في خمسينية الاستقلال، مازال شهداء معركة ''أغني زيضوض''، كما يسمّيها أهل المنطقة الساحلية لولاية تيزي وزو، وعملية ''جناد''، كما هي مدوّنة في الوثائق العسكرية الفرنسية، ينتظرون من يقيم أيّ علامة تدلّ على مكان مقبرتهم وتقي عظامهم من أشغال الحفر ومن ثمّة التنكيل.
السبت 29 ديسمبر، الساعة الثالثة بعد الزوال، ''الخبر'' تزور غابة ''أغني زيضوض'' المشتركة بين بلديتي أزفون وإفليسن، رفقة المجاهد محمد محرور المدعو ''موح بوديع''. هذا الأخير رغم إعاقته وعجزه عن السير لأكثـر من دقائق، هو من أصرّ على مرافقتنا إلى هذه الغابة، ليدلّنا على المكان الذي شارك فيه، شخصيا، في دفن 36 شهيدا. هناك خزّان مائي أُقيم بجانب رفات الشهداء. عمي محمد لا يستطيع تحديد موقع الحفر الثلاث بالضبط، والتي يتذكّر جيدا أن كل واحدة منها احتضنت 12 جثّة، ويقول: ''مرّة شاهدت شبابا يحفرون في هذا المكان واقتربت منهم ودعوتهم أن يحفروا بتأنٍ، لأن هناك شهداء دُفنوا هنا، وقلت لهم إن عثـرتم على أيّ عظام أخبروني حتى أتصرّف''، وكانت الصدمة كبيرة على عمي محمد، عندما قال له أحدهم: ''لقد عثـرنا على جمجمة فوق السطح وألقينا بها إلى أسفل الطريق''. المجاهد لم يجد كلمات يعبّر بها عن صدمته فانصرف وترك هؤلاء الشباب يفعلون ما يشاءون.
شهداء معركة ''أغني زيضوض'' تجاوز عددهم المائة، بعد أربعة أيام من الحصار شاركت فيه القوات الجوية والبحرية والبرية للجيش الاستعماري. إيسقيفان أعمر، المدعو ''سي أعمر أحنوش''، آخر المجاهدين الأحياء الذين عايشوا العملية رفقة محمد أوزايد من قرية تيفرة، ويقدّر قوة الاستعمار التي حاصرت الغابة من 9 إلى 12 أكتوبر 1956، بـ35 ألف جندي، ويتحدّث النقيب بيير هونتيك عن ''قوة هامة تعطي الانطباع أن الأمر يتعلّق بعملية استعراضية''. أوكلت العملية للجنرال لاكوم، عقابا لأفراد ''القوة ك''، على وزن ''كابيل'' بالفرنسية، والتي زوّدتها القوات الاستعمارية بما لا يقل عن 300 قطعة سلاح وملايين فرنكات فرنسية، اعتقادا منها أنها قوة موازية لجيش التحرير الوطني. إنها العملية الشهيرة التي سُمّيت ''العصفور الأزرق''.
أفراد ''القوة ك'' يسمّيهم أهل المنطقة بجماعة ''لا روبير لاكوست''، نسبة للحاكم العام الذي حلّ للتوّ بالجزائر خلفا لجاك سوستال. ووجد لاكوست في مكتب سلفه ملف ''القوة ك'' مجمّدا، ليعيد إحياءه بمساعدة مستشاره المختص في الإثنولوجيا، جون سيرفيي. مشكلة مستشار لاكوست أنه حاول توظيف معرفته العميقة بالتركيبة العرقية للمجتمع الجزائري، والقبائلي بشكل خاص، ''لأغراض سياسية وحربية، وليست علمية بحتة''، مثلما تقول إيميل لاكوست ديجاردان التي ألّفت كتابا عنوانه ''القبائل.. الإثنولوجيون وحرب الجزائر''. والمنطقة التي شملتها عملية ''العصفور الأزرق'' كانت هادئة نسبيا في الأشهر الأولى من الثورة التحريرية، حيث سجّلت عمليات تخريب هنا وهناك.
