الجزائر

هل قلت.. نقتل الوقت؟



بقلم: حبيب مونسي/ الجزائر
كان الزحام يدفعني من صدر إلى صدر، ومن كتف إلى أخرى.. ولم أعبأ إلا وأنا في جوف معتم لحافلة تحولت نوافذها إلى شبابيك معدنية.. رحت أتلمس جسدي، أتفقد فيه الرضوض والكسور، ووقع الهراوات التي نزلت علي من كل حدب وصوب.. ولما أيقنت السلامة، أخذت أقلب طرفي في الحشد الذي يأسرني في هذا الجوف الأغبر. لم أميز وجها أليفا..
كانوا غرباء الزي والمظهر.. فيهم من الغضب ما رأيت حممه في العيون.. وفيهم من الدهشة ما رأيت آياتها في اللفتات التي يتبادلونها فيما بينهم.. وأحسست بشيء غريب ينتابني.. لم أكن واحدا من هؤلاء.. فأنا لا أنتمي إليهم.. وشعرت أنني في غربة بدأ سداها ينسج من حولي، يعزلني عن الجمع الصاخب. فلم أعد أقرأ في ملامحهم الوجوه الأليفة التي تعودت أن أصادفها في شوارع المدينة.. إنها هنا كتل من المشاعر.. يغلي مرجلها، وكأنها وضعت على نار متأججة.. لا أستبعد منها أن تفتك بالغريب.. ربما فسر لي ذلك المظهر تدجج رجال الأمن بالسلاح والمتاريس الصلبة، وكأنهم يدركون أنهم سيواجهون ضربا من المخلوقات، فيها من العنف ما يحتم عليهم مثل ذلك السلوك الذي قابلونا به من قبل.
لقد طوى الضجيج المتصاعد من الجوف الأغبر صوتي المبحوح الذي كنت أحسبه صراخا، فلم يلتفت إليَّ أحد.. وأحسست بهواني وتلاشي قوتي وأنا أشعر أنني قد سُلبت من كل شيء.. حتى حدة الصوت. فمن يعبأ بي بعد هذا ؟
حاولت أن أرفع بصري بعيدا عنهما وأن أجيل به في جدران الزنزانة الباهتة.. لاشيء فيها يشد الانتباه.. كانت آثار الطلاء الحديث تتقهقر جراء الرطوبة الطاغية، كاشفة عن طبقات قديمة لطلاءات مختلفة الألوان، تتكشف في مساحات وأشكال مختلفة، وهي تعرض على العين ما يشبه تشكيلات الفن الحديث..
كانت هذه الفكرة مثار ابتسامة شاحبة ارتسمت على طرفي شفتي، غير أنها امتدت بعيدا في أعماق النفس الحائرة، وجعلت الجدار مثارا لحركة تخييلية، أحسبها من قبيل الهذيان.. كنت أجد في البقع المختلفة التي شكلتها الطلاءات المتعددة شبها قويا بلوحات الفن التجريدي الحديث. التي يرسل فيها الفنان يد المصادفة في الألوان والأشكال والأحجام. فيكون له في الحيز الذي يُلَوِّن من الانطباعات المتضاربة ما يجعل اللوحة في نهاية الأمر نصا غريب اللغة.. غريب الأحاسيس.. غريب الدلالة. وكأن الفنان حين يحكِّم المصادفة فيما يصنع، يريد للغرابة أن تستحوذ على المجال الدلالي الذي يروم إنشاءه.. ليس القصد عنده أن يعبر عن فكرة.. عن شعور.. إنما غرضه أن تكون المصادفة سيدة الموقف.. سيدة اللحظة.
هاأنا أعود مرة أخرى إلى الزمن.. إنه حاضر في كل شيء.. حتى هذه الأشكال التي زعمت أنها للمصادفة، هي له.. إنه يُجري فيها يده عابثا.. يُجريها ساخرا.. يُجريها منتقما ممن ظن أن تجديده سيدوم دهرا طويلا..إن تراكب الألوان على بعضها البعض، يكشف عن قلة حيلة أمام القهر المسلط على الجدار والأشياء..
كان لهذه الفكرة في نفسي صدى عجيبا.. إن الزمن لا يميز بيننا وبين الأشياء! إننا سواسية تحت ميسمه.. لا فرق عنده بين الآدمي والجماد.. كلنا أشياء فقط! أشياء يُجري عليها ما يشاء من أفعال المصادفة.. إن ما يخطه على وجه الجدار بفعل الرطوبة، هو ما يخطه على وجه الآدمي بفعل الشيخوخة.. أليست الرطوبة شيخوخة في المباني؟
كنت أمسك برأسي مخافة أن يفضي بي الاسترسال وراء خيالي إلى ضرب من الصرع.. كنت أتحسس نبضات القلب في صدغي وهي تدوي فيه دويا شديد الطرق.. أحسست أنني أحمل في رأسي رؤوسا أخرى، لكل واحد منها همه الخاص مع الزمن.. فواحد يريد أن يعطي للزمن حقيقته الفيزيقية.. وآخر يريد أن يلبسه ثوبا رمزيا يجنح به بعيدا عن المادية التي تجسده، فلا يكون من فعله سوى تلك التصورات التي يأولها إلى ما يشاء من معان ودلالات.. ورأس يريد أن يجعل منه الطاحونة التي أوكل إليها سحق نفايات العالم من فكر وآراء وهواجس.. كل ما ينتجه الإنسان ليس سوى قمامة تضاف إلى ركام القمامات التي يركمها التاريخ في ركن من أركان الزمن نفسه.. ورأس.. ورأس.. لكل واحد منها عالمه الخاص.
شارك:
* Email
* Print
* Facebook
* * Twitter


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)