الجزائر

وداعا يا رئيس!



وداعا يا رئيس!
لم أتمالك نفسي وأنا أقف أمام جثمان الرجل الذي تغطيه الورود، ولم أستطع مقاومة دموع انهمرت من عيني، وفي لحظات كالحلم، مرت صور كثيرة في ذهني، وفي أذني رنين صوته المبحوح، في هدوء تارة، وفي فورة غضب تارة أخرى.
فآخر مرة جالست الرئيس علي كافي كانت لإجراء حواره الناري الذي رد فيه على الدكتور سعيد سعدي، ويوضح المغالطات التي وردت في كتاب ”عميروش.. موتتان ووصية” الذي أثار جدلا، وقتها كان الرئيس غاضبا، أشد الغضب، فهو رأى أن تاريخ الجزائر طاله التحريف مع أن صنّاعه وهو أحدهم مازالوا على قيد الحياة.
كنت اتصلت هاتفيا بعلي كافي أياما قبل أن يلقى الله، وقلت له كيف يسكت هو ورفاقه المجاهدين ولا يرد على كتاب سعدي، ويوضح للنشء حقيقة استشهاد المرحوم العقيد عميروش... فرد بحماس، نعم أنا هنا اقرئي الكتاب وتعالي! وهكذا كان اللقاء الذي حمل الكثير من الحقائق التاريخية، حقائق لم يتمكن سعيد سعدي من دحضها.
ماذا سأقول عن فقيد الجزائر اليوم في هذا المقام؟ فمهما قلت لن أوفي الرجل حقه، وإن كانت فترة رئاسته البلاد القصيرة والصعبة لم تمكنّا من معرفة كل قدراته في حكم بلاد مشتعلة، فإن المجاهد ورفيق درب زيغود يوسف والقائد الكبير للولاية التاريخية الثانية، كتب صفحة مضيئة في تاريخ الثورة، التي خاض فيها الكثير من المعارك، سلاحه على كتفه، وقاتل باستماتة وشجاعة، وهي نفس السمة التي ميزت الرجل طوال حياته بعد الاستقلال، فقد وقف كمعارض للكثير من الخيارات، عارض انقلاب 62 على الشرعية، وعارض الكثير من مواقف المجلس الأعلى للثورة، وهو من القلائل الذين قالوا لا لبومدين، عارض إدماج الفارين من الجيش الفرنسي في جيش التحرير، مثلما عارض تمكينهم من مسؤوليات قيادية فيما بعد في الجيش وفي مناصب في الدولة.
فقد رد عليّ مرة ونحن نتحدث عن بومدين، بغضب: ”اسكتي، اسكتي، إن بومدين تاعك كان سبب الكثير من المصائب”! ورغم معارضته لهذه الخيارات لم تتلطخ يداه بدماء جزائريين، ولم يحمل السلاح مثلما فعل بعض رفاقه، بل ساهم بكل إيمان في بناء جزائر قوية عروبية ودافع عن الحرف العربي، فهو الأستاذ وابن المدرسة الباديسية، ساهم كدبلوماسي في كبريات العواصم، سفيرا لنا في مصر في زمن الرجل الكبير عبد الناصر وفي بيروت، وكسفير كان الوحيد الذي يقول لا لوزير الخارجية آنذاك، الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. فجهاده الصادق منحه هذه القوة التي قلما يتميز بها آخرون.
وشهادة للتاريخ إن الرئيس علي كافي هو من المجاهدين القلائل الذي تفطن للفتة ”الزرق” كما يسميها هو، والتي عرفت في الثورة باسم ”لابلويت” حيث حمى مثقفي الولاية الثانية من مجازر راح ضحيتها المئات في الولاية الثالثة والرابعة.
ليس هذا فحسب، فالسيدة المجاهدة فريدة بلقمبور، التي كانت مجاهدة تحت قيادته في وادي الزهور، قالت إن الرجل كان يحترم شديد الاحترام مجاهدات ولايته، ويحميهن من كل اعتداء، حتى أن العائلات تشجعت وصارت ترسل بناتها إلى الجبل للجهاد بعد أن تأكدوا من أخلاق الرجل وإخلاصه.
أبكي اليوم الرجل والسياسي الذي فقدته الجزائر في ظروف صعبة، ونحن في أمس الحاجة لنظرته للأشياء ولنصائحه القيمة. وفقدت فيه الفجر قارئا وفيا ومشجعا وناصحا.
فقدنا وطنيا رغم تذبذب البوصلة الوطنية بقي ثابتا وفيا لتلك الشعلة التي أوقدت ذات نوفمبر في صدور الرجال والنساء وما أكثرهم.
تعازيّ الخالصة للسيدة فطيمة المجاهدة ورفيقة درب الرجل، التي قالت لي أمس وأنا أقدم لها العزاء يا حدة يومين فقط وانتهى كل شيء. فقلت الحمد له أنه لم يمرض ولم يتعذب فهذه نعمة من الله.
رحم الله الفقيد وألهمنا الصبر، وعوضنا فيه خيرا.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)