ويعود بنا المجاهد ''سي أعمر أحنوش'' إلى تلك الأيام، وهو الذي عاد من الهجرة في فرنسا مباشرة إلى معاقل جيش التحرير سنة 1955، قائلا: ''كنا مجموعات تنشط في مختلف القرى، وأنا كنت مع ثمانية من أبناء قريتي نقوم بعمليات تخريب الجسور والأعمدة الكهربائية والهاتفية... لقد حرمنا المعمّرين من الكهرباء طيلة سنة 1955. لم تكن بحوزتنا أسلحة''. وسبب هذا الهدوء، حسب جون سيرفيي، يكمن في التركيبة العرقية للمنطقة التي يعرفها جيدا، فهي منطقة تكثـر فيها الزوايا والأضرحة، والذاكرة الجماعية فيها مليئة بأساطير تروي قصص صراع الحق والباطل.. وتم بها اكتشاف آثار يعود تاريخها لأقدم العصور، بالإضافة لتسميات تدل على وجود نازحين من الأندلس استقروا في المنطقة.. وجون سيرفيي يعتبر سكان عرش إيفليسن، بالذات، فارسيي الأصل.. وللمنطقة، أيضا، تاريخ طويل مع المقاومات الشعبية، وعمدت السلطات الاستعمارية لربطها إداريا بمنطقة غريمة..
جون سيرفيي وضع كل هذه المعطيات بين أيدي النقيب بيير هونتيك، المكلّف بتنظيم ''القوة ك'' وكسْب ودّ السكان. ويسجّل هونتيك، في كتابه ''طالما توجد النجوم''، أن الفترة التي استلم فيها العملية تزامنت مع صعود الصورة البطولية لكريم بلقاسم في منطقة القبائل، لكنه وجون سيرفيي يجهلان أن كريم بلقاسم أقام في المنطقة منذ سنة 1947، حين اختار الخروج للجبال والابتعاد عن صراعات حزب الشعب وحركة انتصار الحريات الديمقراطية. ''الخبر'' زارت مقر إقامة كريم بلقاسم سنوات 1947 إلى 1952، في الغابة المسماة ''خرباش''، وحينها كانت عبارة عن حقول لأشجار التين وزراعة القمح بشكل خاص، وتحيط بهذه الحقول، الواقعة على منحدر لم يثـر أطماع المعمرين الذين تركوها للأهالي واكتفوا بالاستيلاء على أراضي سهل ''ملاتة'' الممتد إلى غاية مقر بلدية أزفون الحالية، أشجار الفلين بكثافة، قبل أن تعوّضها مصالح الغابات بأشجار الكاليتوس'' في الثمانينيات.
إحدى هذه الحقول ملكية لـ''سي أحمد تفزيرية''، مسؤول حزب الشعب في المنطقة، وهذا الأخير كلّف المجاهد ''سي أعمر أحنوش''، الذي كان في مقتبل العمر، يتيما وفقيرا، ببناء كوخ خشبي، أو ''أعشيو'' بالقبائلية، وكلّفه بتهيئة مساحة للقيام بعملية الدرس بجانبها. هذا الإنجاز التقليدي كان موجّها لاستقبال كريم بلقاسم وذراعه الأيمن أوعمران. والغرض من تهيئة المساحة المخصّصة للدرس هو تفادي جلب أي فضول لمن يمرّ على المكان، حيث يشاهد فلاحا منشغلا بالعمل في حقله، والفلاح طبعا هو كريم بلقاسم، الذي يستغل الليل لتجريب السلاح وتدريب رجاله في الغابات والوديان المجاورة. وأوصى ''سي أحمد'' الفلاحين الذين يملكون حقولا بجوار حقله، أو يشتغلون في مزارع الكولون، بعدم الاهتمام بالأشخاص الغرباء المتواجدين في حقله، وكان يكلّفهم، أيضا، بحمل القفة إلى ضيوفه ووضعها على الأرض ثم الانصراف دون محاولة فهم أيّ شيء. وكان الفلاحون يلبّون طلبات ''سي أحمد'' الذي يحظى بتقدير واحترام الجميع.
