الجزائر

وهم العولمة.. توحّش الغرب



كنت أعتقد مع نهاية الثمانينيات، وربما كل مثقفي جيلي، أن العولمة هي مآلنا. وهي مصير الإنسان الذي خرج لتوه من نظام الحزب الواحد، والتصور الاشتراكي للسلطة والمجتمع. سقطت المعتقدات والدوغمائيات اليسارية آنذاك وتهاوت. وراح بريق الأيديولوجية يخفت شيئا فشيئا، فلمع بريق العولمة، وانفتح طريق الاستهلاك.
اعتقدنا أن العولمة هي الطريق الموصل إلى الحداثة، ودونها تصبح حياتنا شبيهة بما كانت عليه حياة الأجيال التي سبقتنا. حياة تعيسة، تسير على وقع الخوف من العصا الغليظة.
اكتسى لمعان العولمة، والانفتاح على الآخر لذة تلوى أخرى. أعطانا ذلك الإحساس بجدوى الثقافة والأفكار، في عالم راح يتغير، رغبة ملحة في الانغماس في ثقافة العالم، لقد سكننا الغرب، وسكناه.
بقيت العولمة تفرض علينا تأثيرها، رغم ذلك الانزلاق الذي كان يحصل من حين إلى آخر. وتجلى الشك عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث بدأت الثقافة الغربية تنعطف وتنحرف نحو أقصى اليمين، وتتخلى عن طابعها الإنساني لتلبس لباس التطرف.
بدأ الشك يساور إيماننا في العولمة، وينخر، ويُربك تلك الرغبة الجامحة في التواصل مع هذا الغرب وثقافته. بدأت لحظة النقد الذاتي.
لحظة الشك تلك كانت تخفت أحيانا. شخصيا كنت أرى أن عودة التطرف والانغلاق، اللذان أصبحا يميزان الثقافة الغربية لن ينتصر، وسوف يتحول إلى فكر نشاز، ولن يحوز على اهتمام سوى قلة قليلة من الرأي العام الغربي. لكن مع مرور الزمن، ومع استفحال الأزمة الاقتصادية منذ سنتين، تحول هذا الفكر، الذي يجعل من تفوق الإنسان الغربي ومن مركزيته محورا أساسيا تقوم عليه السياسات، فتراجع البعد الإنساني في الثقافة الغربية، بما لا يترك مجالا للشك.
أصبحت العولمة والحداثة، التي ارتبطت باقتصاد السوق، ملوثة بانحرافات الليبرالية التي بلغت مرحلة شبيهة بالمرحلة الإمبريالية التي تحدث عنها فلاديمير لينين. ولا بد أن أفتح هنا هذا القوس لكي أؤكد أن جزءا من التكوين الفكري للجيل الذي أنتمي إليه كان نتاج كتاب واحد أثر فينا أيما تأثير، وهو كتاب ''نهاية التاريخ'' لفرنسيس فوكوياما. جعلنا هذا الأخير نؤمن بأن الحداثة والعولمة مرتبطتان باقتصاد السوق وبالليبرالية، وغيرهما ليس سوى لاحداثة.
هذه العولمة فرضت الاقتصاد الليبرالي كنموذج وحيد قادر على إخراج الإنسانية من ظلمات الاستبداد والقهر. وهذا الاقتصاد الليبرالي راح يرتبط شيئا فشيئا بالمضاربة، فأثرى الأثرياء، وأعطى الشركات الكبرى تلك القدرة على التأثير في سياسات الحكومات الغربية، وجعل الطبقة الوسطى أقرب إلى الفقر.
كثر الفقر في الغرب، وتراجعت المكاسب الاستهلاكية... والغرب لما ينقصه شيء يتوحش، ويندفع بحثا عن مرافئ نفعية جديدة في أمكنة قصية.
الغرب لما يجوع يلتهم الناس من حوله. وها هو اليوم يريد التهام كل العالم العربي، وإن كان بطريقة مغايرة تختلف عن تلك الطريقة الكلاسيكية والتقليدية التي تتطلب تدخلا عسكريا مباشرا. منحته الأنظمة العربية الديكتاتورية، شرعية التدخل. هذا أمر أكيد. لست ناصريا، ولا قوميا عربيا، لكي أصاب بالعمى، وأتحدث عن مؤامرات الغرب، دون فضح هذه الديكتاتوريات العربية المترهلة. لا أريد أن أقول إنها أنظمة تشكل درعا مقاوما للغرب ولأمريكا، بمجرد أنها تتظاهر بالعداء لإسرائيل. فالعداء للدولة العبرية شيء، وقهر الشعوب شيء آخر. بإمكانها أن تعادي إسرائيل، وتكتسب الشرعية، وتمنح الحرية والديمقراطية لشعوبها. أما الشرعية التي تستمد وجودها من مقاومة الغرب وإسرائيل، فتلك كذبة.
لا تختلف المراحل التي مر بها الجيل الذي أنتمي إليه عن تلك التي مر بها جيل الحركة الوطنية عندنا بداية من القرن العشرين إلى غاية نوفمبر .1954 كان يؤمن بالاندماج في المنظومة الاستعمارية، ولم يكن يرى الخلاص قادما إلا باكتساب الجنسية الفرنسية لبلوغ مرحلة المواطنة. وإن اختلف الاندماج من تيار إلى آخر، إلا أن المؤمنين به أصيبوا بالخيبة بسبب تعنت المنظومة الاستعمارية، وعدم قدرتها على مبادلة هؤلاء الاندماجيين ذلك العشق وتلك الرغبة في التواصل. انتهى فرحات عباس مثقفا ثوريا، فعاد إلى حظيرة وطنية في عالم ما بعد الاستعمار، الذي بدأ فعليا في نوفمبر .1954
 واليوم نجد أنفسنا، بالأحرى أجد نفسي، حائرا بين الاستمرار في عشق العولمة، وقد توحشت، ومحاولة فرض الذات لمواجهة هذا المد الاستعماري الجديد. فما العمل؟


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)