أغفل بومدين تماما بيان أول نوفمبر الذي كان ينص على ضرورة الجمع بين مبدأي العدالة الاجتماعية والديمقراطية، أي إقامة دولة ''ديمقراطية واجتماعية'' كما نص على ذلك البيان المكتوب أصلا باللغة الفرنسية، قبل أن يحرف هذا البيان بمحو الواو ويحول إلى ''ديمقراطية اجتماعية'' بعد ترجمته إلى العربية، وهي ترجمة تحمل دلالة أخرى مناقضة للنص الأصلي للبيان، وأبقي على هذا التحريف بهدف إعطاء شرعية ثورية للسياسة التي اتبعها بن بلة ثم بومدين في الجزائر.
ولم يع بومدين بحكم عدة عوائق أن عدم تطبيق الديمقراطية إلى جانب سياسته الاجتماعية ستكون عاملا رئيسيا وراء فشل مشروعه الاجتماعي، فلا يمكن أن ينكر أي باحث جاد بأن بومدين قد وضع إستراتيجية ومشروعا تنمويا طموحا جدا، وسعى بواسطته إلى اكتساب الشرعية بواسطة التنمية، لكن انعدام النقاش الحر في المجتمع منع بومدين من إدراك الخلل والهفوات الموجودة في مشروعه وإستراتيجيته لتصحيحها في الوقت المناسب، كما أن تغييبه للمعارضة وللتعبير الحر وللمجتمع المدني القوي والمستقل أدى إلى غياب الرقابة والتوازن بين مختلف مؤسسات الدولة، فنتج عن ذلك ميلاد بورجوازية جديدة يمكن أن نسميها بـ''البورجوازية البيروقراطية'' متكونة من بعض النخب الحاكمة، فقوضت هذه الطبقة الجديدة فيما بعد كل أحلام بومدين في تحقيق العدالة الاجتماعية.
كما أن شعور بومدين أنه حامل رسالة العدالة وخدمة الفقراء حوله إلى رجل مستبد بالرأي، فاعتبر كل مخالف له بأنه بورجوازي ورجعي وعميل للإمبريالية وعدو للطموحات الشعبية، وينظر إلى الأشخاص والتيارات الأيديولوجية المخالفة له في الطرح بأنها خائنة وينعتها بشتى النعوت كالعمالة والبورجوازية وعديمة الوطنية، وهو الاعتقاد الذي يدفع حتما إلى الإقصاء والممارسات الدكتاتورية، فبسبب ذلك قمع وسجن أشخاصا وزعماء أعطوا النفس والنفيس من أجل تحرير الجزائر من الاستعمار، ليقعوا فيما بعد تحت تسلط وقمع بومدين ونظامه. ويمكن أن نصنف بومدين ضمن السياسيين الذين يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، وينطبق هذا السلوك البومديني على الكثير من الأيديولوجيين المنغلقين الذين يحولون أيديولوجيتهم إلى حقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش والمراجعة، بمن فيهم بعض الديمقراطيين الذين يحولون المبدأ الديمقراطي إلى أيديولوجية مغلقة بدل أن تكون مجرد آليات لحل مشكلة السلطة بواسطة التداول السلمي عليها واحترام الحريات والتعددية وغيرها من مبادئ الديمقراطية.
وبفعل هذا الانغلاق الأيديولوجي قام بومدين بقمع المعارضة بكل أطيافها وسجن ونفي زعمائها، ولم ينج من ذلك حتى المقربون منه، فتعرضوا للمضايقات إلا لأنهم خالفوه الطرح، وعندما نقرأ مذكرات الشاذلي بن جديد نجده يقولها بشكل غير مباشر بأن مدغري وقايد أحمد وشابو قد ماتوا في ظروف غامضة بعد خلاف مع بومدين في الطرح، وحتى داخل مجلس الثورة فإنه لا يستشير إلا أقرب المقربين إليه، ما دفع الطاهر الزبيري إلى القيام بمحاولة انقلابية ضده عام .1968
أما بشأن بناء الدولة فإن بومدين لم يقم مؤسسات قوية ومستقلة، وبنى سلطة قوية لكن بدولة ضعيفة وهشة في مؤسساتها، كما لم يميز بين النظام أو السلطة القائمة والدولة، وهو وراء هذا الخلط الموجود اليوم لدى الكثير من الجزائريين، بل حتى بين السياسيين معتقدين أن الدولة هي السلطة والنظام، وكل من عارض سياسة السلطة فهو ضد الدولة في نظرهم، وهو أمر خطير جدا، لأن كلنا الدولة، سلطة وشعبا وأرضا ومؤسسات وأحزابا سواء كانت معارضة أو مؤيدة للسلطة القائمة التي هي ليست ثابتة بل متحركة وتتغير من انتخابات وتفويض شعبي لآخر، عكس الدولة ومؤسساتها، وذهب بومدين إلى أبعد من ذلك حيث أصبح يتحدث أن الدولة والأمة والوطن ومصالح الشعب تتجسد في شخصه، وكل من عارض سياساته فهو ضد الدولة والجزائر.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 27/12/2012
مضاف من طرف : aladhimi
صاحب المقال : الدكتور رابح لونيسي لـ''الخبر''
المصدر : Elkhabar 27/12/2012