الجزائر

وقفات مع قصة يوسف في القرآن (1)



المتتبع لقصة يوسف كما ذكرها القرآن الكريم يستدعي منه الوقوف معها عدة وقفات، وهي:
^ الوقفة الأولى: جاءت قصة يوسف في معرض واحد في القرآن الكريم، وهذه الظاهرة لم تُعْهد في قصة نبي من الأنبياء، حيث يتكرر ذكرها في أكثر من سورة، أو في مواضع متباعدة من السورة، حتى لتجيء بعض القصص في أكثر من مائة موضع في القرآن الكريم، فما الحكمة في عدم تكرار قصة يوسف عليه السلام؟
أجاب العلماء عن هذا السؤال بأكثر من جواب، وأقوى ما أُجيب به: أن قصص الأنبياء عليهم السلام إنما تكررت، لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم وآذوهم، والمواقف التي يعيشها النبي تستدعي ذلك التكرير، ذلك لتكرير تكذيب الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما كذبوا أُنزلت قصة منذرة بحلول العذاب، كما حلَّ على المكذبين، ولهذا قال تعالى: “قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين" (الأنفال: 38)، وقال أيضا: “ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين" (الأنعام: 6)، وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك.
^ الوقفة الثانية: ذكر سبحانه في فاتحة سورة يوسف قوله: “نحن نقص عليك أحسن القصص" (يوسف: 3)، ذهب بعض المفسرين إلى أن (التفضيل) هنا على غير حقيقته، بمعنى أنه ليس هناك مفاضلة بين القصص القرآني وغيره من القصص، والصواب أن التفضيل في الآية على حقيقته، وأن هذا التفضيل ليس واقعا بين القصص القرآني، إذ القصص القرآني كله على مستوى واحد من الكمال المطلق، الذي ليس بعده كمال ولا جمال، وإنما المفاضلة هنا بين القصص القرآني وغيره من القصص البشري. قال ابن عاشور: “وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه، وإعجاز أسلوبه، وبما يتضمنه من العبر والحكم، فكل قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه، وكل قصة في القرآن هي أحسن من كل ما يقصه القاص في غير القرآن. وليس المراد أحسن قصص القرآن، حتى تكون قصة يوسف عليه السلام أحسن من بقية قصص القرآن".
^ الوقفة الثالثة: قوله تعالى: “ولقد همت به وهم بها" (يوسف: 24)، اختلف المفسرون في معنى (الهمِّ) الذي همَّ به يوسف: أهو همُّ عزيمة؟ أم همُّ رغبة؟ وهل هو همُّ فعل؟ أم همُّ ترك؟ وصريح لفظ القرآن أنه همَّ بها، وأنها همَّت به، بمعنى أن كلاً منهما همَّ بصاحبه، وأقبل عليه، فلا معنى إذن للتفرقة بين لفظين متساويين لفظاً ومعنى، وهما في مقام واحد.
كذلك اختلف المفسرون في تأويل قوله سبحانه: “لولا أن رأى برهان ربه" (يوسف: 24)، اختلفوا في هذا (البرهان)، أهو مَلَك جاءه من الله يحذره مما يُدعى إليه؟ أم هو شيء وجده في نفسه، فغلب به نفسه، فكان ذلك (برهاناً) من الله له، يرى به طريقه المستقيم؟ أم كان هذا (البرهان) صورة أبيه يعقوب، وقد تمثل عاضا على أصبعه، محذرا من إياه من هذا الخطر الذي يتهدده؟ إلى غير ذلك من التأويلات لهذا (البرهان).
والذي حمل المفسرين على هذه التأويلات أمران:
أولهما: أنهم ألزموا لفظ “ربه" في الآية معناه المطلق، وهو الدال على ربوبية الله سبحانه، ولو أنهم نظروا إلى المعنى الآخر لكلمة (رب)، وأنها تجيء بمعنى (السيد) لخرجوا من ذلك الحرج الذي وقعوا فيه، وهم يحاولون أن يجدوا تأويلا لقوله تعالى: “لولا أن رأى برهان ربه"، فإن (لولا) حرف يفيد امتناع شيء لوجود شيء، أي: إنه لولا وجود برهان ربه لأمضى عزيمة الهمِّ بها، وهم يدفعون أن يكون يوسف قد همَّ فعلاً.
