الجزائر

ويل لأمة لا تنتج ما تأكل



ويل لأمة لا تنتج ما تأكل
لا نريد أن نكون مواطني بلد بترولي نعم، لا نريد أن نكون مواطنين لدولة بترولية.. لا تنتج إلا البترول، هذا أكيد، ولا حتى التشبه بسكان الخليج ذوي البطون المنتفخة والعباءات الناصعة البياض، لأننا ندرك معنى الثقافة الحقيقية.. ثقافة الزيتون وزراعة القمح والشعير، لأننا ترعرعنا وجذور الكروم التي صنعت ثروات هذا البلد الطيب قبل مجيء النفط.لا نريد أن نكون، بشكل من الأشكال، مواطنين برسم كاريكاتوري، عجزة متهاونين مع العيش بمدخول الذهب الأسود. هذه الثروة المنبوذة الزائلة: “البترول”، متفاخرين بسيارات الدفع الرباعي غير المستحقة، والحلي والمعاصم والخواتم الذهبية في الأيدي المطرّزة بالأحجار الكريمة.. متجوّلين من مركز تجاري فاخر لآخر، ومن سوق إلى سوق مبتاعين سلع مستوردة، وراقصين من حين لآخر على إيقاع مجموعة صوتية غنائية مستوردة هي الأخرى، وفي الأيدي سبحة معلّقة حجارتها من النوع الرفيع، للفخر لا للذكر.
نحن لا نثور ضد هذا الوضع، لكننا لا نقبل هذا لبلدنا الجزائر المستقلة، التي كانت فيما مضى تصدّر 600 ألف طن من الحوامض، وتحوز على مليون هكتار من الكروم (آلة حقيقية للإنتاج).. أصبحت جزائرنا حاليا عاجزة عن إعطاء هذا الإنتاج، بسبب عدم كفاءة الرجال. وقد تغدو شبه صحراء يقطنها شبه أحياء، يلهثون وراء ثروة غير شرعية، ودون أدنى مجهود حقيقي يُذكر.. يُسيّرهم جهاز هضمي في حاجة دائمة للاستهلاك، جاهلين القيم الحقيقية للعمل.
نريد أن نعمل، بل وجب علينا العمل، وزرع تلك السبعة ملايين من الهكتارات التي تنظر سواعد أبنائها، بعدما غدت أراضي بور ليس إلا.
أتذكر، وأنا في مقامي هذا، ما قاله المرحوم قاصدي مرباح، في سنة 1985، خلال اجتماعه بإطارات ولاية غليزان (الولاية الجديدة آنذاك): “سيأتي يوم على الجزائريين يستوردون حتى الحمضيات”، ويقصد بها البرتقال. في ذلك الوقت لم نأخذ كلامه مأخذ الجد، لكن الأيام بيّنت أننا صرنا نستورد حتى البصل المثير للسخرية، وصار ثمنه أغلى من الموز والكيوي.
إن عدم الاهتمام السياسي بالفلاحة حطّم هذا القطاع، لأن رجال القرار منشغلون بأشياء أخرى، ولا يفكرون بعمق في هذا المجال. أين ذهبت ورشات المحاصيل الجماعية؟ أين اختفت “التويزا”، كيف أصبحنا؟؟ أين ذهب المزارع والفلاح الجزائري العاشق للأرض؟ أين ذهبت كواسر الرياح المصطفة ببساتين البرتقال بمنطقتي “المحمدية” و«متيجة” التي تشكل كتلة نباتية كثيفة، بانسجامها المذهل الذي يشبه في روعته وبداعته البطاقات البريدية؟ أين اختفى البدوي الذي كان يبيع منتوجه الفائض في سلات من دوم أبدعت زوجته في صنعها؟ كل شيء تغيّر تحت أعيننا.
إن السدرة تعود بشكل فظيع إلى الأراضي الفلاحية والسهول، ومستنقعات نتنة تتشكل حول المدن، تخلق بذلك بيئة منفردة مكروهة، مع التسيير السيئ للفضاءات العقارية، حسب بعض مسؤولي المدن الجاهلين للوضع. وفي السياق ذاته، هناك عدم توازن في نظام تمركز بصفة نهائية للرحّالة بخيمهم وقطيعهم دون احترام التقاليد في الأراضي الخصبة، محدثين فوضى على خلاف تواجدهم بالفلاة. كل هذا يشير إلى علامات غير منعكسة لانحطاط الأرض، التي ستسترجع حقوقها يوما ما لا محالة.
لقد فكرت في كتابة هذه الأسطر، وكلي تأهب لما طالعت كتاب وزير الفلاحة الأسبق، مسلي إلياس، “جذور الأزمة الفلاحية في الجزائر”، لاسيما في خاتمته التي أنقلها لكم كما قرأتها، وهي مثيرة للاهتمام: “ترتسم منذ أعوام جزائر جديدة نتيجة اقتصاد البازار، المسمى دون حق، اقتصاد السوق. هل التاريخ يعيد نفسه، ويخلق مجددا أقلية أخرى لا تشبه الأقلية السابقة إلا في الأصول؟؟”.
عدم الانعكاس ناتج عن نوبة مشاكل معقدة عبر الأزمنة، قد تصل بنا إلى رجوع الفلاحة قبل الاستعمار، وهذا في رأيي يوضّح الإشكالية المطروحة.
لنسترجع إذن هذه الأرض بتفكير.. كشعب عامل، لأن الشعب العامل لا يمكن أن يُستعمر يوما.. والتاريخ يشهد على ذلك عبر العصور، فلنبتعد عن الكماليات، ونرجع إلى المفيد والأفيد.
أجل، لنرجع لهذا البلد الذي غذّى “نوميديا”.. هذا البلد المسمى ّبلد الشاة، مخزن الغلال لروما القديمة. لنتحمل المسؤولية ونفتح حوارا وطنيا، وورشات في الموضوع، بعدما نجمّد كل القضايا الأخرى قبل بلوغ نقطة اللاّرجوع.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)