ما إن وطأت قدماي أرض الأردن حتى أحسست أنني في وطن غير عادي، كنت أترنح طوال الأيام الخمسة التي قضيتها في ضيافة هذا البلد العريق، بنشوة العبق التاريخي الذي كان يملأ الأجواء ويحاصرني من كل جهة، حتى كدت أنسى مهامي التي جئت من أجلها.كانت مناسبة زيارتي للأردن، المشاركة في المنتدى العالمي للعلوم في طبعته الثامنة الذي أقيم من 7 إلى 11 نوفمبر المنصرم بمنطقة البحر الميت، فقد تم اختياري ضمن 25 صحفيا من بين ال450 صحفيا من مختلف أنحاء العالم لحضور هذا المنتدى، كانت فرصة الجلوس إلى جانب العلماء والاستماع إليهم من ذهب، وهم يناقشون مواضيع الساعة والمشاكل التي تعاني منها الدول العربية والعالم الثالث بصفة عامة، كندرة المياه وعالمية العلوم والذكاء الاصطناعي.
كان وصولي إلى العاصمة عمان على الساعة الثانية صباحا، حيث كانت تنتظرنا هناك سيارة تنقلنا أنا وصحفيان من نيجيريا والكاميرون إلى منطقة البحر الميت التي احتضنت الحدث.
لا تبعد منطقة البحر الميت عن العاصمة عمان سوى ساعة من الزمن، وهي منطقة سياحية وليس بها مجمعات سكانية، فهي تتشكّل فقط من مجموعة فنادق، وبمجرد بلوغنا مشارف منطقة البحر الميت، أحسست أننا بدأنا بالنزول، فهي أخفض منطقة في العالم، ورافقني هذا الإحساس بوجود ضغط في أذني، تماما مثلما يحدث ونحن نصعد منطقة عالية.
كنت أشاهد من خلف نافذة السيارة، بفضول كبير، المناظر التي تتراءى أمامي، شعرت كأن الزمان اختلط عليّ، فقد جالت بي مخيلتي وعادت إلى زمن الروم والفرس، فهنا وقعت حسب بعض المؤرخين المعركة التي سردها القرآن في سورة الروم، والتي غلبت فيها الروم الفرس، وتنبأ بأن الروم سيفوزون في معركة ثانية بعد بضع سنين.
كانت لحظات تاريخية، استشعرت فيها معجزة القرآن وكيف استقبل فيها نبينا محمد صلى الله وعليه وسلم هذه الآيات التي تنبأت بوقوع حادثة، وفي منطقة لم يكن أحد من العالمين يدري بأنها أخفض منطقة في العالم.
كما استحضرت قصة قوم النبي لوط الذين استوطنوا قرى على ضفاف البحر الميت، وعددهم حسب تقديرات المؤرخين، حوالي 400 ألف شخص، موزعون على مجموعة من القرى، قبل أن يحل عليهم غضب الله ويبيدهم عن آخرهم... ويزعم بعض المؤرخين أن البعض من آثارهم لا زالت قابعة في قيعان البحر الميت.
وصولنا إلى فندق «البحر الميت للعلاج»، كان في حوالي الساعة الثالثة صباحا، ومن شدة التعب وإرهاق السفرية التي دامت حوالي 12 ساعة، لم أجد بدا من الخلود للنوم حتى أكون في صباح الغد على أتم الاستعداد لاستقبال يومي الأول في الأردن.
البحر الميت.. موت بعد موت
كانت وجهتي الأولى في صباح يوم 6 نوفمبر، مركز الملك الحسين للمؤتمرات، الذي لم يكن يبعد عن الفندق سوى بعشر دقائق مشيا على الأقدام، حيث استلمت شارة الدخول للمؤتمر، ومن هناك عدت مباشرة إلى الفندق، لاغتنام فرصة السباحة في البحر الميت، أو بالأصح الاغتسال بمائه المالح جدا.
ليس هناك سباحة في هذا البحر، حتى وإن حاولت فلا يمكنك السباحة، لأن درجة ملوحته ترغمك على أن تطفو على سطحه، ولا يمكنك فعل أي شيء تقريبا سوى الاستلقاء والاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة التي كانت تحيط بنا.
في طريقي نحو الشاطئ، تفاجأت للشارات التي تم وضعها على الدرب، وتوضح درجة انخفاض مستوى مياه البحر الميت، فمن سنة 2000 إلى 2017، فقد هذا البحر ما يقارب العشرين مترا من مستواه، وهو حسب العديد من العلميين يواجه مخاطر الزوال إذا لم تسارع الحكومة الأردنية لاستدراك الأمر. وحسب أحد المهندسين الأردنيين في مجال الزراعة، أطلقت الحكومة مشروعا لربط البحر الأحمر من جهة خليج العقبة بالبحر الميت حتى لا يموت.
