الجزائر

نهاية فيلم هندي



الأفلام الهندية،‮ وربما المصرية القديمة،‮ وحدها تتميز بالنهايات السعيدة،‮ فقبل لحظات من انتهاء الفيلم‮ يموت الشرير وينتصر الخير وتعود الحبيبة إلى أحضان محبوبها،‮ ثم تكتب كلمة النهاية‮.‬وهكذا انتهت حياة الشرير محمد مراح،‮ الفرنسي‮ جزائري‮ الأصل،‮ بعد أن جعلت مسرحيته من تولوز مركز استقطاب عالمي‮ ضد القاعدة،‮ وهي‮ اختراع أمريكي،‮ ووهبت إسرائيل قصة درامية ستلوكها شهورا وشهورا عن استشهاد معلم وأربعة أطفال‮ يهود مزدوجي‮ الجنسية،‮ للتغطية على الجرائم الإسرائيلية في‮ غزة ولتنقل إلى زوايا النسيان قصة أسيرة فلسطينية تصارع الموت بعد إضراب عن الطعام لمدة تجاوزت الشهر‮.‬
وكان الغريب أن قضية مراح،‮ التي‮ ركزت وسائل الإعلام الفرنسية على أنه جزائري‮ الأصل،‮ وهو ما لا تقوم به مع زيدان أو حتى مع إيزابيل عجاني،‮ تمت الإشارة لها على أعلى المستويات الفرنسية على أنها اعتداء ترويعي‮ (‬agression terroriste) في‮ حين أنها عملية إجرامية‮ (‬acte‮ criminel‮)‬ تكاد تكون عادية‮.‬
وكان الأكثر‮ غرابة في‮ القضية كلها أن مراح قتل،‮ تماما كما قتل من طائرة فرنسية في‮ أعياد الميلاد نهاية‮ 1994،‮ وقيل لأنهم كانوا‮ ينوون تفجيرها فوق باريس،‮ ونقل أن أحد الخاطفين قال‮ : إحنا جنود الرحمن‮ يا محاينك،‮ وهو تعبير سوقي‮ لا‮ يردده مجاهد إسلامي،‮ وكما قتل بعد ذلك في‮ سبتمبر‮ 1995،‮ في‮ شارع مكشوف بمنطقة ليون،‮ خالد كلكال الذي‮ اتهم بأنه إرهابي‮ إسلامي،‮ وبدا قتله تنفيذا لعملية إعدام‮ (‬Exécution‮).‬
وبهذا لم‮ يعد في‮ استطاعتنا أن نعرف معطيات القضية من فم بطلها الأول،‮ الذي‮ روى وزير الداخلية الفرنسي‮ نبأ مصرعه وكأنه تلميذ‮ يتلو درسا محفوظا،‮ ليأتي‮ بعده رئيس الدولة فيلقي‮ بيانا بليغا تدثر بروح المسؤولية في‮ بلد‮ يضم مسلمين ويهودا ومسيحيين،‮ وذلك على أبواب معركة انتخابية لم‮ يكن الأمر فيها محسوما للرئيس ساركوزي،‮ ويحاول،‮ بدعوته عدم الخلط بين الإرهاب والإسلام،‮ ربح أصوات المسلمين بعد أن جرى تطويعهم بالحملة الإعلامية الموجهة،‮ ويزايد هولاند وغيره عليه في‮ تصريحات تسير في‮ نفس الاتجاه‮.‬
ولا‮ يعرف أحدا الظروف الحقيقية التي‮ قتل فيها مراح،‮ وكان مضحكا القول بأنه قتل وهو‮ يحاول القفز من الشرفة برصاصة في‮ الرأس أطلقها عليه قناص،‮ وإن كان محاميه السابق صرح بأنه كان‮ يتوقع أن تثمر المباحثات باستسلامه لقوات الأمن،‮ بينما توقع كثيرون أن تتمكن القوات الخاصة من شل حركته بغاز مخدر للأعصاب،‮ أو بإطالة مدة الحصار إلى أن‮ يتملكه الإعياء،‮ فيقرر تسليم نفسه لسلطات بلد ألغى عقوبة الإعدام،‮ وبهذا‮ يوفر حياته،‮ وقد‮ يجد محاموه نقاطا تستغل لمصلحته فينجو حتى من السجن المؤبد‮.‬
لكن موت محمد مراح بدا ضرورة لا مفر منها،‮ وكان لا بد أن‮ يظل انتسابه للقاعدة،‮ والذي‮ هلل له الإعلام الفرنسي‮ بدون دليل،‮ حقيقة لا مراء فيها،‮ لأن الوحيد القادر على نفيها أصبح جثة بدون حراك،‮ وسفره إلى أفغانستان وباكستان فرض كحقيقة ثابتة لا تنكر،‮ برغم أن سلطات باكستان نفت ذلك‮.‬
وبدا أن الهدف النهائي‮ هو إحياء عقدة الذنب وشيطنة الإسلام وتلويث الجهاد والمجاهدين‮.‬
وأسترجع الوقائع‮.‬