''سي عاشور''، أيضا، كان طفلا صغيرا يرعى الغنم، حين سمع دوي رصاص، وجلبه الفضول للتقصّي فيما حدث، إلى أن التقى أمام كوخ آخر من الأكواخ المنتشرة في تلك الحقول بـ''سي سعيد''، وهو من أبناء القرية وأحد شهدائها في الثورة التحريرية. ''سألني ما الذي أتى بك إلى هنا، فقلت له سمعت دوي الرصاص، فقال لي اشتريت بندقية جديدة وأنا بصدد تجريبها، انصرف ولا تعد إلى هنا من الآن فصاعدا''، يروي ''سي عاشور''، أمام الأحجار المتبقّية من البيت العتيق الذي كان يأوي كريم بلقاسم وأوعمران، بينما اختفت آثار الكوخ الخشبي المستعمل لصرف نظر المارين، بعدما أتت عليه آلات إيصال غاز المدينة إلى المنطقة منذ أشهر.
ويروي سكان قرية إحنوشن أن السلطات الاستعمارية بلغها خبر كريم بلقاسم طيلة فترة نزوله ضيفا عليهم، مرتين: مرة قام فيها درك الاستعمار بتفتيش كل القرى المجاورة ولم يعثـروا على المبحوث عنه، ومرة حين كان على متن حافلة. وهناك روايتان لقصة الحافلة، تقول الأولى إن دركيين اثنين صعدا الحافلة وشرعا في التأكّد من هوية كل راكب، وعندما وصلا إلى كريم بلقاسم قابلهما بسلاحه الرشاش فانبطحا ولم ينهضا إلا بعدما أخبرهما الركاب بأن الرجل اختفى. أما الرواية الثانية فتقول إن أحد الدركيين الذين كُلّفوا بتوقيف كريم بلقاسم جزائري، وكان يصرخ ''آريت.. إيغزر.. إيغزر''، بمعنى أن الرجل كان يأمر كريم بلقاسم بالتوقّف باللغة الفرنسية ويساعده على الهروب نحو الوادي بالقبائلية. وتكشف الروايتان كيف تكرّست تلك الصورة البطولية لـ''أسد جرجرة''، التي تحدّث عنها النقيب ''بيير هونتيك'' والأبعاد التي بلغتها الحركة الوطنية في منتصف الأربيعينيات وبداية الخمسينيات.
لقد دخلت في قلب النظام الاستعماري، وكان الإثنولوجي جون سيرفيي يجهل الأمر تماما، وكذلك الشأن بالنسبة للضباط العسكريين الذين قدّموا ابن منطقة عزازفة، طاهر حشيش، لنقيبهم ليساعده في مهمّة تجنيد من سيحاربون جيش التحرير في الجبال، لأن قواتهم يصعب عليها الوصول إلى مواقع المجاهدين بسرعة ودون إثارة الانتباه.
ويروي النقيب هونتيك ما قاله طاهر حشيش، أو ''طاهر تعشاشت'' كما يسمّيه أبناء منطقته، في أول لقاء جمعهما، وكتب ما يلي: ''لم تفهموا أنتم الفرنسيون يوما مشاكلنا الحقيقية، نحن القبائل. لقد فضّلتم السياسة العربية وشجّعتم أسلمة منطقة القبائل، والآن جاء دور مانداس فرانس الدنيء ليحشر أنفه ويبيع الجزائر ومنطقة القبائل لعبد الناصر بأبخس ثمن. لحسن الحظ القبائل موجودون لتصحيح الوضع. سنكنس حركة التمرّد هنا، ثم سنحلّ مسألة المغرب وتونس. هذا ما قاله لي طاهر حشيش..''. ويصف هونتيك محدثه بأنه ''أنيق ويتحدّث الفرنسية بطلاقة، ولا يمكن لغير أهل البلد أن يشعر بالنغمة القبائلية في حديثه..''.