السباحة في البحر الميت، كما تشير إليه شارات أخرى، تقع على مسؤولية الأشخاص لأنها لا تخلو من المخاطر، فدرجة ملوحته العالية قد تسبب اختناقا أو ضررا في العينين.
ويمكن لزائر البحر الميت أن يشاهد في الضفة الأخرى، فلسطين المحتلة، خاصة في الليل، حيث تبدو جليا أنوار القرى والمداشر المنتشرة على ضفافه في صورة يأسف لها الكثير ممن شاركوا في هذا المنتدى، ففلسطين تبقى دائما في قلب العرب والمسلمين وكلهم يحلمون باليوم الذي يرون فيه هذا البلد حرا مستقلا.
العلماء.. أكثر الناس إضرارا بهذا الكوكب
عرف افتتاح المنتدى العالمي للعلوم نجاحا باهرا، من حيث التنظيم والمحتوى العلمي الذي تم اختياره، لكن الملفت للنظر أن اليوم الأول عرف مداخلات ساخنة ومثيرة للجدل، وربما مفاجئة. ففي الوقت الذي كنا نتوقع اقتصار كلمات المتدخلين على الإشادة بدور العلوم، وقدرتها على تغيير الواقع واستدامته وتحقيق الرفاهية للعالم، جاءت مداخلتا الأمير الحسن بن طلال ووزيرة العلوم والتكنولوجيا لجنوب إفريقيا مغايرة تماما لهذه التوقعات، حيث فتحا النار على بعض العلماء الذين زرعوا البؤس والآلام في شعوب المعمورة وكانوا سببا في موت الملايين. ففي كلمته، قال الأمير الحسن بن طلال بأن الغرب استغل تطور التكنولوجيا الحديثة في الصناعات الحربية لضرب مناطق عربية، وأكد أن العرب دفعوا من هذه الناحية ثمنا غاليا. وقالت من جهتها، وزيرة جنوب إفريقيا بأنه حان الوقت اليوم لإعادة النظر في نوعية العلم الذي ننتجه، لأن الذين يشكلون ضررا كبيرا للعالم هم من المتعلمين والعلماء.
لقد تركت مداخلتا الأمير الحسن بن طلال ووزيرة العلوم والتكنولوجيا لجنوب إفريقيا أثرا في نفوس المشاركين، لكن للأسف، لم تكن هناك أية متابعة لهذا الموضوع خلال باقي أيام المنتدى.
نضال قسوم.. مدافع شرس عن العلم
كنت محظوظا في اليوم الأول بلقاء أستاذ علم الفيزياء الفلكية في جامعة الشارقة، الجزائري نضال قسوم الذي يعتبر من أكثر الباحثين العلميين نشاطا في العالم العربي والإسلامي، حيث تم اختياره العام المنصرم من طرف مؤسسة سويسرية ضمن الشخصيات العربية المائة الأكثر تأثيرا في العالم العربي، بفضل مؤلفاته العديدة وبرنامجه العلمي على مواقع شبكات التواصل العلمي «تأمل معي»، الذي يتابعه حوالي 50 ألف شخص عبر مختلف أنحاء العالم. يعتبر نضال قسوم (نجل عبد الرزاق قسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين)، من بين الباحثين العلميين الذين درسوا في أمريكا وعادوا إلى الجزائر قبل أن يغادرها مرة ثانية، مكرها، في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وكان مدافعا شرسا عن العلوم والبحوث العلمية، ومن الأوائل الذي دعوا إلى إنشاء وزارة للعلوم، لكن ذلك لم يلق تجاوبا، واليوم استحدثت الكثير من الدول وزارات للعلوم بالتوازي مع وزارة التعليم العالي. كانت الفرصة من ذهب، لإجراء حوار مع الدكتور نضال قسوم، خاصة أنه جاء إلى الأردن لتنسيق مبادرة «الثقافة العلمية في العالم الإسلامي» التي تشرف عليها سمو الأميرة سمية بنت الحسن بن طلال، وتضم في عضويتها 12 عضوا من خيرة الباحثين العلميين في العالم الإسلامي. كما كانت الفرصة سانحة للقاء سمو الأميرة سمية التي ترأست الجمعية العلمية الملكية، فهي من أكثر الشخصيات في الأردن وفي دول المنطقة اهتماما بالعلوم، حيث تمّ تعيينها قبل عام من طرف منظمة «اليونيسكو» سفيرة للعلوم، وهي تطمح إلى أن تقود مستقبلا مبادرات عربية في هذا المجال، حيث تحضر لعقد المنتدى العربي الأول للعلوم. كما سنحت الفرصة للحديث مع عميد كلية الطب والصيدلة بجامعة القدس العربية، الدكتور يوسف النجاجرة، الذي عبّر بأسف شديد عن الضغوطات الكبيرة التي يواجهها الباحثون العلميون في فلسطين، والخناق الذي يمارسه ضدهم الاحتلال الإسرائيلي.