ثانيهما: أنهم يرون في النبي أنه ينسلخ عن طبيعة البشر، فلا تتحرك له شهوة، ولا تندفع في كيانه رغبة.. مع أن النبي بشر قبل أن يكون نبيا، وحين يلبس ثوب النبوة، لا يخلع ثوب البشرية، ويبقى من بشرية النبي كل مقوماتها، وما فيها من عواطف، ونوازع، وشهوات، وبهذا تتجلى عظمة النبي حين تتسع نفسه العظيمة لثوب النبوة، والاحتفاظ بها في طهرها، وبهائها، مع مغالبته لأهواء النفس البشرية وشهواتها.
وعلى هذا، فالذي يقتضيه المقام والسياق أن همَّ يوسف كان همَّ فِعْلٍ، لا همَّ تَرْكٍ، وأن “برهان ربه" هو برهان سيده العزيز، وأن هذا البرهان هو إشارة معروفة، كان يشار بها عند مجيء العزيز إلى بيته، حيث يكون ذلك إعلانا لخدمه، وحرسه، ليكونوا جميعاً على أُهبة الاستعداد لاستقباله، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: “وألفيا سيدها لدى الباب" (يوسف: 25)، أي: أنه ما كادت امرأة العزيز تداني يوسف، وما كاد يوسف يدانيها حتى رأى حركات القصر تنبئ عن مَقْدَم العزيز، وأنه ما كاد يفلت من بين يديها، ويتجه نحو الباب، حتى كان العزيز بالباب! وإذن، فيكون قوله سبحانه: “إنه ربي أحسن مثواي" (يوسف: 23) مقصودا به العزيز، فإنه لا يخون سيده الذي أكرمه بالعدوان على زوجه.
وقد ذكر البيضاوي كلاما يؤكد ما تقدم، حيث قال: “قصدتْ مخالطته، وقصد مخالطتها، والهم بالشيء قصده والعزم عليه، ومنه الهُمَام: وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه. والمراد بهمه عليه الصلاة والسلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة، لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل، عند قيام هذا الهمِّ، أو مشارفة الهمِّ".
هذا، وقد ذهب ابن عاشور مذهبا آخر هنا، معتبرا أن المراد ب (الرب) في الآية هو (الربُّ) الذي بمعنى الربوبية، وجعل الآية من باب التقديم والتأخير: وأن التقدير: لولا أن رأى برهان ربه، لهمَّ بها، فقدم الجواب على شرطه، للاهتمام به. ولم يقرن الجواب باللام التي يكثر اقتران جواب (لولا) بها، لأنه ليس لازماً، ولأنه لما قدم على “لولا" كره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط. وبالتالي فإن يوسف عليه السلام لم يخالطه همٌّ بامرأة العزيز، لأن الله عصمه من الهم بالمعصية بما أراه من البرهان.
الوقفة الرابعة: قوله عز وجل: “ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء" (يوسف: 52-53). ذهب أكثر المفسرين - وهو الذي يدل عليه السياق - إلى أن هذا من كلام امرأة العزيز، وأنه معطوف على قولها قبلُ: “أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين" (يوسف: 51)، وذهب البعض إلى أنه من كلام يوسف عليه السلام، تعقيباً على قوله للرسول الذي جاءه يدعوه للقاء الملك، فكان جوابه: “ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم" (يوسف: 50)، فيوسف لم يُرِد بهذا أن يفضح الحرائر، ولكنه أراد أن يبرئ نفسه، وأنه لا سبيل إلى تبرئة نفسه إلا بالكشف عن هذا الأمر، ولا سبيل للكشف عنه إلا بسؤال هؤلاء النسوة، فهو يقول لنفسه معتذراً من هذا الطلب الذي طلبه، معللاً له: “ذلك ليعلم" أي: فعلت هذا الذي طلبته من الملك، ليعلم العزيز أني لم أخنه في أهله، منتهزاً غيبته، واشتغاله بالحكم، وليعلم العزيز أيضا “أن الله لا يهدي كيد الخائنين" أي: لا يجعل الله للخيانة وأهلها سلطاناً في الحياة.
ثم يعود إلى نفسه، فيذكر أنه همَّ بامرأة العزيز، بعد أن همت به، وبعد أن عرضت مفاتنها ومغرياتها عليه، في أكثر من موضع، وفي أكثر من موقف، يذكر يوسف هذا، فيعترف على نفسه بهذا الهم الذي كان منه، فيقول: “وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء" إنها نفس بشرية، من شأنها أن تميل مع الهوى، وأن تغرى بالسوء “إلا ما رحم ربي" أي: إلا ما كان من رحمة الله، ودَفْعِه هذا السوء عن عباده المخلصين.