حين استلم هونتيك ملف عملية ''العصفور الأزرق''، أخبره مسؤولوه أنها تضمّ حوالي 300 عنصر، وكان ذلك ربيع سنة 1956، حسب شهادته، ويروي الأستاذ محمد الصالح صديقي، الذي كان مسؤولا للتسليح والتمويل في المنطقة مع بداية الثورة التحريرية، أن العقيد إيعزوران أخبره بالعملية أسبوعا بعد بدايتها، ويقول: ''كنت خائفا من فشلها، لكن إيعزوران كان واثقا من نجاحها، مثله مثل كريم بلقاسم الذي ردّ على محمدي سعيد حين عارض الفكرة.. أنا من يتحمّل مسؤولية هذه العملية إن نجحت فستحسب لي وإن فشلت سأحملها على عاتقي''. والعملية بدأت في جانفي من نفس السنة، حسب شهادة ''سي أعمر أحنوش''، الذي يقول: ''اتصل بنا مسؤولنا الأول في المنطقة، المدعو حمادي من قرية إيغيل مهني، وطلب منا وثائقنا حتى يسجّلنا في قائمة يفترض أنها لخونة سيمنحهم الجيش الفرنسي أسلحة لمحاربة جيش التحرير، لكنه طمأننا أننا لن نكون خونة حقيقيين..''. أما محمد أوزايد، المدعو ''موح تيفرة''، فيقول: ''نحن في تيفرة لم نتلق السلاح من الجيش الفرنسي، لكننا تلقّينا أوامر من جيش التحرير للخروج من السرّية والتحرّك بكل حرية وسط المواطنين. في البداية لم نفهم كيف يمكننا أن نتحرّك بحرية في وضح النهار ونحن مبحوث عنا، ثم فهمنا أن الجيش الاستعماري أعطى أوامر لعناصره أننا حلفاؤهم، وعليهم أن يتركونا وشأننا..''.
هونتيك كان مطمئنا لخطاب طاهر حشيش المعادي لجيش التحرير وعبد الناصر، خاصة وأن مجاهدي جيش التحرير أقدموا على حرق الحافلة التي كان يستغلها.. والتقاه ثانية وقدّم له شخصا آخر فاعلا في ''القوة ك''. إنه أحمد زيدات، من نواحي عزازفة القريبة من عرش آث جناد وإفليسن، ويدعى ''أحمد أوزايد''. الرجلان، يقول هونتيك ''كانا يتبادلان أطراف الحديث بالفرنسية ثم يتجادلان بالقبائلية، وبحركة الأعين تعود سلطة القرار دائما لزيدات''، ما يعني أن حشيش يعمل تحت سلطة أحمد زيدات، الذي يُفترض عند الفرنسيين أنه يخضع للأول. لكن ليس هذا ما حيّر هونتيك، بل كون أفراد ''القوة ك'' يقتلون، دوما، أشخاصا ويقدّمونهم كـ''فلافة''، دون أي إمكانية للتأكّد من ذلك، زيادة على كونهم لا يُقتلون ولا يُصابون ولا تسمع وحدات الجيش الفرنسي صدى الاشتباكات المسلّحة بين الطرفين.. النقيب هونتيك يتحدّث عن ضغط كان يمارسه عليه زيدات وحشيش حتى يزوّدهم بالمزيد من الأسلحة، سيما المتطوّرة منها. ويقول ''قرّرت، بدوري، الضغط على حشيش حتى يزوّدني بالمعلومات الكافية عن أفراد ''القوة ك''، وكان يقول لي بأنها بحوزة المكتب الثاني بتيزي وزو. وحين بحثت عنها هناك وجدتها فعلا صحيحة، لكنها لا تقبل التفسير''.
