الجزائر

هكذا رسّخ الأمير عبد القادر الجزائري.. قيمة "التسامح"..


التسامح بين المسلمين وغيرهم من غير المسلمين واجب تفرضه الحياة بين بني البشر الذين يتقاسمون في معظمهم اعتناق الديانتين المسيحية والإسلامية، الشيء الذي أوجب التعامل والتعاون فيما بينهم في جو من التسامح البنّاء الذي يسعد البشرية ويزيل عنها حياة الغبن والمعاناة.. من هنا، سنتناول في بحثنا موضوع التسامح الإسلامي - المسيحي متخذين من مسيرة الأمير عبد القادر الجزائري أنموذجاً، سواء في فترة جهاده للغزاة المسيحيين الفرنسيين للجزائر، أو أثناء فترة وجوده في منفاه ببلاد الشام؛ لنستقي من ذلك العبر التي طالما أسهمت في التقارب بين العالمين وصحّحت لديهم كثيرا من المفاهيم الخاطئة.إنّ روح الحوار والتسامح مع غير المسلمين لدى الأمير عبد القادر تتجلّى بوضوح في شخصيته المتميّزة التي حظيت بالتربية السويّة على يدي والده الشيخ محي الدين الذي مال إليه ميلاً خاصاً، فتعهد أمر تربيته بنفسه، وأحاطه بعنايته وعطفه، فساهم بذلك في تكوين إنسان حافظ لكتاب الله، كما ساهمت رحلته رفقة والده إلى البقاع المقدّسة وبلدان المشرق العربي في اكتسابه المزيد من المعارف والعلوم وسعة الإطلاع، ممّا حدا به إلى الخلوة والاعتزال حين عودته إلى مسقط رأسه، منكبّاً على المطالعة لا يفارق كتبه.
إنّ هذه العوامل ساهمت بشكل بارز في تنمية جانب التسامح في شخصية الأمير عبد القادر عبر مختلف مراحل حياته، وضمن كامل أنشطته وتحركاته ولا سيما موقفه الشهير مع المسيحيين في بلاد الشام.
أخلاق الفرسان
ولم يخل جهاد الأمير من مواقف الحوار والتسامح والإنسانية طوال 15 سنة من المواجهات مع الغزاة الفرنسيين؛ وإنّ في كراهية الأمير عبد القادر لنصب الكمائن للعدو وإن اضطرته الظروف إليها نادراً، وإقدامه على إطلاق سراح مجموعات الأسرى حين تنعدم لديه إمكانية تأمين غذائهم، ما يدلّ على نبل إنسانيته وعظمة روحه وتسامحه مع المسيحيين حتى وإن كانوا هم غزاة بلاده.
لقد كانت نظرة الأمير عبد القادر إلى الحرب نظرة تتسم بالفروسية والإنسانية والإباء، فصاغ لوائح معاملة الأسرى التي ظلت مثار إعجاب أعدائه لحكمته وحرصه الزائد على احترام آدمية الإنسان مهما كان انتماؤه العرقي أو الديني.
ويثني فاغنر على تفتح الأمير بقوله: "برهن الأمير أكثر من مرة على أنّه يريد مسالمة غير المسلمين، فاستضاف من زاره من الرسل الفرنسيين والرحالين، وأكرمهم وعاملهم بلطف، ولم يكن يرى ما يحول بينه وبين أن يتحدث معهم في كلّ شيء، حتى في المواضيع الدينية. وكان يتكلّم بحيوية، ولكنه لم يكن يحتد أبداً، وحديثه أحياناً في منتهى الروعة، حيث كانت الكلمات الجميلة والأفكار البديعة تنبعث من فمه أخّاذة.
