” في عام 1903 الفصل الرابع حول “المعاش” في حلقتين، إضافة إلى هذا نشر الشيخ المجاوي “نصيحة المريدين” في تونس، و طبع “الدرر النحوية” و”شرح الجمل النحوية” و”الاقتصاد السياسي”، و”شرح منظومة البدع” في الجزائر، كما طبع “شرح منظومة ابن غازي في التوقيت” و”شرح شواهد القطر” في قسنطينة” و”شرح منظومة البدع”، هو كما يشير إليه عنوانه شرح لقصيدة كتبها تلميذه المولود بن الموهوب وقال فيها:
صعود الأسفلين به ذهبنا لأنا للمعارف ما هدينا
رمت أمواج بحر اللهو منا أناسا للخـمور ملازمينا
أضاعوا عرضهم والمال حبا لبنت الحان فازدادوا جنونا
وإقدام الشيخ المجاوي على شرح منظومة تلميذه سابقة في تاريخ الأدب العربي لأن المتعارف عليه هو الطالب الذي يشرح أقوال وكتابات أستاذه وليس العكس، وهذا ما دفع الشيخ حمزة بوكوشة إلى القول وهو محق في ذلك : “وهو في شرحه هذا النظم الذي نظمه تلميذه الشيخ المولود بن الموهوب، يخالف ما تعارف عليه الناس في عصر المتون والشروح، من أن التلميذ هو الذي يشرح كلام شيخه، وهذا إن دلنا على شيء فهو يدلنا على تواضع المجاوي”، وتضمن كتاب “القواعد الكلامية” مقدمة وعشرة فصول وخاتمة، حيث استشهد في هذا الكتاب بأقوال أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي وابن تيمية وابن خلدون والفارابي، أما الكتاب الثاني فعنوانه “المرصاد في مسائل الاقتصاد”، وقد صدر في الجزائر سنة 1904 عن مطبعة فونتانا ورغم صغر حجم الكتاب فإنه في غاية الأهمية من حيث المضمون والظرف الذي طبع فيه، فهذا العمل “جعله مثلا يقتدى به وبحرفية عالية كانت تجمع بين الاختصار والدقة والكفاءة ووضوح الرأي والتي كانت تعكس فكر المعلم المتعطش للمثالية، ومتطلبات الفكر العلمي”، وتبقى مكتبة الشيخ المجاوي محفوظة في مسجد برواقية وهي المدينة التي عمل فيها نجله الشيخ مصطفى بن عبد القادر المجاوي قاضيا، وقد زار هذه المكتبة العامرة بعض الباحثين واستفادوا منها كثيرا، كما كتب الشيخ المجاوي في بعض الصحف العربية الجزائرية منها : المغرب (1903-1904) وكوكب إفريقيا (1907- 1914)، وجريدة “المبشر” لسان حال الحكومة العامة الفرنسية في الجزائر، حيث تم إحصاء في هذا الصدد 12 مقالا في جريدة “المغرب” تناولت المواضع التالية: العلم والأخلاق (العلم، الحلم)، التراث العربي (مشاهير العرب، الطب العربي) وقضايا اجتماعـية (الافـتخار بالنفس والنسب، المعاش، العادة)، و15 مقالا في جريدة “كوكب إفريقيا” تدور مواضيعه حول الأخلاق (التربية، سماحة النفس، الأدب، حفظ اللسان الكبر، والإعجاب)، فضل المواسم الدينية (العيد الأضحى، المولد النبوي، العاشوراء، الهجرة، شهر رمضان، الحج)، وقضايا دينية واجتماعية (البدع، البطالة)، وقد تحصل الشيخ المجاوي في حياته على عدة أوسمة اعترافا وتقديرا بجهوده في التعليم والتأليف، وخصّصت له مجلة التقويم الجزائري التي كان يصدرها الشيخ محمود كحول (1870- 1936) والمستعرب بودي لوي مقالا منـوّها بفضله على الثقافة الجزائرية.
وفاة الشيخ عبد القادر المجاوي التلمساني
توفي الشيخ عبد القادر المجاوي التلمساني يوم السبت 26 سبتمبر 1914 بقسنطينة التي زارها منذ 20 سبتمبر لزيارة أقاربه وأصدقاءه وتلامذته، حيث كان له نشاط كثيف خلال هذه الزيارة، وقـد وأمّـم صلاة الجنازة تلميذه الشيخ “أحمد الحبيبتاني”، ثم ابنه الشيخ “المولود بن الموهوب في خطبة مؤثرة”، فقال: “هذا عبد القادر الذي أكرمنا الله بقدومه من تلمسان منذ خمس وأربعين من السنين فأحي القلوب كالغيث بعد القحط…رحم رب العالمين هذا الشريف عبد القادر الحسني الذي جاءكم بلوعة من المعارف والعلوم وبثها ونشرها ولم يبخل بها على الخصوص والعموم…هذا عبد القادر صاحب الأخلاق الطيبة الذي نوّر العقول…هذا عبد القادر النصوح الذي زين الوطن الجزائري تلامذته، وعمت بعلمه كل جهة ببركته…هذا أستاذ الجميع عبد القادر الذي ما من عالم إلا وله فضل عليه”، من جهته ألقى بعـده الشيخ “عبد الحميد بن باديس” خطبة كان لها وقع شديد في القلوب : “أيها الإمام الذي ببزوغ شمسه تمزقت سحب الجهل، وبدت غرة القلم المعين، أنت الذي عانيت في سبيل إصلاحنا أتعابا طويلة…كنت مثالا لحسن الأخلاق وكرم الطبع ولباب الفضيلة…نبكيك بالدموع السحيقة ويبكيك القرطاس والقلم، نبكيك وتبكيك المنابر ودروس العلم والحكم…نبكيك ويبكيك هذا القطر الحزين الذي غمرته بيض أياديك وغرر فضائلك الحسان، وقد حان أن أودعك (وعزيز علي وداعك) وداعا يعقبه اللقاء إن شاء الله في جنان الرضوان…ارجع إلى ربك راضيا مرضيا مثابا عليك بكل لسان مهدئا لك الفوز بالخلد في أرقى فراديس الجنان”، وختم ابن باديس خطبته بقصيدة طويلة، نكتفي هنا بذكر أبياتها الثلاثة الأولى :
ألا إن هذا الدهر ذو فتكات وإنا لنا في طيه لعظات
له عصميات في النفوس فلو رمى بها الراسيات صرن منخفضات
وكم قد رماها فاصطبرنا لرميه إلى أن رمى بأعظم النكبات
لقد تبوّأ الشيخ عبد القادر المجاوي مكانة مرموقة في الوسط العلمي الجزائري، وكان له فضل كبير على العلماء والقضاة والمترجمين الجزائريين الذين تتلمذوا عليه في المدارس العليا في قسنطينة والجزائر، كما كان له تأثير على عامة الناس الذين كانوا يقبلون على سماع دروسه وخطبه في المساجد، وانتشر تلامذته بدورهم في أنحاء القطر الجزائري ينشرون العلم ويخدمون القضاء الإسلامي ويحاربون البدع ويدعـون الناس إلى الإصلاح، فهو بحق أستاذ الجماعة وشيخ العلماء في الجزائر. عبد الرحيم


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)