الجزائر

هلال الدم.. مؤامرة.. قدر.. أم مخاض؟



هلال الدم.. مؤامرة.. قدر.. أم مخاض؟
في ثمانينات القرن العشرين، نشر مستشار الرئيس جيمي كارتر للأمن القومي زيبينو بريجنسكي، كتابا عن السياسة الدولية خصص قسما هاما منه للمنطقة العربية والإسلامية، وصف فيه البلدان الممتدة من جنوب الاتحاد السوفيتي يومها والى الشواطئ الافريقية للمحيط الأطلسي بأنها "هلال الدم" أو الهلال الدامي، الهلال إشارة للإسلام الذي هو دين الغالبية العظمى لشعوب المنطقة، وهو في كل الحالات الوعاء الحضاري الأساسي لغير المسلمين منهم. والدم إشارة للعنف الذي تعيشه دول هذا الحزام الذي يشمل دول آسيا الوسطى والشرق الاوسط وكذا الخليج العربي أو الفارسي، مرورا بدول شمال إفريقيا أو كل الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، مضافا لها دول الساحل والصحراء من شواطئ البحر الأحمر والمحيط الهندي إلى الضفة الإفريقية للمحيط الأطلسي.يومها (ثمانينات القرن الماضي) كانت المنطقة تعيش ثلاثة صراعات دامية، المقاومة الأفغانية للغزو السوفيتي، والحرب العراقية الإيرانية والحرب الأهلية اللبنانية، أما باقي البلاد الأخرى فقد كانت تعيش استقرارا، ظاهرا على الأقل، مع عوامل انفجار كامنة في كل دولة، عوامل تنوعت بين الفقر والقهر، وقوى متربصة تتحين الفرصة للانفلات وتحدي النظم القائمة، قوى إسلامية بالأساس مع اختلاف المنطلقات والمناهج والأساليب، وقوى اثنية ثقافية أقل بروزا وليس أقل تأثيرا أو حضورا، كالأكراد، البربر الأقباط.. وغيرها من "الأقليات الكثيرة" التي تعج بها المنطقة.. ويومها كانت شعارات الوحدة مازال صداها يتردد في الآفاق من المحيط الثائر إلى الخليج الهادر، ويومها كان الحديث عن صراع "عربي اسرائيلي" تتواجه فيه الأمة بكل مكوناتها مع العدو التاريخي في منازلة حاسمة، ويومها كان الحديث عن تنمية تقضي على التبعية وعن تكامل بين أقطار الأمة الواحدة يمكنها من مواجهة تحديات الزمن ومطالبه ومتطلباته.. يومها كان هنالك شرق وغرب، كانت الاشتراكية مازالت تصارع الرأسمالية، وحلف الناتو يواجه حلف وارسو، ومازالت موسكو واقفة في مواجهة واشنطن..يومها كانت كل شعوب الهلال الدامي محكومة بنظم الحزب الواحد والوحيد، تتنفس الرأي الواحد.. تقرأ الجريدة الوحيدة (وان تعددت طبعاتها وتسمياتها) وتسمع الاذاعة الوحيدة وإن اختلفت موجاتها وبرامجها، وتشاهد القناة الوحيدة وإن تعددت المسميات والمواقيت والترددات..يومها بالتأكيد لم يكن هناك من يحلم بشيء يشبه "الربيع العربي" وثوراته وحروبه، يومها لم يكن ممكنا تصور عالم يحكمه الانترنت والفايسبوك والتويتر والفضائيات والهواتف النقالة... كان كل ذلك ضربا من الجنون، لكن حفنة من الرجال والمؤسسات في الدول الكبرى استطاعت أن تستشف ملامح المستقبل وترصد معالمه، وتمكنت من أن تفهم موجة التحولات القادمة، والأهم من ذلك أن هذه الحفنة من الرجال والمؤسسات امتلكت الإرادة والقدرة على وضع الخطط الملائمة والاستراتيجيات المناسبة لتجعل التغيرات والتطورات متناسقة مع أهدافها، منسجمة مع مصالحها..وهكذا تحول الدم على الهلال من بقعة هنا ونقطة هناك إلى لون طاغ على المشهد بكامله من أقصاه إلى أقصاه، فمن أفغانستان ولبنان والعراق وإيران، في ثمانينات القرن العشرين، هاهي اليوم ليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن وباكستان والسودان ومالي ونيجيريا والجزائر كلها تصطبغ باللون الأحمر، وهاهي فتنة الحروب الأهلية تطل برأسها في كل مكان، وهاهو شبح التقسيم يغتال حلم الوحدة، وسيوف القبيلة والعشيرة تقطع أوصال الدولة والأمة. ويكاد الحنين إلى الاستقرار والأمن يطغى على كل أحلام ومطالب الحرية والديمقراطية.الحاصل الآن في هذا الهلال الدامي الممزق المرهق، هذا الهلال المظلمة آفاقه، يدفع مرة أخرى إلى التساؤل وإلى البحث عن طبيعة الأزمة التي تعيشها شعوبه ودوله، فتوالي الهزائم والنكسات والاحباطات بهذه الوتيرة، وفي هذه المنطقة دون سواها، كفيل بأن يولد اليأس وربما الجنون الجماعي.. هلال الدم، هو رقعة الشطرنج العالمية بامتياز، حيث تتداخل المصالح وتتضارب الأهداف وتتصارع القوى وتتصادم الأجهزة السرية والعلنية، لكن مناطق أخرى من هذا العالم تمكنت من التحرر من ربقة هذه المصالح والقوى وهاهي تشق طريقها نحو الحرية والرقي، ودول أمريكا اللاتينية خير مثال وألمع دليل.. لماذا إذا تظل دول وشعوب هلالنا الدامي وحدها في ساحة البيادق؟ لماذا كلما تقدمنا خطوة إلى الأمام تبعتها انتكاسة تعيدنا عشرة أو عشرين أو مائة خطوة إلى الخلف.؟وهل يمر طريق تحررنا وتقدمنا عبر نفق الموت والعدمية؟ هل نحن في حالة تطور تاريخي كتلك التي عاشتها أروبا مثلا لتصل إلى ما وصلت إليه؟ أم أننا ندور في مكاننا كحمار الرحى؟.. أسئلة كثيرة محبطة.. مثبطة.. لكنها ضرورية، محاولة البحث فيها، قد تفتح ثلم ضوء صغير في ظلام حالنا.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)