الجزائر

هكذا تبدع نساء جرجرة في موسم جني الزيتون



المرأة قائدة جوق وملحّنة وكاتبة ومغنية في الوقت نفسهبين الماضي والحاضر، تسافر ترانيم غنائية رائعة تجود بها حناجر النّسوة في منطقة جرجرة، هذه التّرانيم والسنفونيات الموسيقية التي تحاكي عادات وتقاليد المنطقة، خاصة في موسم جني الزيتون، هذه الفترة من العام أين تتحوّل الحقول إلى وجهة حتمية للعائلات من أجل جني حبات الزيتون، التي تشع نورا تحت أشعة الشمس الساطعة التي تجود بها أيام الشتاء من فترة إلى أخرى كاسرة بذلك البرد والصقيع الذي لم يكن يوما عائقا أمام العائلات، حيث تشد رحالها إلى حقولها ومزارعها من أجل جني المحصول، إلا في أيام الشتاء الماطرة أو تساقط الثلوج، حيث يصعب عليهم الخروج من منازلهم مكتفين بانتظار توقف الأمطار من أجل استئناف عملهم.
يحمل موسم جني الزيتون في منطقة جرجرة العديد من الدلالات وصور التأخي والتويزة، حيث تتعاون العائلات فيما بينها من أجل جني هذا المحصول، وسط أهازيج وزغاريد وحتى ترانيم موسيقية زادت من هذه الصور جمالا وروعة وأضفت على الحقول جوا من المرح والضحكات والتنافس بين النساء، حيث تتوّج الفائزة بأداء أغنية تقود بها جوق النسوة الحاضرات في الحقل كهدية لها على الانتهاء من التقاط حبات الزيتون وملئ دلوها أولا.
حركة بوصلة الزمن يعني دوران عقارب ساعات السنة من أجل أن يحل موسم جني الزيتون، الذي تعود فيه البهجة إلى الحقول التي تكتظ عن آخرها بحضور العائلات التي تحج إلى حقولها قادمة أيضا من مسافات بعيدة، حيث يتجنّد الجميع لجمع هذه الغلة التي يعتبرها سكان منطقة القبائل ثروة طبيعية ورثوها عن الأجداد واصطبغت بها حياتهم، حيث تعتبر العديد من العائلات شجرة الزيتون "بركة المنزل"، وحبات الزيتون بمثابة أبناء يسهرون على تربيتها والاعتناء بها، وهذا لما لها من خير وبركة وصحة عليهم.
..على وقع "امخثاف"
من بوزقان إلى أعالي عين الحمام، واضية، معاتقة وبني دوالة، ومختلف مناطق وقرى ولاية تيزي وزو، المشهد واحد ولو اختلفت الصور في بعض تفاصيلها من مكان إلى آخر، إلا أنّ الهدف واحد والعادات والتقاليد متشابهة، حيث يصل إلى مسامعنا صوت العصي "امخثاف" على بعد أمتار ونحن نقترب من الحقول في مختلف المناطق، هذه العصي التي تعطي إشارة الانطلاق في إسقاط حبات الزيتون من الأشجار بعد نضجها، وجمع الغلة التي تتحول إلى زيت على مستوى المعاصر، هذه العملية التقليدية والطبيعة التي تعود سكان منطقة القبائل القيام بها سنويا دون ملل ولا كلل، في صور أقل ما يقال عنها أنها نابعة من جذروهم وموروثهم الاجتماعي المبني على التأخي والتعاون والتكافل الاجتماعي فيما بينهم، خاصة على مستوى القرى القابعة في أعالي جبال جرجرة أين تتعقد عملية جمع الزيتون بسبب برودة الطقس والدروب الوعرة والمنحدرات الصعبة، ولكن هذا لم يكن أبدا عائقا يمنعهم للتخلي على هذه الثروة والغلة.
