ارتبط هذا الاحتفال بأسباب ودوافع قوية، وظروف مهدته لظهوره، في المجتمع المغربي الإسلامي، بسبب الصراع العسكري والروحي القوي، بين المسلمين والأسبان في الأندلس، ولاسيما بعد هزيمته المسلمين في معركة ''العقاب''، في نهاية العقد الأول من القرن السابع هجري الثالث عشر ميلادي.
ومنذ ذلك التاريخ، أخذت المدن الإسلامية في الأندلس، تتساقط في يد العدو الواحدة تلو الأخرى، وبالتالي ازدادت الرقعة المسيحية اتساعا، وازدادت معها مخاوف المسلمين على مصيرهم ودينهم، وأصيبت نفسيات الكثير منهم بالإحباط وبعدم الثقة بالنفس، واهتز كيانهم وعنفوانهم الروحي، بسبب النكبات والانكسارات المتتالية، والهزات الروحية التي أصيبوا بها في العمق(159).
وتحت هذا الإحساس بالضعف، تولد لدى في الأندلس الشعور بالتقليد تحت تأثير الغالب، حتى صاروا مهددين في قيمهم ودينهم بالمسخ، والدوبان في المجتمع المسيحي، بحيث أصبحوا يقلدون النصارى في لباسهم ومأكلهم، وطرق حياتهم ومعيشتهم، والاهتمام بأعيادهم حتى وجدوا أنفسهم يمارسون شعائر وطقوسا بعيد عنهم، مثل الاحتفالات بيوم ميلاد المسيح عليه السلام(160).
وقد امتدت هذه الظاهرة إلى سكان مدينة سبتة القريبة من الشواطئ الأندلسية(161)، حتى أن الشهور الشمسية وما يتبعها من أعيد ومناسبات، أخذت تطغى على الشهور القمرية، وبذلك لاحظ العلماء وأهل الغيرة على الدين، أن اندماج المجموعة الإسلامية، في المجموعة المسيحية أخذ في الطريق(162)، وقد تفطن لذلك أبو القاسم بن أبي العباس العزفي فاستهل كتابه المذكور بمقدمة ساخرة استنكر فيها الأوضاع، التي آل إليها المسلمون، ورفض تلاعبهم بالقيم، واستخفافهم بالدين، واستهواءهم للبدع بقوله: ''وإن تعجب يها الناصح لنفسه، فعجب من إحصائهم لتواريخهم والاعتناء بمواقيتها فكثيرا ما يتساءلون عن ميلاد عيسى- على نبينا عليه السلام- وعن ينير سابع ولادته وعن العنصرة ميلاد يحي- على نبينا عليه السلام وما أعانهم التوفيق، ولا القرين المرشد ولا الرفيق، وأن يكون سؤالهم عن ميلاد نبيهم محمد صلى الله عيه وسلم، خيرة الله من خلقه، وذلك من شكر نهم الله به عليها، بعض واجبه، وحقه هاديهم من ضلالتهم، ومرشدهم من غيرهم العزيز، عليه عنتهم، الحريص على هداهم الشديد، عليه ضلالتهم وفتنتهم''(163).
ويضيف العزفي، مفصلا القول عما كان يقام من مراسيم واحتفالات، وأضافوا للتحفى عنها (عن تواريخ السنة المسيحية) بالسؤال والمحافظة عليها والاقبال، من بدع وشنع ابتدعوها، وسنن واضحة أضاعوها بموائد نصبوها، لأبنائهم ونسائهم وصنعوها وتخيروا فيها أصناف الفواكه وأنواع الطرق وجمعوها، وتهادوا فيها بالتحف التي انتخبوها، والمدائن التي صوروا فيها الصور، واخترعوها، ونصب ذو اليسار نصبات(164)، في الديار كما نصب أهل الحوانيت فتضدوها، فقوم أباحوا أكلها ليعالهم وقوم منعوها، وجعلوها كالعروس لا تغلق دونها الأبواب، وفي منصتها رفعوها وبعضهم أكل من أطرافهم ثم باعوها(165).