يتبع
النبي (صلى الله عليه وسلم) مع الرؤى والأحلام(1)
ما إن يضع الإنسان جنبه على الفراش ويخضع لسلطان النوم حتى تنطلق روحه لتجوب عالما آخر يختلف بحدوده ومقاييسه وطبيعته عن عالم اليقظة، فلا تعترف روحه بحواجز الزمان والمكان، فالعين ترى والأذن تسمع واللسان ينطق والجسد ساكنٌ في محلّه، إنه عالم الرؤى والأحلام الذي كان ولا يزال مثار اهتمام الأفراد والشعوب على مرّ العصور.
وإن نظرة إلى التراث النبوي الذي تركه النبي (صلى الله عليه وسلم)، تبيّن لنا الكثير مما يتعلّق بهديه عليه الصلاة والسلام في قضية الرؤى والأحلام، وكيفية التعامل معها.
وإذا تحدّثنا عن علاقة النبي (صلى الله عليه وسلم) مع عالم الأحلام والرؤى فقد بدأت في وقتٍ مبكّر من عمره، فقد كانت أولى علامات صدق نبوّته ومبعثه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) متفق عليه.
والرؤى في الأصل تُطلق على ما يراه الإنسان في نومه، وتكون حقا من عند الله تعالى بما تحمله من بشارة أو نذارة، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة.
ويبيّن النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك بقوله: “الرؤيا الصادقة من الله" رواه البخاري، وقوله: “رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" متفق عليه.
وفي المقابل، هنالك منامات مبعثها وساوس الشيطان وعبثه ببني آدم، ويعبّر عنها بالأحلام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: “الحلم من الشيطان" متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: “إن الرؤيا ثلاث، منها: أهاويل من الشيطان ليحزن بها بن آدم) رواه ابن حبان، ومثل ذلك ما رآه أحد الصحابة في المنام أن عنقه سقط من رأسه فاتبعه وأعاده إلى مكانه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: “إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدثنّ به الناس" رواه مسلم.
وبين هذين النوعين نوعٌ ثالث، هو مجرّد تفاعلٍ للنفس تجاه الواقع الذي تعيشه، والمواقف التي تمرّ بها، فتستخرج مخزون ما تراه أو تعايشه في نومها، فذلك ما يسمّى بأضغاث الأحلام وأحاديث النفس التي لا تعبير لها، قال - صلى الله عليه وسلم -: “..ومنها ما يهم به الرجل في يقظته، فيراه في منامه" رواه ابن حبان.
لكن السؤال الذي يرد في الأذهان: كيف يتعامل المرء مع هذه الأنواع؟ لقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن على من رأى الرؤيا الصالحة أن يستبشر بها، وألا يحدّث بها إلا لمحب أو عالم أو ناصح، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: “الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب" رواه البخاري، وقال - صلى الله عليه وسلم -: “لم يبق من النبوة إلا المبشرات: الرؤيا الصالحة" رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام: “إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحا أو عالماً"، رواه أحمد.
أما إن كان ما رآه من جنس الأحلام المزعجة وتلاعبات الشيطان، فقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحبها بأحد أربعة أمور: أن يتعوّذ بالله من شرّ الشيطان وشرّ ما رآه، وأن يبصق عن يساره ثلاثا، وأن يتحوّل من شقّه الذي ينام عليه إلى الشق الآخر، وألا يخبر بها أحداً، ويستفاد ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم -: “وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتعوّذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره" رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم، وزاد في رواية أخرى: “وليتحول عن جنبه الذي كان عليه".
ومن مسائل الرؤى أن من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقد رآه حقا، بشرط أن يكون قد رآه على صفته الحقيقيّة المذكورة في كتب الشمائل وغيرها، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: “من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثّل في صورتي" متفق عليه.
![if gt IE 6]
![endif]
Tweet
المفضلة
إرسال إلى صديق
المشاهدات: 3
إقرأ أيضا:
* الرحمة النبوية بالعصاة
* أكل الربا
* مقاصد سورة الحِجْر
* لفظ (الغيب) في القرآن الكريم
التعليقات (0)
إظهار/إخفاء التعليقات
إظهار/إخفاء صندوق مربع التعليقات
أضف تعليق
الإسم
البريد الإلكتروني


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)