فعودة موسم جني الزيتون بالمنطقة يفسح المجال لعودة بعض المظاهر وحتى الصور الفنية الرائعة التي تزيد من روعة المشهد، تكون فيه المرأة ملكة العرش، حيث يتشارك الرجال والنساء وحتى الأطفال في هذه العملية، ولكن المرأة تتفنّن في منح هذه المرحلة من السنة بمنطقة القبائل جمالا ومظاهر الفرح كأن الجميع في عرس، لتتحوّل الحقول إلى قاعات للحفلات على الهواء الطلق، تطلق خلالها النساء العنان لأصواتهن الشجية التي تخرج من حناجرهن متغنيات بأجمل الأشعار الملحنة بأصواتهن فقط دون أيّة آلة موسيقية، ما يزيد من جمال ورونق هذا النوع الموسيقي الذي اشتهرت به منطقة القبائل "اشويقن اوزمور"، حيث فيه المرأة قائدة الجوق والملحنة وكاتبة الأشعار والمغنية أيضا، لتكتمل صورة الجوق الموسيقي أين تمثل فيه المرأة العنصر الرئيسي دون مساعدة أي آلة موسيقية.
جمال هذا النوع الموسيقي "اشويقن اوزمور"، وبالرغم من اختفائه واندثاره في عديد المناطق، إلا أنّه ما يزال حاضرا وبقوة في مناطق وقرى أخرى بولاية تيزي وزو على غرار "بوزقان" و«معاتقة"، حيث ما تزال النّسوة يحتفظن في جعبتهن بأجمل الوصلات والنغمات الموسيقية، وهذا ما لمسناه خلال مشاركتنا لعائلة "النا روزة" في قرية "آيت زعيم" في عملية جني الزيتون بإحدى الحقول التابعة لها.
مشينا طويلا عبر منحدرات ومنعرجات صعبة، تستدعي في كل خطوة أخذ الحيطة والحذر كي نتفادى الانزلاق ومخاطر السقوط، إلا أن تلك الخطوات كانت مليئة بالإصرار والضحك، كأنّنا نتحدّى الطبيعة ونرفض التراجع وترك تلك الغلة في الحقل رغم صعوبة الدرب والطريق، لنصل أخيرا إلى المكان المقصود أين سبقنا هنالك الرجال من أجل الشروع في عملية إسقاط الحبات قبل وصول النسوة اللواتي يتكفلن بجمعها من على كيس البلاستيك المفروش على الأرضية.
نسوة يكسّرن صمت الحقول
حين وصولنا إلى الحقل وقبل الشروع في عملية التقاط وجمع الحبات، تحدّثت "النا روزة" مطوّلا مع أشجار الزيتون كأنها تعبر عن فرحتها بلقائها مجددا بعد عام من الفراق، ومعبّرة عن سعادتها بتلك الغلة التي جادت بها، وقبل أن تبدأ في أخذ أول حبة زيتون، أطلقت العنان لحنجرتها بالغناء الذي تتفادى القيام به أمام الرجال كونه ما يزال من المحرمات وسط العائلات القبائلية التي ما تزال تتسم بالصرامة.
«النا روزة" ما تزال تحيي هذه العادة التي توارثتها عن الجدات والأمهات اللائي كن يكسرن صمت الحقول وتعب فترة جني الزيتون بأجمل النغمات والنوتات الموسيقية، التي تضفي مرحا وفرحا وبهجة تخفف بعض الشيء عناء جمع الزيتون لساعات متأخرة من نهار اليوم، خاصة يوم "التويزة" أين يتم إسقاط الزيتون من عديد الأشجار في اليوم الواحد وعلى النساء جمعه كاملا وعدم تركه في الحقول لليوم الموالي.
نغمات كانت تملأ أرجاء المكان بعدما أطلقت "النا روزة" العنان لحنجرتها التي أخرجت لحنا عذبا مرفوقا بكلمات وأشعار تصف عملية جني الزيتون، وسط ضحكات وابتسامات النسوة المرافقات لها، واللاتي رجعت بهن الذاكرة إلى الزمن الغابر، زمن الجدات والأمهات وعمر الصبى حيث كن يرافقنهن وهن صغيرات، وكن يستمتعن بهذه الألحان الشجية والنغمات التي حفظن منها الكثير، ومن أمثالهن "النا روزة" التي ما يزال صوتها الشجي يصدح مثل البلبل..فلم تشخ حنجرتها رغم كبر سنها، والذي لم يمنعها أيضا بأن تضفي جوا من المتعة والفرح على عملية جني الزيتون، أين استمتعت النساء بهذه الترانيم الموسيقية وهن يساعدنهن في جمع زيتون حقلها، خاصة وأن هذه العادة مهدد بالاندثار والزوال فلم تعد الكثيرات تتذكرن من أشعار وأغاني الجدات والأمهات شيئا خاصة من فتيات الجيل الحالي، وهو الأمر الذي أثّر سلبا على استمرارية هذا الموروث الثقافي.