صور إنسانية مذهلة
ومن شهادات الأسرى الفرنسيين الذين يعترفون بالمعاملات الإنسانية الراقية المشبّعة بروح التسامح التي وجدوها أثناء أسرهم، نذكر ما صرح به الكابتان موريزو أحد القادة الفرنسيين الذين وقعوا في الأسر لدى الأمير فيقول: "وبعد ساعات فتحت عيني، ولم أكد أصدق ما حصل لي، إذ كنت ما أزال أحتفظ بكتيفياتي وبوسام الشرف، لم ينتزع مني أيّ شيء، وكنت في مأمن داخل خيمة، ممدوداً على بساط بين برنسين اثنين كلحاف، وزربية إلى جانبي، مع جرة فيها ماء وليمون ثم وجدتني أتجه إلى المكان المعين لإقامتي، وقد حظيت فيه باستقبال لدى عدو كريم وغير معروف كما ينبغي".
ولقد ذهبت روح الحوار والتسامح بالأمير إلى أبعد الحدود، فتجده يتسامح دينياً مع من يشنّ الحرب على شعبه ويغتصب أرض أجداده. ومن ذلك ما ذكره توستان دي مانوار أنّ أحد الأساقفة الفرنسيين قصد الأمير للتفاوض معه حول السماح للكنيسة الكاثوليكية بإرسال رجل من رجال الدين لخدمة الأسرى من الجنود الفرنسيين لدى الأمير، فاستجاب لطلب هذا الأسقف وأضاف قائلاً : "إنّني متأكّد من أنّ عملي هذا يرضي ربي إذ أتيح لبعض عباده ذكر ربهم واتباع شعائر دينهم، والله يحبّ العباد الصالحين".
ولقد اعترف بهذا النبل في أخلاقه وسماحته المقترنان بشدّة بأسه وشجاعته كبار خصومه من قادة الغزاة ومنهم المارشال سولت (كان وزيراً للحرب في سنة 1832) الذي قال في سنة 1840: لا يوجد الآن أحد في العالم، يستحق أن يلقب بالأكبر إلا ثلاثة رجال، وكلّهم مسلمون هم : الأمير عبد القادر، ومحمد علي باشا، والشيخ شامل الدغستاني.
كما يبدو طابع التسامح مع المسيحيين بوضوح في شخصية الأمير من خلال مواقفه المتعدّدة ومن أبرزها مراسلاته المختلفة إلى حكام الدول المسيحية وملوكها. ولعلّ من أهمها، وهو في ميادين القتال يقود الجيوش، ويواجه العدو، ويتحدى الصعاب، تلك المراسلات التي تبرز المواصفات التواصلية مع المسيحيين لدى هذا الرجل. وقد اخترنا منها بعض النماذج وفي مقدّمتها مراسلة يخاطب فيها رئيس الوزراء البريطاني بهذه العبارات : "إنّ الغرض الموجب لهذا الكتاب، أنّك ذو رأي سديد، وعقل متسع مديد، وأيضاً بلغنا أنّ كبراء الإنكليز أشفقوا من حالنا ونالوا الكلام في شأننا، وقالوا : إنّ الفرنصيص ظلم العرب وأضرّ بهم . ولابدّ أن نتكلم في أمرهم فلما تأملنا كلامكم هذا، وجدناه كلام العقلاء المنصفين الذين يرضون الصلاح ولا يحبّون الفساد " (الرسالة مؤرخة في 10 ديسمبر 1841م).
أما المراسلة الثانية، فيخاطب فيها الملكة الإسبانية بهذه العبارات : "من ملك المسلمين عبد القادر بن محي الدين إلى جلالة ملكة اسبانيا، وسيدة الأراضي الإسبانية السلام والفلاح للذي يتابع طريق الحق ورحمة الله وبركاته.. من المسلم به لدى جميع الناس، أنّ الإسبان يؤلّفون أمة قوية وقديرة. مشهورة بأعمالها الكبيرة منذ أزمنة بعيدة بمقدورهم ملاحظة مقاومتنا ضدّ الفرنسيين، والوضعية التي أنزلونا إليها.. لقد جرت العادة بين الملوك منذ العصور القديمة، أن يصلحوا الخلافات التي تنشبّ بين إخوانهم، ويمنعوا الحرب بينهم كذلك. (الرسالة مؤرخة في 28 أفريل 1847م).