هونتيك حطّ رحاله في تيفزيرت عند النقيب مون بلون، هذا الأخير تربطه علاقة حميمية مع فاعل آخر رئيسي في عملية ''العصفور الأزرق''، هو الشهيد عمر تومي، الذي يلقّبه جون سيرفيي بـ''العبد الأسود'' ويلقّبه المجاهدون ''عمر أبركان''، لبشرته السمراء. وعرفانا من مون بلون للدور الذي لعبه عمر تومي في ''محاربة الفلافة''، على حدّ اعتقاده، منحه سلاح ''مات48'' ومسدّس مضيئ يستعين به كلّما كان بحاجة للدعم العسكري. وشاءت الأقدار أن يسقط مجاهد ضحية لغم من الألغام التي زرعتها القوات الاستعمارية في غابات ميزرانة، وكان الشهيد يحمل في أغراضه صورة المجاهد مولود الذي يعرفه هونتيك. لقد قدّمه له طاهر حشيش وأحمد زيدات لتلقّي تدريب على القفز بالمظلة، وكذا تدريب على استخدام جهاز الراديو، قبل أن يقع بين أيدي الشرطة في إحدى حملاتها على حي القصبة بالعاصمة. هونتيك تدخّل، شخصيا، للإفراج عنه وتظاهر حشيش بتوبيخ مولود وإرساله إلى ''البلاد'' لأنه ضعيف الذكاء. هنا لم تبق لدى هونتيك ذرة شكّ من أن عملية ''العصفور الأزرق'' قد تبخّرت وانتقلت إلى أيادي جيش التحرير الوطني''. لكنه بحاجة لإقامة الدليل على حليفيه، حشيش طاهر وزيدات أحمد، وحاول إقناع رفيقه مون بلون بتوقيف التعامل مع عمر تومي، لكنه فشل في ذلك.
30 أوت 1956، هونتيك أعدّ الحصيلة التالية عن العملية ''300قطعة سلاح تمّ توزيعها، لا نعرف وجهتها و9 ملايين فرنك توزّع شهريا كذلك، ولا نستطيع مراقبة وجهتها أيضا''.. ''سي أعمر أحنوش'' يقول إن ''الأموال التي كان يُفترض أن تسلّم لنا لم نرها أبدا، كانت تُصبّ مباشرة في خزينة الجبهة. العملية ناجحة إلى أبعد الحدود إذاً بالنسبة لجيش التحرير، ولجنة التنسيق والتنفيذ رأت أنه من الضروري توقيفها وتوزيع أفراد ''القوة ك'' على مختلف وحدات ونواحي جيش التحرير''. يأمر كريم بلقاسم، إذاً، جنوده بالكشف عن حقيقتهم والاستعداد لالتحاق كل واحد منهم بوحدته الجديدة. هونتيك يتلقّى استدعاءً من القيادة في تيزي وزو، الجنرال فورو كان قلقا، لأن قواته تلقّت ضربة موجعة. ''موكب عسكري خرج من ثكنة تيمرزوفة قصد التموين بالمياه، تعرّض لكمين. فقدنا عشرة أفراد وأسلحتهم. العملية تمّت في وضح النهار، حدود الرابعة مساءً، وقريبة من السكان''، هذه القصة التي يتحدّث عنها هونتيك تشبه كثيرا قصة ''سي أعمر أحنوش'' عن أول كمين شارك في تنفيذه ضد القوات الاستعمارية.
تيمرزوفة قريبة من أزفون في الجهة الجنوبية، والمجاهدون قضوا الليلة في قرية إيسموماثن، على الطريق التي تربط أزفون وتيمرزوفة وكل القرى الجنوبية لعرش آث جناد. في الصباح، يقول ''سي أعمر أحنوش'': ''أخذنا مواقعنا وتركنا الموكب يمر بسلام، لأننا لو نفّذنا العملية صباحا لكان ردّ فعل العدو قويا والوقت يكفيهم لاصطيادنا. لم نتحرّك من أماكننا حتى الرابعة مساءً، عاد الموكب ونفّذنا العملية. قضينا على ستة من أفراد العدو وغنمنا أسلحتهم، ولم يحصل لنا أي مكروه''. الجنرال فورو يأمر هونتيك بالردّ، بقوّة وسرعة، ويخبره أنه سيجد ستة من عناصر ''القوة ك'' لمساعدته. يومان أو ثلاثة بعد هذه العملية، هونتيك دائما في ثكنة تيمرزوفة ويسمع دوي رصاص كثيف قادم من إفليسن، وشاهد بعدها رصاصتين مضيئتين. هما لعمر تومي. أراد أن يشعر مون بلون بحاجة للدعم. هونتيك يرسل فرقة من كومندوسه بسرعة، وأمرهم أن يلتزموا الحذر والحيطة. وعند عودتهم أخبروه بالحصيلة: مون بلون وقع في كمين نصبه له صديقه عمر تومي، وكل الجنود الذين أرسلهم إلى إيغر نسالم لتقديم الدعم لـ''القوة ك'' سقطوا، ومون بلون نفسه فقد رجله في هذا الكمين. أهل إيغر نسالم كلهم حفظوا عبارات ردّ عمر تومي حين ناداه صديقه النقيب ''توقّف تومي أنا مون بلون''، تومي ردّ عليه ''أعلم أنك مون بلون''. ولم يتوقّف الرصاص إلى أن قضى تومي ورجاله على آخر جندي من قوّة مون بلون.
