تقديم: يعود إختياري لهذا الموضوع إلى عدة اعتبارات منها: الرغبة بالتعريف بهذه الفترة في العهد الأمازيغي وإبراز دورها الحضاري الذي لطالما حاول المؤرخون طمسه أو تشويهه، وهذا إبتداءاً من الفترة الرومـانية وإلى الفترة الحديثة. فالأبحاث الأنثروبولوجية والأثرية وغيرها التي أنجزها الأجـانب لا تخلـو من النزعـة الاستعمارية وهي غير سليمة إذا ما تمعن فيها الباحث لهذه الفترة. وبالرغم من هذا فإننا لازلنا نعتمد عليها بالدرجة الأولى. أما الاعتبار الثاني في إختياري الموضوع : هو محاولة ربط اهتـمامات المؤرخ والأثري بمجهـودات التنمية الحالية بالجزائر، وذلك بالعمل على توفير الخلفية الحضارية لمشاريع النهوض بالمنطقة إقتصاديا وثقافيا. وهناك دافع آخر يعود إلى أهمية المواقع الأثرية التي لم تذكرها المصادر القديمة أو الحديثة والتي تمثل جزءا هاما من حضارتنا المتوغلة في القدم . ونظرا لعدم توفرنا على المصادر الكاملة والنزيهة المتعلقة بهذا الموضوع الشاسع والغامض في بعض الأحيان، وإلى اتساع المنطقة جغرافيا، وعلى هذا الأساس كان موضوعي هذا المتواضع والمختصر بمثابة ملخص عام حول أهم الإكتشافات الأثرية القديمة والحديثة كما يتناول بعض المعالم الأثريـة والطبيعية التي لـها صلة بتاريخ المنطقة عبر العصور القديمة والحديثة. وقبل الحديث عن الاكتشافات يجدر بي إعـطاء لمحة قصـيرة كتعريف بسيط للكهوف والملاجئ الصخرية . تعريف: تعد الكهوف والملاجئ الصخرية منازل ومآوى الإنسان الطبيعية الأولى. وهي تتواجد عـادة في المنـاطق الجبلية والهضاب والمرتفعات. وقد لجأ إليها الإنسان منذ أقدم العصور الحجرية، وخاصة في الفصول الممطرة و الشديدة البرودة من السنة. وقد تستمر سكنى بعض الكهوف لعصور متعددة ومتعاقـبة في العصـور الحجرية وتكون في هذه الحالة عادة سكنى مؤقتة لأناس جبليين، والرعاة منهم بصورة خاصة حيث يُلـجأ إليها في المواسم الباردة والمطيرة. وقد خلّف لنا الإنسان بقايا في هذه المنازل الأولى بشكل طبقات سكنى متراكمة فوق بعضها تتخللها إشارة من الآلات الحجرية والصوانية والعظيمة وبقايا موتاه. وقد يترك لنا أحيانا إشارة فنية ورسومات على سقوف وجدران بعض هته الكهوف كما هو الحال في كهوف إسبانيا وفرنسا وشمال إفريقيا. ويجب أن نلاحظ بأن المخلفات والبقايا الأثرية وطبقات السكن توجد عادة في أسفل وقرب فتحة الكهوف و الملاجئ الصخرية إذ في العادة لا يبتعد الإنسان عن سكناه كثــيرا عن فوهـة الكهوف والملاجئ ولا ينتقل في الغالب للسكن في أعماقها إلا نادرا وفي ظروف خاصة. أهم الاكتشافات التي تعود إلى فترة السلالات البشرية لولاية هباثنت (باتنا) : بإحدى المغارات الواقعة بجبل قرطاس إلى الشمال الغربي من مدينـة “هباثنت” غرب جبل “مسـتاوا”، تم الاكتشاف في سنة 1922 من طرف (A.DEBRUGE) ويتمثل فيما يلي (طبقة حلزونـية) تحت المغارة وعلى عمق متر ونصف (1.50م) نجد طريقة دفن المتوفى في حالة منطوية وهي طريقة تعود لفترة النيوليتيك الأعلى بشمال إفريقيا، وأيضا من عادة “القفصي” وتمـثل بقايا الإنسان (هيكل عظمـي كامل تقريبا، الجمجمة، العمود الفقري، والأطراف العليا والسفلى) كما أصيب هذا الإنسان المتوفي بجروح إثر مرض (السفلسي أو الزهري) حسب ما توصل إلى معرفته كل من (E.LEBLANC ) و (F.MARILL) بالإضافة إلى