أما المراسلة الثالثة فهي من حاكم مليلية دوبينيطو إلى الأمير عبد القادر جاء فيها: "سيدي عبد القادر : توصّلت بجوابكم عن الرسالة التي أرسلتها لكم مع رسالة الحكومة الإسبانية.. أعمل كلّ جهدي من أجل إرضائكم في حدود إمكانياتي".. الرسالة مؤرخة في 12 جويلية1847م).
في هذه المراسلات ما يتجلّى من خلاله الحوار والتسامح الإسلامي المسيحي والتواصل بين العالمين في أسمى معانيه، والذي لم يقف في طريقه كون غزاة الجزائر مسيحيون ضدّ شعب مسلم، وذلك في أحلك الظروف وأصعبها. لدى أمير تربّى وترعرع على قيم أخلاقية نابعة من بيئة طيبة عريقة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ الإسلامي الحنيف.
ولعلّنا نجد ما يدعم هذا المسار أكثر لدى الأمير وهو يعيش حياة الأسر بفرنسا ما بين 1848 و1852 م، تعبيره عن تلك الروح التواصلية مع المسيحيين أثناء زيارته كنيسة المادلين بقوله: "حينما بدأت مقاومتي للفرنسيين كنت أظنّ أنّهم شعب لا دين له. ولكن تبيّنت غلطتي. وعلى أيّ حال فإنّ مثل هذه الكنائس ستقنعني بخطئي".
الأمير يطفئ نار الفتنة..
إنّ من أجلّ وأنبل المواقف المشبّعة بالتسامح الديني في حياة الأمير، وإن كانت حياته غنية بالمواقف الجليلة هي تلك المتعلّقة بفتنة 1860م بين المسلمين والمسيحيين في دمشق، فقد علم الأمير عبد القادر أنّ لهيب الفتنة يوشك أن يحرق الديار الشامية، فأسرع إلى حاكم دمشق يستنهضه ويُخطره بضرورة حماية المسيحيين من الهلاك المحتّم على أيدي المسلمين، ولما لم تجد محاولاته المتكرّرة التجاوب المرجو، أسرع إلى جمع العلماء، والوجهاء، والأعيان من أهالي دمشق وخاطبهم قائلاً : "إنّ الأديان، وفي مقدّمتها الدين الإسلامي، أجلّ وأقدس من أن يكون خنجر جهالة، أو معول طيش، أو صرخات نذالة تدوي بها أفواه الحثالة من القوم.. أحذركم أن تجعلوا لشيطان الجهل فيكم نصيباً، أو يكون له على نفوسكم سبيلاً".
ومع تلك التحذيرات التي قام بها الأمير انطلقت شرارة الفتنة بدمشق يوم الاثنين 09 جويلية 1860م، وبقيت سبعة أيام متوالية، فصمّم الأمير حينها على اتخاذ كلّ ما في طاقته من تدابير لحماية المسيحيين؛ فجمع كلّ رجاله وأتباعه من المهاجرين الجزائريين ومحبّيه وخرجوا ليلاً يحملون المشاعل يطرقون أبواب المسيحيين ويُؤمّنونهم على أنفسهم، ثم طلب منهم الأمير أن يخرجوا معه إلى حيث يقيم، وأحاطهم برجاله المسلّحين يحرسونهم طيلة أيام الفتنة، فلمّا علم بمقدم جموع المسلمين العازمين على الفتك بهم، خرج في طريقهم ومن معه صارخاً في وجوههم : "مؤسف جدّاً، أهذه هي الصورة التي تشرفون بها رسولكم صلى الله عليه وسلم؟ إنّ غَضَبَه سيكون عليكم لن أمكّنكم من أيّ مسيحي، تراجعوا تراجعوا وإلا أعطيت لرجالي الأمر بإطلاق النّار". فتفرّقت الجموع بعد أخذ وردّ إثر فشلها في إيجاد منفذ للوصول إلى تحقيق ما كانت تعتزم الإقدام عليه.
