سعت الدورة العاشرة من "مهرجان موسيقى العيساوة" إلى استحضار البعد العربي في هذا النمط الموسيقي، بوصفه ضلعاً رئيساً في تشكّله الفني. وإلى جانب العروض، أقيمت ندوات بحثية تناولت خصوصية فن العيساوة الذي لحق به سوء فهم كبير.
كان أول من حاول دراسة هذا الفن في سياقه التاريخي، المستشرق الفرنسي إميل درمنغهام في دراسته عن "الحضرة العيساوية"، والتي أنجزها برفقة الباحث في الموسيقى الشرقية لويس باربيس. نُشرت الدراسة في "المجلة الأفريقية" (1951).
وحيث اهتم باربيس بالجانب الموسيقي وقام بمحاولة تقييد هذه الموسيقى بسولفاج، قام درمنغهام، بوصفه أحد الدارسين البارزين للتراث الصوفي، المغاربي منه خصوصاً، بتتبّع الجوانب الأنثروبولوجية، محذّراً "من اجتزاء الطقوس التي ترافق هذا الفن وعزلها عن السياق العام"، مقترحاً "استبدالها بتأويل رمزي لهذا العرض الموسيقي".
موسيقى العيساوة لون من ألوان السماع الصوفي يتّخذ أسماء كثيرة على امتداد المغرب العربي، موطنها الأصلي مدينة مكناس المغربية التي تحتضن ضريح المؤسّس الأول محمد بن عيسى، المُلقب بـ"الشيخ الكامل". تُعدّ الطريقة العيساوية سليلة للشاذلية التي تمتد إلى مناطق أخرى في تونس وليبيا وحتى في سورية والعراق، ما يجعل دراسة البعد العربي داخل هذا الفن محاولة لإثبات وحدة التراث الروحي في الإسلام.
"
موسيقى تكشف عن وحدة التراث الروحي الإسلامي
"
تُؤدّى موسيقى العيساوة، على غرار الفنون الصوفية الأخرى، بآلات إيقاعية أساساً؛ وذلك لأن الإيقاع في حدّ ذاته والموسيقى عموماً جسر متين يربط بين "الطبيعة" و"ما بعدها" ووسيلة للنفاذ إلى عوالم الباطن، من أجل وضع أثقال العالم الظاهر بلغة المتصوّفة. وتتشكل كلماتها من أوراد خاصّة بالطريقة وتُكرّر عبارات بذاتها، وهو أسلوب منتشر في كل الاحتفالات ذات الطابع الروحي، طلباً لنوعٍ من التحوّل يسمّيه المتصوفة "الجذب"، وهو حالة نفسية يتحقّق فيها اللقاء الكامل مع الذات.
ارتبط هذا الشكل الفني، في السابق، بالزوايا التي كانت مركزاً مهمّاً داخل النسيج المجتمعي، ثم مع مرور الوقت، انتقلت إلى فضاءات أقلّ روحية، وصارت تؤدّى في مناسبات الحياة اليومية كالأعراس والأعياد، نتيجة احتكاكها المباشر مع فنون أخرى؛ أهمّها فن المالوف، أحد أنواع الموسيقى الأندلسية في الشرق الجزائري.
يمكن القول، من دون الخوض في مقارنة تفضيلية، بأن العيساوة فن شعبي بالمقارنة مع المالوف الذي يترجِم بشكله وطريقة أدائه فنّاً أكثر إتقاناً ورصانةً، ولعلّ في ذلك حضوراً للثنائية الشهيرة التي تحكم الفن، تلك التي عبّر عنها نيتشه في كتابه "مولد التراجيديا"؛ أي ثنائية الإلهين الإغريقيين أبولون/ ديونيزوس. فالعيساوة تبدو ذات جوهر ديونيزي، بما أنها فنّ يسعى في طلب النشوة، ولا يقيم وزناً كبيراً للقواعد الموسيقية، عكس المالوف الذي يبدو فناً أبولونياً يعبّر عن رِفعة وصنعة موسيقية.
تجاوز فن العيساوة مراحل حرجة في القرن الماضي، من أبرزها عقد التسعينيات الذي عاشته الجزائر، حيث تعرّض إلى محاولات لخنقه من طرف تيارات أصولية. ولعل "مهرجان موسيقى العيساوة" الذي تُختتم فعالياته اليوم في مدينة ميلة شرق الجزائر، ساهم في إعادة الروح إلى هذا النمط الموسيقي و"إعادة إحياء المرجعية الوطنية" وهو أحد شعاراته.
يرى الباحث في التصوّف سعيد جاب الخير، والمنشط للندوات البحثية المرافقة للمهرجان، في حديث إلى "العربي الجديد"، أن "التظاهرة السنوية كشفت عن اهتمام الجيل الجديد بهذا الموروث الفني الروحاني، وتقديره للقيمة العظيمة لهذا التراث اللامادي الذي يعيش، كغيره من هذه الفنون، مصاعب تتهدّد وجوده"، مضيفاً "نرجو أن يحاول الجيل الجديد النهوض بهذا الفن، مع الحذر من إعادة إنتاجه بشكل فولكلوري".
تاريخ الإضافة : 23/10/2016
مضاف من طرف : litteraturealgerie
صاحب المقال : الجزائر ـ محمد الصالح قارف
المصدر : www.alaraby.co.uk