الإجراءات الفريدة من نوعها، التي باشرتها الدولة تجاه مهربي المحروقات على أكثر من صعيد، حجّمت دورهم، في الأيام الأخيرة، بعد أن هددت وزارة المحروقات ووالي ولاية تبسة بسحب رخص الاستغلال لأصحاب محطات الوقود في حالة عدم تعاملهم مع المواطنين، لكن أكثر الناس تفاؤلا لا يثقون في النجاح الكامل لهذه الخطط، ويراها آنية فقط، إذا علمنا أن ما لا يقل عن مئة ألف نسمة في ولاية تبسة يعيشون من آفة التهريب، التي أخذت أبعادا في منتهى الخطورة، عندما أصبحت أمرا واقعا، ولا يجد ممتهنها أي حرج في تقديم نفسه باسم مهرّب كبير أو خبير في التهريب، وهذا منذ هروب الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، حيث تجذّر التهريب في قلب تونس وصار له شعب مواز للموجود هنا في الجزائر، ضمن ما يُشبه وحدة أقامت لنفسها دولة وشعبا موازيا.
أما الخطورة التي اطلعت عليها الشروق اليومي، هو كون بعض المهربين يعيشون من دون هوية، حيث يقوم بعض كبار المهربين بعدم تسجيل أبنائهم في مصالح الحماية المدنية، وغيّر آخرون أسماءهم وزمان ومكان ولادتهم، وغالبيتهم لا يمتلكون بطاقة هوية وهم أشبه بالـ ''البيدون'' الموجودين في الكويت يعيشون الثراء الفاحش دون الحاجة للهوية، وهو ما جعل التعامل معهم معقدا جدا، لأنهم غير موجودين مدنيا، رغم أن بعضهم أصحاب مؤسسات كبرى مبنية على تهريب المحروقات لا تصمد أمامها من حيث الثراء ربما حتى سوناطراك، فأصغرهم يمتلك أربعين سيارة من الحجم الكبير، وشاحنات، بعضها يتجاوز سعرها ثلاثة ملايير، يعتمد على تخزين البنزين فيها،
وحتى الأحوال الأمنية التي ميزت أواخر شهر رمضان المنصرم بفعل أحداث جبال الشعانبي التونسية المحاذية للجزائر، لم تُثن هؤلاء الذين اختاروا زمن أذان المغرب والسحور لمزاولة استنزافهم لما تبقى من المحروقات الجزائرية، وولاية تبسة التي لم يكن يزيد عدد سكانها عن 80 ألف نسمة، منذ عشر سنوات زاد الآن عن 800 ألف، نزح إليها عشرات الآلاف من كل مناطق الوطن وكأنها إمارة خليجية تسبح في النفط، لا يعرف النازحون الجدد إليها، آثارها الرومانية ولا مآثر مالك بن نبي أو العربي التبسي، وإنما محطات الوقود التي بلغ عددها 54 محطة وقود من بينها 10 تابعة للدولة، تضخ لها وزارة الطاقة عبر قطار يومي يتنقل من المنطقة الصناعية بسكيكدة إلى تبسة ثمانية أضعاف ما تستهلكه مدينة بحجم الجزائر العاصمة، دون أن تفتح هذه المحطات خراطيمها لسيارات المواطنين، الذين صار قدرهم أن يسافروا إلى ڤالمة أو أم البواقي لتزويد سياراتهم بالبنزين أو المازوت، كما يعرفون الطريق المؤدي نحو تونس والممتد على مسافة تقارب 300 كلم عرضا، مما يجعل التهريب عبر تبسة الأسهل على مستوى الحدود الجزائرية، وهم يساهمون حتى في دفع المترشحين للمجلس الشعبي الوطني ووضع رؤساء قوائم كل الأحزاب والأحرار.
أما عن المجالس البلدية والولائية فقد بلغ بهم الحد تعيين رؤساء البلديات، وكل المواطنين وحتى السلطات تعلم بذلك، أما المهربون المتوسطون، فتجدهم يمتلكون ثلاثين سيارة من نوع مازدا وعشر شاحنات، تحول ليل الولاية إلى راليهات، صارت تجد سهولة في تونس، خاصة أن تضاريس تبسة سهلة عكس التضاريس الجبلية والغابية في الحدود الشرقية بولايتي سوق اهراس والطارف، وفي بلديتي بئر العاتر والحويجبات، وأيضا في أحياء الزاوية ولاروكاد والجرف بقلب تبسة يكاد يعيش كل سكانها من التهريب، حيث توقف النشاط الفلاحي وغيره نهائيا منذ عام 2011، ولا مجال للمقارنة بما يقوم به حلابة الغرب والمهربين في الشرق، لأن سعر البنزين في تونس غال جدا مقارنة بالمغرب، حيث يبلغ ثمن اللتر الواحد 1.5 بالدينار التونسي أي أنه يقارب 120 دج للتر الواحد.