وظلّ الأمير مع نحو ألف رجل من أتباعه يحرسون قرابة خمسة عشر ألف مسيحي أياماً وليال إلى أن انطفأ لهيب الفتنة.
إنّما هي أخلاقنا ومبادئنا..
لقد كان في تدخّل الأمير عبد القادر أثناء تواجده ببلاد الشام لإيقاف الفتنة بين المسلمين والمسيحيين؛ ما شهد له به التاريخ، جرّاء موقفه الإنساني المتسامح الخالد الذي كشف عن شهامته وعمق إيمانه، حين استطاع أن يحقّق عملياً حماية الدماء من الإراقة، في فضاء تجلّت فيه الروح الإنسانية التسامحية للأمير في أسمى معانيها، فيقوم بإيواء المسيحيين بمنازله، وهو ذلك الرجل المؤمن التقي.
ويعترف له بذلك القاصي والداني، ويمدحه العارفون من أهل الشعر والأدب، وتقدّم له الأوسمة والنياشين. وإنّها لوقفة متميّزة أصّل الأمير من خلالها للحوار الإسلامي المسيحي على كلّ الأصعدة.
وإنّه ليعبّر بنفسه عن تلك السمة النبيلة التي ملأت حياته كلّها وهو يكاتب الملكة البريطانية بالمناسبة ردّاً على الهدية التي أرسلتها إليه بتاريخ 20 محرم 1278ه .. "إنّني لم أفعل إلا ما توجبه عليّ فرائض الإيمان، ولوازم الإنسانية".
ويعبّر عنها بلسانه وهو يكاتب صديقه الإمام شميل قائد ثورة القوقاز ضد الروس في سنة 1860 ردّاً على رسالته التي شكر له فيها حسن صنيعه في هذه الحادثة بقوله : "فإنّه وصلني الأعزّ كتابكم، وسرّني الألدّ خطابكم، والذي بلغكم عنا، ورضيتم به منا من حماية أهل الذمّة والعهد والذب عن أنفسهم وأعراضهم بقدر الطاقة والجهد، هو كما في كريم علمكم مقتضى أوامر الشريعة السنية والمروءة الإنسانية".
وحين كاتبه أسقف الجزائر بافي (Pavy) شاكراً له موقفه هذا تجاه المسيحيين، أجابه بما يلي: "ما فعلناه من خير للمسيحيين، ما هو إلا تطبيق لشرع الإسلام، لأنّ كلّ الخلق عيال الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله، وكلّ الأديان من آدم إلى محمد عليهما السلام تعتمد على مبدأين هما - تعظيم الله جلّ جلاله والرحمة بمخلوقاته، وما عدا هذا ففرعيات ليست بذات أهمية كبيرة والشريعة المحمدية هي من بين الشرائع التي تعطي أكبر أهمية للاحترام والرحمة والرأفة وكلّ ما يعزّز التآلف ونبذ التخالف".
كيف لا تكون هذه مواقفه وهو القائل: "لو أصغى إليّ المسلمون والنصارى، لرفعت الخلاف بينهم. ولصاروا إخواناً، ظاهراً وباطناً. ولكن لا يصغون إليّ".
لقد كانت مواقف الأمير تلك نابعة من قناعاته الإيمانية التي تدعوه إلى التواصل والتسامح مع من يخالف عقيدته. تطبيقاً لقوله تعالى: « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين " صدق الله العظيم.
لقد تجسّدت في شخص الأمير مواصفات قلّما نجدها في غيره؛ تجمع بين الإنسان المتسامح الرحيم، والمثقّف المتأمّل، والزاهد العابد، والفارس المجاهد، والدبلوماسي البارع، والأمير الباحث عن الحرية والعدالة من خلال القيم والمبادئ النبيلة التي تربّى عليها منذ الصغر.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)