فقد ارتكب عمل إجرامي‮ أمام مدرسة‮ يهودية قتل فيه ضحايا أبرياء،‮ وهو ما أعطى الفرصة لإسرائيل لكي‮ تحيي‮ من جديد عقدة الذنب الفرنسية تجاه اليهود،‮ ولكي‮ ترفض كل مقارنة بضحاياها في‮ غزة،‮ خلال هجمات‮ غادرة أسماها ناتانياهو عمليات جراحية،‮ هكذا بكل وقاحة‮.‬
وللتذكير،‮ فقد كانت فرنسا في‮ معظمها تقف وراء الماريشال هنري‮ بيتان إثر سقوط باريس في‮ يد القوات النازية في‮ جوان‮ 1940،‮ وراحت الجموع تهتف لبطل فردان السابق‮ : ها نحن أيها الماريشال‮ (‬Maréchal‮ nous voila‮)‬،‮ وتواطأت معظم القوى الفرنسية لاضطهاد اليهود ونقلهم إلى معسكرات الاعتقال النازية،‮ وهكذا،‮ ومرة أخرى‮ يضطهد اليهود من قبل دولة أوربية،‮ بعد أن طردوا من إسبانيا في‮ عهد الملك،‮ الكاثوليكي‮ جدّا،‮ فرديناند،‮ وزوجه الكاثوليكية جدا أيضا،‮ إيزابيللا‮.‬
وللتذكير أيضا،‮ استقبل اليهود الفارون من جحيم محاكم التفتيش الإسبانية في‮ الشمال الإفريقي،‮ وبوجه خاص في‮ الجزائر،‮ لكنهم عضوا اليد التي‮ أكرمتهم،‮ فمهد بكري‮ وزميله من التجار اليهود لغزو القوات الفرنسية في‮ جوان‮ 1830،‮ ثم انحاز اليهود إلى المحتل الفرنسي‮ في‮ 1871،‮ حيث حملوا جنسيته بكل مزاياها ووضعوا أنفسهم بالتالي‮ في‮ صف خصوم الوطنية الجزائرية‮.‬
ومع ذلك،‮ يذكر التاريخ أن عميد مسجد باريس،‮ قدور بن‮ غبريط،‮ الجزائري‮ الأصل،‮ قام في‮ الأربعينيات بحماية‮ يهود لجئوا إليه فرارا من عناصر الشرطة الفرنسية التي‮ كانت تنفذ تعليمات الغستابو الألماني،‮ وقامت عائلات جزائرية بإيواء‮ يهود كانت السلطات الفرنسية في‮ الجزائر تحاول اعتقالهم تنفيذا لأوامر حكومة فيشي‮.‬
وعاش الفرنسيون بعد تحرير باريس مرحلة تزايدت فيها عقدة ذنب استطاع اليهود استغلالها إلى أقصى حد،‮ برغم أن عملية التطهير‮ (‬Epuration) التي‮ قام بها الجنرال دوغول أنقذت الأمة الفرنسية من تهمة التواطئ مع النازية،‮ بحصر الخيانة في‮ شرائح محدودة العدد،‮ كان على رأسها بيتان ولافال،‮ الذي‮ نفذ فيه حكم الإعدام‮.‬
لكن التركيز اليهودي‮ على إحياء عقدة الذنب لدى الفرنسيين وصلت إلى درجة أن عناصرهم النشطة،‮ وعلى رأسهم كوهين بندت،‮ استطاعت زعزعة حكم دو‮ غول خلال أحداث مايو‮ 1968،‮ حيث لم تغفر له إسرائيل عدم حماسه لنصرتها في‮ 1967 وتفهمه للمطالب العربية،‮ واضطر الجنرال،‮ الذي‮ أنقذ فرنسا مرتين خلال عقدين،‮ إلى الاستقالة في‮ العام التالي‮.‬
وشيئا فشيئا تحول جلّ‮ الفرنسيين من‮ غير اليهود إلى مواطنين من الدرجة الثانية،‮ ووصل الأمر إلى حد أن بلاد العدالة والحرية والمساواة سنت قانونا‮ يُجرّم من‮ يرفض العدد الذي‮ يزعمه اليهود لضحاياهم،‮ وهو ستة ملايين،‮ وإلى درجة الإساءة إلى واحد من أكبر فلاسفة العصر الحديث،‮ وهو روجي‮ جارودي،‮ الذي‮ ظل‮ يصر على أن إسرائيل وليدة أفكار أسطورية بعيدة عن التاريخ الحقيقي‮.‬
ولقد اضطررت إلى استعراض كل هذه النقاط لأبرز كيف تمكن اليهود،‮ ومناصريهم،‮ من استغلال قضية محمد مراح لخدمة الأهداف الصهيونية وإعادة الروح إلى عقدة الذنب الفرنسية التي‮ كان منهم من‮ يتخوف من ذبولها وأفولها مع الزمان،‮ خصوصا مع بروز أجيال جديدة لا تريد أن تعترف بأحقية أي‮ فرنسي‮ في‮ حمل جنسية مزدوجة تجعل ولاءه لغير الجمهورية الفرنسية‮.‬
