يعد مرض الطاعون من أشد الجوائح الطبيعية وأكثرها فناءا للبشرية وفتكا بها، فقد عرفت بلاد المغرب ومدينة تلمسان خاصة، هذا الوباء الجارف عدة مرات، خلال العهد الزياني(72). فكان يظهر على رأس كل عشر سنوات. أو خمس عشرة سنة أو عشرين سنة تقريبا، يذهب بالآلاف من الناس(13).
وكان أشدها وطأة على الناس ذلك، الذي ظهر في آسيا الوسطى سنة 746هـ/1346م، واكتسح أوروبا، ووصل إلى شمال إفريقيا سنة 749هـ/1348م. وهو الذي أطلق عليه الأوروبيين بالطاعون الأسود La peste noire(74). فانتشر في بلاد المغرب مخلفا الكثير من الضحايا، وقد عاصره ابن خلدون فوصفه وصفا دقيقا بقوله: ''نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة، من الطاعون الجارف، الذي تحيف الأمم، وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها جاء للدول على حين هرمها، وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وقل من حدها وأوهن من سلطانها وتوادعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها، وانتفض عمران الأرض انتفاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن وكأني بالمشرق الذي نزل به، مثل ما نزل بالمغرب، ولكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون، في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها. وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، تحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفه وعالم محدث''(75).
والسؤال المطروح هنا هو إلى أي حد يتفق هذا الوصف مع ما وقع ببلاد المغرب حقيقة؟ فقد نعته ابن خلدون بالكارثة الكونية، بلغت درجة كبيرة من الانتشار والتوسع، بحيث لم يسلم منه أي قطر من الأقطار الإسلامية في بلاد المشرق، والأقطار المسيحية بالبلاد الأوروبية، ووصل إلى الأقطار المغربية، كان الموتى من جرائه يعدون بالمئات في اليوم الواحد وفي القطر الواحد، حصد السكان بدون استثناء(76). وقد كانت هذه الأوبئة تكتسح بلاد المغرب، في موجات دورية، ولا شك أن سكان مدينة تلمسان قد تأثروا به، مثل غيرهم، من سكان الحواضر الكبرى في المنطقة، وإذا كانت النصوص التاريخية، لم تبين لنا الظروف التي عاشها المجتمع التلمساني، خلال هذه الكوارث، ولم تحدد لنا عدد الموتى الذين كانوا يسقطون يوميا، من جراء هذا الوباء، فإن المؤرخ الزركشي لم يغفل ذلك، وأشار إلى أن سكان مدينة تونس كانوا يموتون بالمئات يوميا، وصل عدد الموتى في بعض الحالات، إلى ألف شخص في اليوم الواحد(77).
وقد انفرد صاحب نفاضة الجراب، بالحديث عن وباء الطاعون الذي أصاب بلاد المغرب، فترك لنا وصفنا دقيقا عن انتشاره وعما أصاب الناس به، من ضرر ومعاناتهم الكثيرة به بقوله: ''ووجدنا الطاعون في بيوتهم قد نزل، واحتجز منهم الكثير، إلى القبور، واعتزل وبقر وبزل، واحتجز فلا تبصر إلا ميتا يخرج، وكميتا إلى جنازة يسرج، وصراخا يرفع وعويلا بحيث لا ينفع فعفنا الهجوم وألفنا الوجوم وتراوغنا عن العمران، وسألنا الله السلامة من معرة ذلك القرآن''(78).
وكان هذا المرض قد تفشى، في طبقة العامة من الناس واشتد على الفقراء، حيث يكثر الاختلاط، ولا تتوفر شروط الصحة والنظافة(79)، غير أن هذا المرض لا يستثني أحدا عندما يعم وباؤه وتكثر أسبابه.
وقد اجتاح مدينة تلمسان مرض الطاعون كغيرها من مدن المغرب وقراه، سنة 750هـ/1349م فقضى على خلق كثير من الناس فيها، وفتك بعائلات بأكملها، مثل ما حدث لأسرة حفيد العالم التفريسي التلمساني، التي انقرضت كلها، من جراء هذا الوباء القاتل.
وقد عاصره أيضا أبو عبد الله الخطيب بن مرزوق فقال عنه: ''كان لحاج، يوسف بن يحي حفيد العال التفريسي، أولاد انقرضوا، بهذا الوباء''(80)، كذلك توفي به الفقيه، أبو عبد الله محمد بن يحي النجار، من خيرة علماء عصره في العلوم العقلية(81).
وتوفي به عالم تلمسان المعروف بابن الإمام أبو موسى عيسى، بمسقط رأسه وغيره من العلماء والأهالي(82). وظهر وباء الطاعون في المغرب الأوسط عام 845هـ/1442م. وانتشر في مدينة تلمسان وأتى على كثير من سكانها، ولم يمنع منع عالم تلمسان وأتى على كثير من سكانها، بدون منازع، ومفتي بلاد المغرب، وشيخ جماعتها، أبو العباس أحمد بن عبد الرحمان المغراوي التلمساني، الشهير بابن زاغو(83). وهذا دليل على أن مرض الطاعون، أصاب العامة، والأسياد والشيوخ وأصحاب القصور والجاه بدون تمييز(84).
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 27/10/2010
مضاف من طرف : tlemcenislam
المصدر : www.almasalik.com