عظام الكبار والأطفال. وهذه البقايا تعود إلى سلالة الإنسان العاقل مشتى العربي الذي اكتشف بضواحي “سيرتا” (قسنطينة) (Homo Sapien Race De Mecheta El Aini). وفي سنة 1945 أن السيد: ( F.MARILL) لم يعثر سوى على جمجمة ضخمة الجبهة والفك السفلي وبعض عظام طويلة توجد بمتحف سيرتا (قسنطينة) فالجمجمة تكون قد هشمت إذا ما قورنت بالفك السفلي المحفوظ بمتحف باردو بالعاصمة وهو منزوع الأسنان. المواقع الأثرية : مدينة “إيشوقّان” أو “إيشوكان”: وهي مديـنة محلـية توجد ببلديـة “إيمي نطّوب” (فم الطوب) فوق نتوء صخري بين “أخنّاق ن سبع رڨود” إلى الشرق بمجرى الواد المسمى بنفس التسمية أو بواد “لفراس” و”أخنّاق ن عقرا” إلى الغرب. وبهذا الموقع توجد آثار متنوعة وعديـدة منها الحجارة شبـه المنحوتة وأسس البناءات والفخار المهشم وهو من النوع الأمازيغي المحلي وعلى حافة الوادي تتواجـد أضرحة (ميقاليتيك) من نوع “إيشوشات”، والتي يرجع تاريخها إلى فترة “نيوليتييك” الأعلى بشمال إفريـقيا والمعاصرة للقفصي حيث عرف فيه الإنسان حالة الاستقرار ومارس عدة حرف وصناعـات كالفـخار وحرفة الزراعة وغيرها. وفيما يتعلق بــ “أخنّاق ن سبع رڨود” فهي متواجدة في إحدى الصخور المطلة على الوادي وهي عبارة عن مغارة طبيعية يمكن الوصول إليها والدخول بعد تسلق الصخرة وهي ضيقة الفتحة ومحدودة . وحسب المصدر الأطلس الأثري (S. GSELL) فإن هذا المكان أو المغارة كانت كملجأ لمـلوك الأمازيغ خلال الفترة الرومانية – البزنطية منهم ملك (يابداس). و منذ القديم كانت هذه المغـامرة محـل زيارات من لدن سكان المنطقة، حيث تقام فيها الطقوس الدينية خلال المناسبات وحمل المرضى إلى مكان الدفن. غير أن هذه العادة قد توقفت أو قل شأنها حاليا لأسباب أجهلها كما أن هناك أساطير وقصصا نسجـت حول هذا المكان الذي لازلنا نجهل عليه الكثير بسبب عدم تدوين ما قيل عنه وإلى عدم الاهتمام به من الناحية الأثرية أو التاريخية، وبالتالي سيبقى مجهولا علينا وعلى الأجيال القادمة. اكتشاف عملات لعهد ماسينيسا (كدية فرّوج) : دائرة “شمرّا” : في سنة 1991 أثناء عملية الحفر في المكان الذي يسمى (كدية فرّوج) وهي أعلى ربوة بمدينة “شمرّا” (الشمرة) ومن أعلاها يمكن لنا رؤية كافة سهول المنطقة وذلك إثر الأشغال المتعلقة بإيصال أنبوب الماء بالـخزان المتواجد في أعلى الكدية حيث عثر أحد إطارات الشباب المدعو : “عيساوي لحسن” على تحف أثـرية ذات أهمية تاريخية والمتمثلة في كمية من العملات و إناءين من الفخار الأمازيغي. فالعملات لا تبدو في حالة جيدة نظرا للفترة الطويلة التي مرت بها أكثر من عشرين قرنا وأيضا إلى الأتربة والحجارة المتراكمة عليها طوال هذه المدة كما أن طريقة الحفر كانت بواسطة آلة الحفر من أجل وضـع ركائز الأنبوب، وبالتالي كان الاكتشاف عن طريق الصدفة. وبعد الدراسة الأولية لهذه العملات تبـين بأنها من مادة الرصاص ويعود تاريخها إلى عهد ماسينيسا وتحمل على الوجه الأول: صورة لشخص ذي لحيـة طويلة وشعر رأسه مجعد وكثيف. أما الوجه الثاني يحمل صورة لحصان يركض وأسفله يوجد حرفان (م.ن) من حروف اللغة البونية هذه اللغة التي ظهرت في شمال إفريقيا خلال القرن الثالث قبل الميلاد وهي نسبة إلى الحروب البونية التي وقعت بين البونيقيين و الرومان، وكانت سنة 146 ق.