ومصرع التلاميذ اليهود قضية مدانة بكل المعايير،‮ لكن لم‮ يكن هناك دليل واحد على أن مراح هو القاتل،‮ خصوصا وقد ذكرت مصادر إعلامية أنه كان متورطا في‮ قتل ثلاثة مظليين فرنسيين منهم اثنان من ذوي‮ الأصل الجزائري،‮ وأحدهم كان من أسرة اختارت المسيحية دينا،‮ وقيل في‮ بداية الأحداث أن من قام بالعملية‮ ينتمي‮ إلى مجموعة تدين بالولاء للفكر النازي،‮ وهو ما‮ ينفي‮ تماما أي‮ احتمال بتورط اتجاهات إسلامية في‮ الأمر كله،‮ وبالتالي‮ قلت أنه كان‮ يجب اعتبار الأمر عملا إجراميا لا اعتداء ترويعيا‮.‬
لكن هذا لم‮ يكن‮ يصبّ‮ في‮ مصلحة أولي‮ الأمر الذين كانوا‮ يريدون الاقتراب أكثر من اليمين المتطرف لأهداف انتخابية فرضها صعود نجم فرانسوا هولاند الاشتراكي‮ بشكل مقلق،‮ ومن هنا كان الإصرار على الصفة الترويعية،‮ فهي‮ وحدها التي‮ تذكر بالإسلام،‮ وتم تفادي‮ التركيز على الولاء للنازية،‮ فالألمان هم أصدقاء اليوم،‮ أما المسلمون فيجب تعقيدهم دائما ودفعهم في‮ كل مرة إلى الخطاب البائس الذي‮ يتبرؤون فيه من عناصر متطرفة ترفع لواء الإسلام،‮ بدون أن‮ يجرأ أحدهم على تذكير الفرنسيين بأن الانحراف‮ (‬délinquance) على مستوى شباب الضواحي‮ الفرنسية كان بسبب ما تعرضت له مناطقهم من إهمال جعلهم مواطنين من الدرجة الثانية في‮ بلد مونتيسكيو وروسو،‮ وكان من أسوأ معالمه ما عاناه الحرْكَى الذين فروا إلى فرنسا بعد استعادة الجزائر لاستقلالها،‮ فتم حشدهم في‮ الأكواخ التي‮ كان‮ يستعملها الألمان لاعتقال الفرنسيين،‮ ثم أرادوا أن‮ يضعوا الوزر فوق تاريخنا وضمائرنا في‮ قضية،‮ هي‮ فرنسية أولا وأخيرا‮.‬
ويبقوا أن نقول للجماعة‮...‬فاقوا
انطباعات عابرة
‬يبدو أن المخابرات الفرنسية لم تكن بعيدة عن التهمة التي‮ لفقت في‮ الثمانينيات للمرحوم مسعود زقار،‮ وهو مناضل جزائري‮ لم‮ يكن‮ يعشق فرنسا،‮ وكانت كل تنقلاته الدولية تتم عن‮ غر طريق باريس،‮ ولم‮ يكن معروفا أنه تردد كثيرا على العاصمة الفرنسية أو أنه كان‮ يمتلك حسابا خاصا في‮ بنوكها‮.‬
وفضل زقار إثر استرجاع الاستقلال،‮ العمل في‮ القطاع الخاص،‮ ولكن حبه لوطنه وصداقته للرئيس هواري‮ بو مدين جعلته‮ يضع كل إمكانياته تحت تصرف الطموحات الوطنية للرئيس الذي‮ لم تكن فرنسا تحمل له ودا كبيرا،‮ إن لم أقل أنها وقفت دائما ضده،‮ وهو ما تأكد بعد فشل زيارة الرئيس الفرنسي‮ جيسكارد ديستان للجزائر،‮ ثم تكوينه نادي‮ السفاري‮ برئاسة مدير مخابراته الكونت دو مارانش‮.‬
ولقد لمست بنفسي‮ مدى نفوذ زقار في‮ أمريكا عند زيارتنا لها في‮ بداية السبعينيات،‮ وهو ما قلته أمام المحكمة العسكرية في‮ البليدة خلال محاكمته‮.‬
* - وعلى ذكر الأمريكان،‮ أذكر بأن مصطفى الخلفي‮ وزير الاتصال المغربي‮ الذي‮ يزور الجزائر من رواد الحركة الطلابية وخبراء السياسة الأمريكية رغم أنه أصغر أعضاء حكومة بن كيران‮ (‬فقد ولد في‮ عام الصخيرات‮) وكنت قلت عن الوزير الأول المغربي‮ أنه شخصية مثقفة وذكية ونشطة ومؤمنة بالمغرب العربي،‮ وله فضل زيارة وزير الخارجية سعد الدين العثماني‮ للجزائر الشهر الماضي‮ وزيارة الخلفي‮ اليوم‮.‬
ومن حقي‮ أن أتفاءل بحذر،‮ آملا ألا‮ يكون هناك من‮ يحاول استغلال الزيارة لأهداف حزبية‮.‬
‮‬


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)