ثم يسترسل في وصفه عما كان يعمل من تماثيل الحلوى وأصناف الفواكه، وثمن تكاليفها، ووزنها فيقول: ''ولقد ذكر لنا غير واحد من المسافرين، أن النصبه ببعض بلاد الأندلس- جبرها الله وأمنها- بلغ ثمنها سبعين دينارا، أو يزيد على السبعين، لما فيها من قناطير السكار وأرباع الفانيد وأنواع الفواكه، ومن غرائر التمر وأعدال الزبيب والتين، على اختلاف أنواعها، وأصنافها وألوانها، وضروب ذوات القشور من الجوز واللوز والجلوز(166)، والقسطل، والصنوبر والبلوط التي تصب السكار(167)، ورائح الأترج، والنارنج والليم، وفي بعض البلاد طاجن من مالح الحيتان، ينفقون فيه ثناتين درهما إلى نحوها(168). فهذه أفعالنا فهل منا من تايب الآثام لنفسه، معاتب وكان هذا في يناير، ثم صنعوا نحوا منه في العنصرة، وفي الميلاد، فكيف ينشأ عن هذه الفتنة، إلا مصر عليها، مائل إليها من الأولاد، وربما جعلوا جمارة(169)، تحت أسرتهم تفاؤلا وإمارة، ليكونوا في عامهم ذلك أكسى من الجمارة، فهل سمعتم يا أولى الألباب، فأعجب من هذا العجاب. طاعة ذوي النهي، والإحلال من الرجال، إلى الولدان وربات الحجال، وأرى أنه ماجر على أهل الأندلس، هذا الأجوار النصاري- دمرهم الله من جيرانهم- ومخالطتهم، لتجارتهم ومكاشفتهم، عند الكينونة في أسارهم. ولذلك حذرنا من تراءى النيران، قال النبي صلى الله عليه وسلم، إني بريء من كل مسلم مع مشرك، تراءى نارهما، وما سرى ذلك في هذه العدوة، إلا بالأتباع لهم والقدوة، وماعر، عن ذلك البر إلى هذا البر بدعة أشنع منها ولا أمر..''(170).
يتضح مما سبق أن العزفي صرخ صرخة احتجاج، ضد ما كان يجري في المجتمع الإسلامي الأندلسي، ووضح فيها الأسباب التي جعلته يدعو إلى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وإنقاذ المسلمين من البدع التي صاروا عليها لاختلاطهم بالنصارى، وربط الناس بمعتقداتهم وقيمهم الإسلامية السليمة، وقد شجع على هذه البدع كما يشير العزفي تقصير العلماء وتخاذل الأمراء والسلاطين، في تأدية الواجب وتطبيق الشرع، ومحاربة البدع بقوله: ''وأدركت الحكام قد قسمهم الزمان بقسمين وحلاهم بوسمين، إما آمر بالمعروف بغير عزيمة، فقضى على جيش البدع بالهزيمة، وإما مغمور بجاهه وولايته معرض عن تفهم قوانين الإسلام ورعايته''(171).
وقد دفعه هذا إلى أن يفكر فيما ينشغل به المسلمين عن هذه البدع النصرانية، ويقضي على هذه المناكر، فأمر مباح، فوقع في نفسه على أن ينبه الناس، إلى الاعتناء بالمولد النبوي الشريف والاحتفال به(172).
فكر في النشء وتعويدهم على ذلك، فأخذ يطوف بالكتاتيب بمدينة سبتة، يشرح لتلاميذها، معنى هذا الاحتفال ويعرفهم بمغزاه، فيضطر هؤلاء الصبيان إلى ذكر ذلك أمام أوليائهم، ثم دعا إلى تعطيل القراءة يوم المولد، فانتشر الاحتفال بين الناس، وقاوم بذلك التقليد المسيحي، الذي كاد أن يطمس الشخصية الإسلامية الأندلسية(173).
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 27/10/2010
مضاف من طرف : tlemcenislam
المصدر : www.almasalik.com