هنا انتهت التمثيلية، وتأكّد الجنرالات الفرنسيون، رسميا، من نكستهم، حين تلقّوا رسالة كريم بلقاسم إلى لاكوست، التي تقول ''..من كنتم تعتقدون أنهم خونة هم وطنيون خالصون لم يتوقّفوا يوما عن الكفاح من أجل استقلال بلادهم. شكرا على تزويدنا بالأسلحة التي سنحرّر بها بلادنا..''. رسالة كريم بلقاسم مؤرّخة في الفاتح أكتوبر 1956. وأسبوع كان كافيا لتحاصر القوات الفرنسية كل منطقة آث جناد وإفليسن. هونتيك يقول ''أحكمنا الحصار على المنطقة في ليلة واحدة، قوات هائلة أغلقت الجهة الغربية والجنوبية، والدبابات كانت تغطّي طريق ''بور فيدو'' (أزفون حاليا)، والبحر من الجهة الشمالية أكمل العملية''. ولم يتحدّث هونتيك عن القوات البحرية التي شاركت في الحصار، لكن المجاهد محمد أوزايد، المدعو ''موح تيفرة''، يتحدّث عن باخرتين كانتا راسيتين قبالة قريتي أومادن وآيت أرهونة.
هونتيك يروي تفاصيل الأجواء السائدة وسط أفراد قواته ''مطلع النهار.. أفراد الكومندوس يتحرّكون ببطء.. المتمرّدون يتجنّبون الاشتباك، لأنهم يجهلون حجم القوة التي تواجههم..''، وفي هذه الأثناء كان ''سي أعمر أحنوش'' في منزل ''سي سعيد'' في قريته ضمن كتيبة مكوّنة من 30 مجاهدا. هم مجتمعون لأيام طويلة تحضيرا للرحيل نحو وحداتهم الجديدة، أما ''موح تيفرة'' فكان، أيضا، مجتمعا، في قريته، مع المجاهدين المقرّر أن ينتقلوا إلى الأربعاء ناث إيراثن''. وقد انتقل ''موح تيفرة''، فعلا، إلى الأربعاء ناث إيراثن، بعدما نجا من الحصار. الأخبار بدأت تصل من قواعد الدعم والاستعلام عن تقدّم قوة عسكرية هائلة نحو معاقل المجاهدين. المساعد موح وعلي، المدعو ''شيري بيبي''، الذي كان ضمن الكتيبة المجتمعة في إحنوشن يخرج لتقصّي الوضع ولن يعود إلى رفقائه. الجميع ظنّ أن مكروها ما حدث لموح وعلي، لكنه نجا من طائرة الاستطلاع التي طاردته ووجّهت الجنود الفرنسيين نحو مكان اختفائه. الرجل شارك في الحرب العالمية الثانية، استطاع أن يحافظ على هدوئه وسط حزمة من حطب داخل منزل ضيق حاصره العدو طيلة معركة ''أغني زيضوض''.. ومرّ الحصار، وارتقى موح وعلي إلى رتبة رائد في جيش التحرير، وتولّى محافظة الحزب الواحد لتيزي وزو بعد الاستقلال، ثم كان نائبا في المجلس الشعبي الوطني قبل وفاته. أما رفقاؤه ففرّ كل واحد في اتجاهه، غير أن الجميع التقى في غابة ''أغني زيضوض'' مع باقي كتائب المجاهدين من القرى الأخرى. فكلّما تقدّمت القوات الفرنسية كلّما زادت الطوق على المجاهدين، واتّجهوا كلهم إلى نفس المكان.
