“خبز الفرينة” بذوق الأعشاب يتسيد الموائد التلمسانيةأرشيف
لم تفلح كل محاولات أنواع الخبز التقليدية بتلمسان، من خبز الدار والمطلوع وغيرهما من الأنواع الأخرى في كبح زحف “خبز الفرينة” إلى المائدة الرمضانية لدى العائلات التلمسانية، حيث لا يزال هذا الخبز التقليدي يتسيد على موائد الصائمين خلال هذا الشهر الفضيل، وباقي أشهر السنة، ولا تزال طوابير السيارات، الذي يقطع أصحابها عشرات الكيلومترات نحو أعالي تلمسان، وتحديدا بمنطقة المفروش وما جاورها من قرى ومداشر، تؤكد أن هذا النوع من الخبز التقليدي التي تجتهد نسوة عجائز في توفيره للزبائن قبل ساعة أو اقل من ذلك عن آذان الإفطار.
ويعتمد بالأساس في طهيه على طرق بدائية، سيبقى حاضرا وبقوة كأفضل “خبز” تقليدي، طبيعي لدى العديد من المواطنين، وقد يستمر تسيده على موائد العائلات بتلمسان لعشرات السنين أو ربما لما يزيد عن مئات السنيين القادمة، ولن تؤثر عليه “المنافسة” الشرسة التي تقودها بعض الأنواع الأخرى من الخبز التقليدي ولا حتى تلك الأنواع العصرية من الخبز.
“كوشة العرب”
يزداد الطلب على خبز ما يعرف بخبز كوشة العرب، مع حلول شهر رمضان الكريم، أين يحج عشرات الصائمين قبيل أذان المغرب إلى منطقة المفروش بأعالي تلمسان، تأخذ مواكب السيارات طرق منعرجة صعودا، إلى أن تصل إلى المنطقة التي تتوزع فيه أفران تقليدية تجلس إليها نساء طاعنات في السن، يعملن على تحضير الخبز التقليدي، يخيم الصمت على أجواء المكان، إذ نادرا ما تسمع أصوات هؤلاء النسوة، وكأنك قد دخلت لطقس يسوده الصمت، حيث تبقى تلك النسوة منغمسات في تحضير الخبز إلى أن ينضج، ثم يقمن بإخراجه وتقديمه للزبائن، هؤلاء الزبائن الذين يبدوا أنهم تعودوا على هذا الطقس التي تشعر معه بكثير من السكينة، بعيدا عن ضجيج المدن، إذ هنا في مثل هذه المناطق الريفية لا صوت يعلو على صوت الصمت، حتى أصبحت هذه الأجواء ميزة تتميز بها مثل هذه المناطق دون غيرها من المناطق الحضرية الأخرى، ويبدو أن هذا الهدوء قد تجذر حتى في عادات الناس وهم يشتغلون، فلا وقت هنا إلا لمشاهد “كوشة العرب”.. وهي تنتصب هنا وهنالك، بكثير من الشموخ والمقاومة، تستفز فيك فضولك، لمعرفة ما الذي يجعل هذا “فرن تقليدي”، يجلب إليه كل هؤلاء الناس القادمين من مناطق بعيدة، كما هو الشأن مع “جمال”، هذا المواطن الذي اضطر لقطع ما يزيد عن 80 كلم، قادما من أقصى الحدود الغربية من أجل الظفر برغيف أو اثنين، والعودة إلى الديار قبل أذان الإفطار، وما الذي يجعل هذه المرأة الطاعنة في السن أو تلك العجوز المسنة التي حفرت الأزمنة على ملامحها تضاريس تشي بما تكبدته من قساوة الزمن منذ نعومة أظافرها، وهي تجلس مقرفصة بالقرب من فهوة تنبعث منها ألسنة النار، تقلب من حين لحين الخبز وهو ينضج على النار والجمر، في أجواء تعكس تلك العلاقة الحميمة التي ربطت تلك النسوة بتلك الأفران وقد تصاعد منها دخان تنبعث منه روائح جذابة، روائح تجعلك تعيش لحظة انتشاء لم يسبق أن عشتها من قبل.
اقتربت “الشروق” من تلك المرأة المسنة بعدما انتظرنا دورنا، كانت قد وضعت للتو خبزة داخل فوهة الكوشة، وكان علينا أن ننتظر إلى غاية نضوج الخبزة جيدا، في لحظات الانتظار تلك رفعنا ستار الصمت الذي كان يفصل بيننا وبين تلك السيدة، سألتها عن السر الذي يجعل من خبز الفرينة يمتلك ذوقا متميزا، ابتسمت ابتسامة كانت بمثابة رأس الخيط لإشباع ذلك الفضول المهني الذي اعتراني، لمعرفة “أسرار” هذا الخبز، الذي يحج الناس إليه من كل فج عميق من اجل الظفر بخبزة والاستمتاع بذلك الذوق الشهي الذي يبعث فيك الرغبة إلى تناول المزيد منه، ويفتح شهيتك للأكل، وما الذي يجعل من خبز الفرينة يتصدر باقي الأنواع؟
“مؤثر” من نوع خاص
جاءت الإجابة بما معناه أن هذا الخبز كتبه له الخلود، ولن ينقرض، وان كل أنواع الخبز التي اكتشفت بعده لن تنال منه، لأنه خبز لا يطهى فوق النار وفقط، بل ينضج داخل كوشة هي عبارة عن مزيج من الطين والتبن، تحافظ على درجة حرارة معينة، تساعد على نضوج الخبز بطريقة طبيعية لا تحتاج لأي عامل اصطناعي، ولا يحتاج هذا الخبز إلى قارورة غاز والى مواد كيماوية، بل إلى بعض الأعشاب البرية، مثل نبتة الدوم وغيرها من الأعشاب النباتية التي تمنحه ذوقا مغايرا ومختلفا ومتميزا عن باقي الأنواع الأخرى، فأنت- تقول محدثنا- ستأكل في الأخير، خبزا صحيا بالدرجة الأولى، خبزا تجعل منه الأعشاب يحمل ذوقا مميزا لا تضاهيه باقي الأذواق.
قالت هذا الكلام، قبل أن تبتسم مرة ثانية نحن هنا لا نحتاج إلى “إشهار” حتى نبيع الخبز، فهمت من كلامها أنها عرفت أنني صحفي، دون أن تسأل عن مهنتي، ولا أدري كيف تمكنت من معرفة ذلك، رغم أن أسئلتي كانت أسئلة عفوية وبسيطة ولا تكشف عن هويتي، ابتسمت وأخذت خبزة بذوق الأعشاب دفعت الحساب، وعدت أدراجي من حيث أتيت، كانت كلماتها الأخيرة تتردد في مسمعي، حين قالت لا نحتاج لإشهار حتى نبيع الخبز، فأضفت إلى كلامها أن السلعة الواثقة من نفسها لا تحتاج لـ “سبونسور” في صفحات التواصل الاجتماعي، حتى يقبل عليها الناس، فهي تبيع نفسها دون أي “منشطات” تأتي على شكل دعم إشهاري، يجتهد أصحابه في إبراز مزايا سلعهم، وحده خبز الفرينة لا يحتاج لهالة إعلامية حتى يثبت انه سيد المائدة عند العائلات التلمسانية في شهر رمضان، ويبقى “مؤثرا” يقبل على “محتواه” مئات الصائمين، وتبقى منطقة المفروش إحدى أهم قلاعه في عاصمة الزيانيين.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 26/03/2024
مضاف من طرف : patrimoinealgerie
صاحب المقال : ع. بوشريف
المصدر : echoroukonline.com