وأدت هذه الأزمة إلى مزيد من الانهيار في الدينار الجزائري الذي يوازي أكثر من سبعة أضعاف الدينار التونسي، رغم الأزمة التي تعاني منها تونس وعزوف السياح الأجانب عنها ومع ذلك فالتونسيون يدفعون مقابل الوقود الجزائري بالدينار الجزائري، وعندما يبيعون الشامية أو العجائن أو الشيفون التونسي يصرون على تلقي الثمن بالأورو، التهريب رفع أيضا من عدد السيارات في تبسة فهناك عائلات تمتلك ما بين ست إلى عشر سيارات من كل الماركات مخصصة للتهريب، صار يُستعمل فيها الأطفال والنساء بشكل كبير.
وفي تبسة أطفال في سن 12 يسوقون دون أن يثيروا أي أحد فالأمر أصبح بالنسبة إليهم عاديا، وعائلات أوقفت أبناءها عن التعليم رغم نبوغ وتفوق بعضهم وزجّت بهم في عالم التهريب، والكل يعرف السيدة الخمسينية التي تشغل العشرات من الأطفال والنساء في عمليات تهريب، في بئر العاتر وفي تبسة، تشاهد قصورا لا يمكن أن ترى مثيلا لها في حي حيدرة أو حتى في دول أوروبية، هي أشبه بالحصون لا أحد سأل أصحابها من أين لكم هذه القناطير من الذهب والفضة؟، ومنهم من استعان بالجواري المستقدمات من العاصمة ومناطق أخرى ومن مهاجرات قدمن من فرنسا، بكل ما تعنيه كلمة الجارية من معنى، قصور لا تقل مساحة الواحد منها عن 5000 متر مربع مليئة بالمسابح والنافورات وكلاب الحراسة التي تضاهي في حجمها الأسود، في تبسة المهربون لا يبحثون عن تسمية أخرى كما هو شائع في الغرب الجزائري لقب الحلابة، بل يسمون أنفسهم بالمصدرين أو المستوردين أو المهربين من دون إحراج.
حتى تونس البلد غير النفطي ما عادت تستورد الوقود ما دام يدخلها بصفة دائمة من المهربين الجزائريين، وتبقى أصعب مهنة في الولاية هي الإدارات والمديريات المختلفة التي لا طائل منها، وحتى والي ولاية تبسة السيد بلعيز قال مرة من المجلس الشعبي الولائي أن لا جدوى من تعبيد طرقات الولاية، وصرف الملايير بسبب الخراب الذي يترصدها من طرف شاحنات التهريب العملاقة، لأن التهريب في تبسة ولّد مهنا غير موجودة في كل دول العالم، ومنها شاحنات كبرى دون نقل السلع، وإنما ملء خزاناتها بالوقود والدخول بها من الولايات المجاورة مثل خنشلة وڤالمة وأم البواقي بالخصوص لتفريغ الحمولة الموجودة في الخزان.
ولا يوجد أي قانون جزائري يسمح لشرطي أو دركي أو عون جمارك بتوقيف أو سؤال صاحب الشاحنة الفارغة من دخول الولاية والخروج منها، حتى ولو دخل الولاية عشرات المرات في ظرف وجيز، ليجني يوميا عشرة ملايين سنتيم في بعض الأحيان من هذه المهنة التي تتركز على ملء الخزانات من محطات الوقود في ولايته وتفريغه في ولاية تبسة، والاستثمار في شاحنات ''داف'' العملاقة التي قارب سعرها 3 ملايير صار منتشرا في تبسة وما جاورها من الولايات، أحد الولاة السابقين قال بالحرف الواحد وهو يغادر تبسة ''إنها منطقة خارج الجمهورية .. بل خارج العالم''.
ana tbessi wamalaf bahdou
fouad.ziane - tahribe - tebessa - الجزائر
20/07/2014 - 206416
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 12/08/2013
مضاف من طرف : aladhimi
صاحب المقال : ناصر
المصدر : الشروق 2013/08/11