لو أنك من عشاق الإذاعة باكرا مثلي، لكنت التقيت به. لو أنك كنت مسكونا بالأدب والفن، وبدأت وأنت تلميذ على أبواب الباكالوريا، تتدرب مثلي على إذاعة برامج أدبية وثقافية، ثم إنتاجها وإذاعتها بصوتك لعشرات السنين، لكنت رأيته لا محالة. ولكنت سعدت جدا برؤيته والتعرف عليه. إنه السيد يَسعد عبد القادر، رجل ذكي و طيب وهادئ، نشيط وصموت ومتواضع. إنه أحد أقطاب المحطة الإذاعية والتلفزية لوهران التي كانت تبث عبر أمواج وطنية. محطة لها تاريخ عريق في البث والإنتاج والدبلجة. لكنني وأنا ضيفة على مقر *محطة وهران للإذاعة والتلفزيون* العريقة، هكذا كانت تعرّف قبل أن تتعرض خليتها للانقسام. لم أجد ظلا للعمّ يسعد . تبدلت الأبواب والطوابق والحيطان والمقاعد والأرائك والردهات، وبقي على حاله *اللانتين* الهوائي العالي، والمدخل الأساسي. لكنني لم أر العمّ يسعد ، ولَم أشاهد صورة له، أو أثرا يدل عليه، اللَّهُمَّ تلك الطاقة الإجابية التي تركها خلفه، وتملأ الأمكنة جميعها بالسعادة في العمل. كيف لا..إنه السيد يسعد! عرفه كل المدراء منذ أولهم الذين تداولوا على المحطة منذ الاستقلال . وعرفه أول المذيعين والمذيعات بها ، وأعرق المغنين والمغنيات، والموسيقيين، والفنانين، والتقنيين، والمخرجين، والمنتجين، والبوابين، والسائقين، والموظفين، والعاملين، والزائرين، وعرفته حديقة المحطة بأشجارها العتيقة العالية، القائمة لحد الساعة. لا أحد قادر أن يؤكد إذا ما كانت محطة الإذاعة والتلفزيون قد وجدت أسبق من وجود يسعد بها. لا مكان على أرضية البناية لم تطأها قدماه. ولَم تمسها عيناه. لا شيء فيها خارج جغرافية ذاكرته. لديه بأمانة كل التفاصيل الصغيرة من الأسرار الكبيرة في تاريخ البناية، وتاريخ وهران الثقافي الشعبي والفني. من تكوين أول فريق موسيقي، وأول جوق غنائي، وأول فريق مسرحي. وأول بث . وأول غيث. يعرفهم عن أجيال وأشكال موسيقية، من عبد القادر الخالدي والشيخ عين تادلس إلى رينيت لورانيز إلى موريس المديوني إلى أحمد صابر إلى ليلي بونيش إلى أحمد وهبي إلى بلاوي الهواري وإلى.. يحدثك السيد يسعد عبد القادر ببساطة الشعبي العارف، فتكتشف بالصدفة علمه ومعرفته العميقين . يحدثك دون أن يشعرك بأنه ذلك *العالِم* الذي لا يشق له غبار ولا بخار، ذلك العالم الذي يحاضر عادة من خلف المنبر مأخوذا بما أسميه ب * ليبيدو الميكروفون*. أبدا!.. السيد يسعد عبد القادر يخبرك بما لا تعلم ببساطة وهدوء وتواضع ، وكأنه يهديك شيئا ثمينا على حين غرة، يدهشك لأنك لم تكن في انتظاره. حين تمر على الردهة اليمنى من المدخل الكبير ويبدو لك باب الأرشيف مغلقا فاعلم أن مفاتيحه الحقيقية مازال ترن بين يد يسعد عبد القادر، فتخشى أن تسأل كيف حال الآلاف من التسجيلات الغنائية والمسرحية وغيرها من دونه، وهو الذي ظل يعتني بها بمنتهى الأبوة، وحرص الغيور المحب العارف. لا احد من منتجي البرامج ومعديها ومقدميها ومخرجيها، قادر على أن يستغني عن الذوق الموسيقي الرفيع ليسعد عبد القادر . فحين يريد كل واحد منهم أن يرفد برنامجه الثقافي أو السياسي أو الاقتصادي أو التوعوي بأغنية ما، تضيف إلى المعنى عمقا جديدا مختلفا بلغة الجمال، فعليه أن يطلبها من يسعد عبد القادر، فيأتي له بها بسرعة ودون ضياع وقت، لأنه يدرك بالظبط حيث توجد. أو ببساطة يكفي أن يستشيره وهو الذي يمل أذنا وذوقا موسيقيين ويعرف بحنكة المجرب أنواع الموسيقى التي تلائم برامج الصباح والعشية وتلك التي تلائم برامج الليل. ارتبط استوديو التسجيل بالإذاعة بوجود السيد يسعد عبد القادر. لم أكن أبدا أشعر بالقلق وأنا أهيء لتقديم برنامجي (حواء والدنيا) الذي دام أكثر من عشر سنوات على محطة وهران، وتبثه على الأمواج الوطنية والذي يذاع في النهار، أو برنامجي الأدبي (قصة الأسبوع ) الليلي، كان يكفي أن أخبر العمّ يسعد بالموضوع الذي تتضمنه الجلسة وألمّح له للمغني المطلوب فيأتي بالأغنية الملائمة من دهاليز الأرشيف . الأرشيف الذي كان يعتبره بيته الثاني، ويذكر الكثير قوله: * كي تظلّم الدنيا وتْضيق في عينيّا ننْزل للأرشيف نْشَلَّل وذْنِيّا.! *، نعم هناك كان العمّ يسعد يستمع إلى عبد القادر الخالدي، وأم كلثوم، وفريد، وَعَبد الوهاب، وصالح عبد الحي، وجاك بريل و .. يحرس الأرشيف ويغار عليه ويحلم دوما أن يثريه أكثر. كم سعد العم يسعد حين عدت من دعوة لإقامة أمسية شعرية في قطر وحوار بتلفزيون وإذاعة الدوحة في أواخر الثمانينات وبين يدي *كاسيط* لجورج وسوف وأخرى لماجدة الرومي ولكاظم الساهر وقد خرجت لتوها من المطابع. لم يكونوا معروفين بعد. كان يسعد أسعد جدا فخورا بأن الأغاني تلك تذاع لأول مرة من إذاعة وهران، ومنذئذ أصبحت مُؤرشَفَة بالمحطة. أين السيد يسعد عبد القادر ؟ من يذكر حامل أختام محطة وهران .؟ كيف لم يهبّ أحد في وهران لتكريمه، أو لتشريف مكان ما منها باسمه. اسمه الحامل لحياته. حياته الحاملة لتاريخ المحطة الغني، ولأسرارها وأحلامها.؟ المجد للأرشيف واللعنة على النسيان. سلام يا عمي يسعد حيثما كنت.!
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 24/12/2018
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : ربيعة جلطي
المصدر : www.eldjoumhouria.dz