«النا روزة" أشارت إلى أنّ "أشويقن أوزمور" تساعد على مضي الوقت سريعا وعدم الاحساس بالتعب، بالرغم من ساعات العمل الطويلة في جمع حبات الزيتون، حيث أخذت الأشعار والأغاني أبعادا كثيرة في الحقول، حيث كانت المرأة تعبّر عن مكنوناتها الدفينة، ومتاعب الحياة التي تعيشها وسط تلك الطبيعة القاسية والحقول الشاسعة، تاركة وراءها الهموم والمشاكل التي تواجهها يوميا في ظل سيطرة الرجل، خاصة في الماضي حين تقلّدت مهام ومسؤوليات كبيرة وهي في عمر الزهور، لتُوجد المرأة لنفسها فضاء تلجأ إليه وتخفف من خلاله أوجاعها وهمومها والترويح عن نفسها، هذه الراحة النفسية التي كانت تجدها وسط الحقول رغم التعب الجسدي، ولكن لحظات المرح والضحك التي تخلقها أثناء جمع الزيتون ينسيها هموم الحياة.
أشعار مشفّرة لخلق المنافسة
"النا روزة" أكّدت في حديث مع "الشعب"، أنّ أغاني الزيتون مرتبطة ارتباطا وثيقا بعادة "التويزة"، أين تجتمع العديد من النساء وينقسمن إلى فوجين للتنافس، وذلك من خلال إلقاء المجموعة الأولى لأشعار مشفرة ومستفزة لتقوم المجموعة الثانية من النسوة بالرد عليها، ما يخلق جوا من الفرح الذي تتخلّله ضحكات الأطفال وحتى بكائهم أحيانا.
هذه المشاهد التي تتكرّر يوميا في الحقول وبين النسوة تشجع على العمل بسرعة والانتهاء منه دون الاحساس بالتعب، كما أنها تضفي جوا من الأمان، فلم تكن النساء تشعرن بالخوف من البقاء بمفردهن في الحقول ولساعات متأخرة في اليوم، كون كل الحقول كانت تعج بالعائلات التي تتسابق فيما بينها للانتهاء من جني الزيتون أولا، كما أنّ الأغاني التي تصدح بها حناجر النساء وبأعلى صوت بعد انصراف الرجال كانت تسمع من الحقول المجاورة، لتأخذ النساء المشعل فيما بينهن وينوّعن في النغمات والترانيم الموسيقية، لدرجة أنّهن يتبادلنا أشعارا مشفرة تحمل معاني، والمقصودة منهن تقوم بالرد بالكلام الموزون والملحون، ما يشعل فتيل المنافسة بينهن، ما يضفي جمالا ورونقا على موسم جني الزيتون في منطقة القبائل التي ما تزال المرأة فيها متشبثة بعاداتها وتقاليدها التي تحرص الكثيرات على توريثها لبناتها رغم العصرنة والعولمة حفاظا على هذا الموروث والتراث من الاندثار، بعدما عاد إلى الواجهة خلال السنوات الأخيرة.
تراث تحييه المجموعات الصّوتية النّسوية
غياب صدى الأغاني التقليدية "اشويقن أوزمور" أو "أذكار" في عديد مناطق ولاية تيزي وزو، دفع ببعض الجمعيات الناشطة في ميدان الثقافة لإعادة إحيائها والحفاظ عليها، من خلال المجموعات الصوتية "أورار نلخلاث" التي عادت بقوة إلى الواجهة خلال السنوات الأخيرة، والتنافس الذي اشتعل فيما بينها من خلال تنظيم مسابقة "أحسن فرقة موسيقية نسوية"، والتي تنظّم سنويا على مستوى دار الثقافة مولود معمري بتيزي وزو، لتعود معها الكثير من العادات والتقاليد، وإحياء الكثير من الأنواع الموسيقية التي تشتهر بها منطقة جرجرة، واختصّت بها النساء دون غيرهن، ومنها الأغاني التي تردّدنها خلال موسم جني الزيتون، والتي تضفي جمالية وروح المرح والفرح في الحقول من خلال الوصلات الموسيقية التي تتغنّى بها.