م كنهاية لهذه الحروب ولقرطاج بتونس. و بالنسبة لهذا الاكتشاف الذي عثر فيه على العملات، وبعد معاينته يبدو لنا بأنه قد عرف استيطانا عمرانيا منذ العهد القديم. وهذا من خلال أساس البناءات وإلى الفخار الأمازيغي المهشـم وهذا مع كل تحفظ إن لم تجر عليه دراسات و أبحاث أثرية لمعرفة الحقيقة. فالإناءان اللذان عثر عليهما بالمكان لا يحملان أي رسم أو إشارة وقد استعمل في صناعتها الأجر المسحوق وعليها طبقة من الطين. فالإناء الأول سليم والثاني مكسور. وبالنسبة للمكان أن (الكدية) ظهرت فيها مقبرة حديثة منذ أن بدأ الاستيطان بدائرة شمرّا وقد توقف بها الدفن خلال 1956 و 1957 وفي نفس الوقت كانت تقام به طقوس دينية محلية وقد توقفت هذه الظاهرة أو العادة منذ سنوات. وأيضا كان المكان وما يزال يستخرج منـه الحجارة لاستعمالها في أغراض عديدة. ونظرا لهذه الاعتبارات وغيرها يصعب علينا فهم طبيعة المكان. كما أشير أن الباحث (S. GSELL) لم يذكر اسم الكدية في الأطلس الأثري إطلاقا. فقط ذكر بأنه توجد بالمكان آبار قديمة وعناصر معمارية مسيحية وربما هناك مصادر أخرى تتناول هذا المكان وأنا أجهلها. إذن فالمكان بحاجة إلى دراسة وبحث ميداني لإبرازه كموقع أثري وتاريخي للعهد الأمازيغي النوميدي للمنطقة. الضريح الملكي النوميدي الأمازيغي إيمدغاسن : يتواجد ضريح إيمدغاسن ببلدية “بومية” دائرة ثاحمامث (لمعذر) ولاية هباثنت فوق هضبة. مما جعـله يتراءى من بعـد ويتوسط مقبرة. غير أن هذه المقبرة كادت أن تندثر اليوم .فشق الطريق بالقرب من الضريح كـان مـن الأسباب الرئيسية لهذا الاندثار كما أن عدم الاهتمام والعناية بهذا المعلم الحضاري والتاريخي ساعد على ذلك. فمدغاسن ضريح يعود إلى فصيلة البزائن، شكله مستدير وقطر دائرته يمتد على 59 مترا والارتفاع الإجمالي للمبنى يبلغ 19 مترا وقد استخدم في عمارة البناء عناصر معمارية ممتزجة بالطابع الشرقي الإغريقي وفقا للعلاقات التي كانت تربط شمال إفريقيا بالعالم الخارجي. وفيما يتعلق بالأثاث الجنائزي الذي يعثر عليه عادة في مثل هذه الأضرحة، أشير بأن الأبحاث التي أجريت بالمبنى كـانت سلبية. ربما أن هواة البحـث عن الكنوز الدفينة عرفوا المدغاسن و توصلوا إلى غرفة الدفن قبل أن يصلها الباحثون في مجال علم الآثار. وقد توصل الباحث (CAMPS.G) إلى تاريخ الضريح بواسطة طريقة الكربون (C14) وجـاءت النتائج بتحديد تاريخ بناء “إمدغاسن” فيما بين أواخر القرن الرابع وبداية القرن الثالث قبل الميلاد . ونظرا لأهمية هذا المعلم الأثري والتاريخي، والذي يمثل الفترة النوميدية للعهد الأمازيغي إذ يعبر عنها بكل صدق، ورغم هذا لم يُخصّ بالدراسة الكاملة بل بقي في عالم النسيان، فلا يوجد عنه دليل ولا سـياج ولا حراسة دائمة، إذا ما قورن بالضريح الموريطاني المتواجد بضواحي تيبازا المدعو (قبر الرومية)، فإننا نجد أن هذا الضريح قد حظي بدراسة واسعة كما وضع له أكثر من دليل باللغتين (عربية وفرنسية) كمـا حظي بحراسة دائمة وكذا حقوق الدخول. والسؤال الذي يطرح في هذا الصدد: لماذا لا يحظى الضريح الملكي النوميدي الأمازيغي بما يحظى به الضريح الموريطاني؟ الخاتمة : وبعد تقديم هذا البحث الموجز و المتواضع حول أهم الاكتشافات الأثرية والكنوز والمواقع الأثرية التي تزخر بها ولاية هباثنت منذ أقدم العصور حتى فترة ثورة التحرير 1954. ونظرا لما تتعرض له هذه الآثار بصفة عامة وبدون استثناء إلى النهب و التخريب وبالتالي إلى الاندثار النهائي وذلك بشتى الطرق والأساليب المتبعة في هذه الحرب المدمرة منذ سنوات وعلى كافة المستويـات حيث تتوفر لدينا أمثلة حـية على ذلك، ربما يرجع ذلك إلى عدة عوامل منـها الأزمـات الاقتصاديـة والسياسية التي تمر بها البلاد وإلى تدني مستوى الوعي الحضاري بين كـافة الـمواطنين عن أهمية الآثار والمحا فظة عليها وصيانتها. كما أن للمؤسسات والهيآت الإدارية التي كانت ومازالت تتبنى الثقافة وحماية الآثار جزءا كبيرا من تـدني مستوى التوعية وإلى عدم التطبيق الصارم للقوانين المعمول بها في مجال حماية الآثار. أذكر على سبيل المثال أن مديريات الثقافة السابقة على مستوى الولايات قد أسندت إداراتها إلى أناس غير مؤهلين لهذه المهمة، فهمهم الوحيد هي المسؤولية. وعن المعالم التاريخية التي قد أزيلت عن آخرها أذكر على سبيل المثال لا الحصر: أنه منذ سنـوات أُزيـلَ مركز للتعذيب كانت تستعمله فرنسا والمسمى (سيستيتي)، كان يتواجد وسط مدينة ثامروانت (مروانة) (وجدت اسمه في بعض المراجع المتعلقة بثورة التحرير 1954) ، وعند زيارتي له وجدته قد أُزيل عن آخره لأسبـاب أجهلها، ولا أعرف عنه أكثر من اسمه والموقع الذي كان يحتله أو يشغله. أما بالنسبة لـ “فيرمت لحمر” الواقعـة بين بلديتي “فسديس” و”بوييلف” بولاية “هباثنت” فقد كانت بها أكبر مراكز التعذيب والقتل، وأشير هنا بأن هذا المكان أصبح اليوم عبارة عن مكان خاص للماشية وقد بدأ يندثر شيئا فشيئا. كما أن أبراج المراقبة التي وضعتها فرنسا في الجبال والتلال لم تسلم هي الأخرى من التخريب والاندثار. ونفس الشـيء لآثار الفترة الرومانية والإسلامية فحدث ولا حـرج. مثال على ذلك مدينة “طبنا” و”قصر بلّزما”…إلخ. إذ هناك حرب شاملة ضد كل الآثار. و بناء على هذه المعطيات، لا أجد مثل هذه المناسبة في هذه المنطقة “ماكومادس” (أم البواقي) وماسكولا” (خنشلا) اللتين تمثلان أهم مناطق الأوراس الأشم أثريا أن أدعو كافة الهيئات والمؤسسات ذات الطابع الثقافي و التربـوي إلى التجـنيد الفعلي لإيقاف هذه الحرب الغير المعلنة عليها رسميا والهادفة إلى إزالة آثار بلادنا، وبالتالي محو وطمس تاريخنا الحضاري والثقافي. فاقتراحي يتمثل فيما يلي: إنشاء أو تكوين جمعيات ونواد تكون مهمتها هو حفظ وصيانة كل ما له علاقة بالتراث التاريخي أو الثقافي بصفة عامة ولجمع مراحل تاريخ المنطقة منذ أقــدم العصور الحجرية وثورة التحرير 1954. ويتولى هذه الجمعيات والنوادي أساتذة وإطارات الثقافة والشبيبة مثل جـمع التحـف الأثرية من لـدن المواطنين. ويتم القيام بعملية المسح الأثري للمنطقة وكشف الأماكن التي تتوفر بها الآثار أو ذات الطـابع السياحي بهدف توعية الشباب من أجل المحافظة على الآثار وإقامة معارض بواسطة هذه التحف التي سيتم جمعها مستقبلا.
1- LIBYCA TOME DE 2Es.1974 2- CAMPS.G – REV -AFR. N 14 1974 3- NOTE ET MEM DE LA SOCIETE ARCHE DE CONSTANTINE 1873 4- S. GSELL – ATLAS ARCHEOLOGIQUE 1911
تاريخ الإضافة : 08/09/2017
مضاف من طرف : nemours13
صاحب المقال : الأســـتاذ: بن مرزوق عبد الرحمن، بـاحث في علـم الآثار. هباثنت – نوميديا
المصدر : inumiden.com