الجزائر

يَتَصَارَعُون.. فِي بَلَدِك!



إن التحليل البسيط للمتغيرات التي تطرأ على الواقع العربي سياسيا كان أم اقتصاديا يؤكد على العقم في استشراف المستقبل وضعف النظرة المستقبلية إن لم نقل غيابها كليا عن أجندة الأنظمة العربية التي كانت بعيدة عن إدراك المؤشرات الأولى لهذه المتغيرات.عندما تصبح المشاريع السياسية مرتبطة بمجال القوة الناعمة، وتحتل الخيارات الوطنية المراتب الأخيرة في مشروع الدولة الوطنية، وتتداخل الأهداف المتباينة يصبح مصير الدولة معلّقا على لقاءات إقليمية لا تأخذ في الحسبان مصير هذا البلد أو ذاك، بل وتتحول
مطالب الشعوب التي حملت لفظ "الثّورَة"- بقدرة قادر إلى "معارضة" و«ائتلاف" و«ترويكا".
الأمثلة كثيرة في واقعنا العربي الذي أصبح في أغلب الأحيان تائها بين مشاريع الكبار في المنطقة، ومع مرور الوقت أصبحت المنطقة العربية مخبرا هاما لتجارب الدول في حرب التموقع والولاءات، والبداية من العراق الذي أصبح مسرحا لتنافس قوى إقليمية تختلف في طبيعة مصالحها حيث سعت إيران إلى وضع موطئ قدم هناك، الأمر الذي أدى بالسعودية إلى محاولة الرد على المشروع "الصفوي" هناك وهو ما أدخل البلد في دوامة حرب طائفية لا زال العراقيون يدفعون ثمنها، بل وصل الأمر إلى إصدار مذكرات اعتقال بشأن بعض القادة السنة على شاكلة نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل وصل التنافس السعودي الإيراني إلى البحرين، حيث تدخل الجيش السعودي للقضاء على الاحتجاجات التي لطالما اتُهمت إيران بتدبيرها دون نسيان الاحتجاجات المتكررة لشيعة المنطقة الشرقية من السعودية، والحال أيضا مع الظاهرة الحوثية في شمال اليمن على الحدود السعودية، حيث أرادت إيران إيجاد مكان يمكنها من مراقبة السعودية غير أن الرياض دعمت نظام عبد صالح ضد هذه الفئة بكل قوة.
أما في الجانب الشمالي، فقد زادت عوامل التوتر بين إيران وتركيا، فزيادة على الخلفية التاريخية للصراع العثماني الصفوي، سعت تركيا إلى كسب كردستان العراق لغلق طموحات حزب العمال الكردستاني مما جعل إيران تحاول دعم هذا الأخير لإضعاف الورقة التركية في العراق لمصلحة الشيعة.
وفي لبنان مثّل حزب الله عين إيران الساهرة في المنطقة من خلال التعاون مع النظام السوري الذي توجه إلى حضن إيران رغم اتفاقياته المشتركة مع تركيا، ومن أجل كسر السيطرة الشيعية هناك سعت السعودية إلى محاولة قلب الطاولة من خلال تنظيم فتح الإسلام السني ودعم تيار المستقبل، الأمر الذي جعل الحكومة اللبنانية في حال هشاشة دائمة أمام الكم الهائل من التوازنات الإقليمية والطائفية التي ما فتئت تهدد كيان الدولة الوطنية، وليس أدل من ذلك تورط حزب الله في الثورة السورية من خلال دعم نظام بشار الأسد.
الأمر ذاته يحدث في سوريا، حيث تحولت المطالب الشعبية بالحرية والعدالة والمساواة إلى رهان لمصالح إقليمية تحدد مصيرها إسرائيل وتركيا وإيران والسعودية وقطر، وأمام هذا التشنج الواضح بين هذه الدول سعى كل طرف إلى الاعتماد على قوى موالية له مما أثر على إجماع المعارضة السورية وتداخل القوى المحلية فكثر الحديث عن الدولة العلوية وإخوان سوريا والأقليات التي تشكّل من عناصر ديمغرافية أصبح من الصعب تجاوزها لتحديد مستقبل الثورة السورية.
خلاصة القول من هذه الأمثلة.. إنه عندما يصبح الولاء لقوى خارجية معينة وتبتعد التيارات والمنظمات عن الولاء للقوى الوطنية الخالصة تتحول الدولة إلى ساحة صراع بين القوى التي تمتلك هذه المرجعية أو تلك، إضافة إلى الفشل في تكريس مبدأ المواطنة بين جميع الأقليات التي أصبحت وقودا لهذه القوى، وهذا ما يطرح تحديا آخر لمرحلة ما بعد الربيع العربي بدأت تظهر بذوره الأولى في مصر وليبيا.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل زاد إلى تصاعد حدة الاستقطاب والتموقع، وهذا ما أدى إلى بروز انشقاقات في الائتلاف المعارض في سوريا مثلا نتيجة التدخلات المتكررة للدول الغربية وروسيا والسعودية وقطر، وبل وتبين أخيرا - من خلال المساعدات السعودية والإماراتية لمصر بعد عزل مرسي - أن السعودية لا تريد قيام نظام إسلامي يهدد زعامتها في المشرق والخليج زيادة على رفضها محاولة إخوان مصر تصدير أفكارهم إلى الخليج.
إن التحليل البسيط للمتغيرات التي تطرأ على الواقع العربي سياسيا كان أم اقتصاديا يؤكد على العقم في استشراف المستقبل وضعف النظرة المستقبلية إن لم نقل غيابها كليا عن أجندة الأنظمة العربية التي كانت بعيدة عن إدراك المؤشرات الأولى لهذه المتغيرات.
وفوق كل هذه التحاليل، ومع حجم الإصرار على خطف الشرعية ومحاولة تشويهها من هذا الطرف، أو تأكيدها من هذا الطرف، يبدو أن هناك الكثير من الأمور التي لم يقلها الكواكبي بخصوص الاستبداد والاستعباد.
مدرسة الدكتوراه، تخصص تاريخ،
جامعة وهران


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)