هذه السيمفونيات الموسيقية صرّحت بشأنها "فضيلة عليلوش"، نائبة رئيس جمعية "ثافاث توريرث" ببوزقان، أنّها تعتبر من التراث الأمازيغي الذي لا يمكن نسيانه، كونه متجذّر ومتأصّل في أعماقهن وفي ذاكرتهن، قائلة هذا ما نشهده في منطقة "بوزقان" التي تشتهر بالعمل الدؤوب واليومي لنساء المنطقة المحافظات على عادات وتقاليد الأجداد، حيث نجد عادة "التويزة" بكثرة في هذه المنطقة، وهو ما أعاد معها التجمعات النسائية في الحقول والمنخرطات في العديد من الجمعيات الثقافية التي تعمل على إحياء والتمسك بالعادات، ومن بينها "الأغاني التقليدية الخاصة بموسم الزيتون".
وأضافت "هذا ما نلاحظه ونلمسه في هذه السنوات الأخيرة، أين عادت هذه الأغاني بقوة إلى الميدان، بعد انقطاعها عن الحقول، خاصة خلال العشرية السوداء التي ألقت بظلالها على المنطقة، وتسبّبت في اندثار العديد من العادات لتصبح معها أيام الجني متعبة وطويلة وسط صمت رهيب".
فأيام جني الزيتون أصبحت أكثر مرحا وفرحا بعودة الأغاني إلى الحقول، وهذا ما أكّدته "فضيلة" التي تعتبر عضوا فاعلا في هذه الجمعية من خلال صوتها الشجي ورصيدها الفني والغنائي الثري الذي تزودت به من الجدات، الأمهات، وحتى الفنانين الذين تغنوا بهذه الفترة من السنة، لتكون السيدة الأولى في الحقل، حيث يسمع صوتها من على بعد أمتار وهي تكسّر صمت الحقول وتسابق الجميع من أجل التربع على عرش المنافسة التي تشتد بين النساء من أجل أخذ زمام الجوق الموسيقي في الحقل، وهي المنافسة التي غالبا ما تكسبها "فضيلة"، وتضفي جوا من الضحك والفرح الذي ينسيهن تعب اليوم والاسراع في عملية جمع الزيتون.
محدّثتنا صرّحت لنا أنّ الحقول في فترة موسم الزيتون تعتبر ملاذهن المفضل للتعبير عن مكنوناتهن وعن كل ما يلوج في خواطرهن، إلى جانب الحديث عن معاناتهن التي ترتجم عبر أشعار وأغاني ترثي الكثيرات من خلالها على حالتهن وظروفهن المعاشة، لهذا تقول الأغاني التي تتغنّى بها النساء في موسم جني الزيتون لا تخص الزيتون فقط، وإنما تشمل مختلف المواضيع وجوانب الحياة واليوميات، كما تقوم النساء بتبادل الكلمات والأشعار فيما بينهن، وهذا ما يعتبر متنفّسا لهن ينسيهن التعب، خاصة وأنّ فترة جني الزيتون يمكن أن تستمر لأكثر من شهر، ولا يحق لهن التخلف عن الموعد، ناهيك عن الأشغال الملقاة على عاتقهن في المنزل.
وأضافت "لهذا تعتبر هذه الأغاني فسحة أمل وتخفيفا للضغط، يساعدهن في إنهاء عملهن، مشيرة إلى أنّ الأغاني التقليدية الخاصة بفترة جني الزيتون "اشويقن اوزمور" تراث ثقافي، بقي في الظل لعديد السنوات، وأفقد الحقول رائحة الجدات والأمهات اللاتي كان صوتهن يصدح في الحقول، وكنّ حلقة مهمة في عملية جنى الزيتون من خلال إضفاء مظاهر المرح والفرح على الحقول، والتي تساعد على التخفيف من التعب والإسراع في عملية الجني، كما أنّها كانت تضفي الفرح والمرح والضحكات على الصمت الرهيب الذي يسدل ستاره على الأراضي الفلاحية التي يقصدها السكان في منطقة القبائل، لتعزّز هذه الأغاني روح المنافسة التي تشتد وسط النسوة، مبرزة معها أجمل مظاهر التآخي والتكافل الاجتماعي "التويزة" التي تصوّرها النسوة في مشاهد تحاكيها عبر الأغاني والتّرانيم الشجية.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)