هونتيك يواصل سرد وقائع معركة ''أغني زيضوض''، أو ''عملية جناد''، قائلا ''..الآن القنابل اليدوية تطير في السماء مثل الألعاب. والبنادق مصوبة في اتجاه مستقيم، والشظايا تتساقط هنا وهناك.. ثم يأتي الهدوء. وفي مكان بعيد نسمع دوي اشتباك عنيف، لقد وقعنا على قطعة كبيرة..''، والقطعة الكبيرة هي كتيبة كبار السن، التي يقول عنها ''موح تيفرة'' إنها أول كتيبة تشابكت مع العدو واستشهد كل المجاهدين فيها. ويقول المتحدّث: ''هناك كتائب لم تتشابك مع العدو، لكن أغلبها دخل في اشتباكات عنيفة ولا يتوفّر المجاهدين على أكثـر من 30 إلى 40 رصاصة..''. وكتيبة محدّثنا لم تتشابك، لأنها وجدت المنفذ للانسحاب من الجهة التي كانت تقصفها الباخرتين وأصابت أفرادَ من صفوفها، ما أحدث هلعا كبيرا وسطهم.
يؤكّد ''موح تيفرة'' أن خسائر العدو في هذه المعركة كانت أكبر، رغم الخسائر الكبيرة في صفوف المجاهدين. ويقول ''سي أعمر أحنوش'' وكأنه أكتوبر 1956 ما زال تاريخا قريبا منا ''ثقّوا يا أبنائي أن كل مجاهد سقط في هذه المعركة أخذ معه عشرة من جنود العدو''. هونتيك نفسه يعترف أن المعركة كانت فاشلة بالنسبة للجيش الفرنسي، إذ يقول: ''حوالي مائة متمرّد سقطوا لكن المئات تمكّنوا من الانسحاب''، ويفسّر ذلك بالتضاريس وسوء تحضير العملية، حيث تركت القوات الفرنسية مسالك كثيرة دون مراقبة، إضافة لعامل الليل الذي يخدم أكثـر تحرّكات المجاهدين.. وفي الخلاصة يقول هونتيك ''انسحبت قواتنا متعبة، بعد سلسلة اشتباكات ليل نهار..''، ويضيف ''اتّضح لنا أن المتمرّدين مقاتلون رائعون''.
آخر وحدة انسحبت من الجانب الفرنسي هي كتيبة تيمليلين، يقول ''سي أعمر أحنوش''. وقبل انسحابها أقدمت على قتل الشيخ طاهر من القرية نفسها. ''نحن بدورنا قتلنا شيخهم في إغيل مهني''، ويضيف محدّثنا ''ترك حمادي، الذي يتقن الفرنسية، رسالة على جثّته يقول فيها للجيش الفرنسي: لقد قتلتم شيخنا وقتلنا شيخكم. اعتديتم على ديننا واعتدينا على دينكم. فهل تريدون أن نواصل أم نتوقّف عند هذا الحد؟''، أما ''موح تيفرة''، فيروي عن قصة الثأر للشيخ طاهر أن كل قساوسة المنطقة ساندوا، بعد هذه الحادثة، قضيتنا، وقالوا إن الإسلام والشعب الجزائري أقرب إلى المسيحية من الجيش الفرنسي المعتدي.. عمليات الانتقام لم تتوقّف عند الشيخ طاهر، بل أقدم الجنود الفرنسيون على قصف قرية إيغر نسالم عن آخرها. وحين زارت ''الخبر'' القرية صادفت ابن شهيد وشهيدة، المدعو ''دا موح''، واحد من بين 380 جزائري يناضلون، من أجل اعتراف مصالح محمد شريف عباس بجمعية ''يتامى الأمة'' فاقدي الوالدين في ثورة التحرير، ويقول ''دا موح'' إن والده استشهد في ساحة المعركة في عنابة، عائدا من تونس، لكن أمّه قُتلت وهي حامل إثـر عملية ''العصفور الأزرق''. والمصير نفسه لقيته نساء حوامل أخريات وكل زوجات وأولياء مجاهدي ''القوة ك''، وعائلات عديدة مثل عائلة بوشرابة التي تمّ إبادتها بالكامل..
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 14/01/2013
مضاف من طرف : aladhimi
صاحب المقال : إيوانوغان
المصدر : الجمعة 11 جانفي 2013 م.elkhabar