منطقة الغور رويت بدماء الصحابة الأجلاء
مع نهاية فعاليات المنتدى، مساء يوم الجمعة، كان الجميع يستعد للقيام يوم السبت (الذي كان يوم راحة) بجولات سياحية إلى المواقع الأثرية الأكثر شهرة في الأردن، كالبتراء إحدى عجائب الدنيا، فيما فضّلت زيارة الزاوية العلاوية بمنطقة إربد كفر يوبا، التي تقع شمال الأردن، وربطت اتصالا مع شيخها السيد محمد حسن الردايدة، الذي سبق له أن زار الجزائر رفقة عدد من مريديه عام 2009 للمشاركة في مئوية الزاوية العلاوية بمستغانم.
لقد دفعني الفضول إلى زيارة هذه الزاوية التي تعتبر فرعا من الزاوية العلاوية التي يوجد مقرها الرئيسي بمستغانم، فقصة هذه الزاوية طويلة وممتعة، حيث تخفي في ثناياها وتعكس في آن واحد، قوة هذا الإشعاع الروحاني الذي برز في مطلع القرن الماضي بولاية مستغانم، وانتشر بعدها في مختلف بقاع العالم.
استقطب الشيخ العلاوي بزاويته في مستغانم الكثير من المتعطشين للحب الإلهي، من داخل وخارج الوطن، وكان من بينهم الشيخ مصطفى عبد السلام الفيلالي، الذي التقى بالشيخ العلاوي، وكلّفه بخدمة الطريقة العلاوية في الأردن والقدس، والشيخ الهلالي هو والد وزير الاتصال الأسبق محي الدين عميمور، الذي أوفده الشيخ العلاوي إلى غزة، وأنشأ هناك زاوية لازالت قائمة إلى اليوم في شارع الزيتونة، والشيخ محمد الهاشمي التلمساني الذي عاش في دمشق وتوفي بها وله هناك عدة زوايا.
لقد أنار الشيخ مصطفى الفيلالي، وهو من المغرب الأقصى، ديار المشرق في الأردن، وكان له الفضل في تأسيس العديد من الزوايا، من بينها زاوية الشيخ محمد حسن حشادة، التي حظيت فيها بكرم الضيافة وحفاوة الاستقبال التي لازلت إلى يومنا هذا أتذوق طعمها.
في ضيافة الزاوية العلاوية بشمال الأردن
تنقلت في صباح يوم السبت، وهو اليوم الأخير الذي قضيته في الأردن، إلى مدينة إربد كفر يوبا مع صديقي الجديد السيد أحمد الشرمان، أستاذ لغة عربية بإحدى ثانويات العاصمة عمان، وهو من أتباع الطريقة العلاوية في الأردن، كنت سعيدا جدا بلقائه، وقد زادت سعادتي عندما أخبرني بأننا سنسلك الطريق الذي يتخلل المناطق التي دفن فيها صحابة رسول الله، الذين قضوا في طاعون عمواس في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
كانت المحطة الأولى لزيارتنا، قبر سيدنا شرحبيل بن حسنة، ثم سيدنا عامر بن أبي وقاص، شقيق سعد ابن أبي وقاص، ثم في الأخير سيدنا معاذ بن جبل وابنه عبد الرحمان، كلهم توفوا في طاعون عمواس.
حسب الشيخ الزاوية العلاوية، محمد حسن شحادة - الذي هو بصدد تأليف موسوعة من حوالي ثمانية مجلدات حول الصحابة الذين توفوا في الأردن- فإن عددهم حسب رواية المؤرخين يناهز ال 25 ألف صحابي، منهم 20 ألفا توفوا في طاعون عمواس، لكن هناك 20 فقط من تعرف قبورهم. ذكر بالإضافة إلى الذين حظينا بزيارة قبورهم، أبو الدرداء، ضرار بن الأزور وأبو عبيدة بن الجراح الذين توفوا في الطاعون، ومنهم شهداء مؤتة وذكر جعفر بن أبي طالب، زيد بن حارثة، عبد الله بن رواحة وعكرمة بن أبي جهل وهو ابن أبي جهل الذي دفن على طريق عجلون، وقد توفي بسبب تلقيه لأكثر من سبعين ضربة سيف.
كان بودي أن أزور كل قبور الصحابة، لكن الوقت كان ضيقا، فقررت أنا وصديقي أحمد الشرمان أن نتوجه إلى الزاوية.
لقد كانت مفاجئاتي كبيرة عند وصولي، لم أتوقع أن أحظى من طرف الشيخ محمد شحادة والبعض من مريده بمثل ذاك الاستقبال الحار وكرم الضيافة، إلى درجة أنني لازلت أستشعر حرارة أجسامهم وهم يضمونني إليهم.
كان الشيخ محمد شحادة بشوشا، طلق الوجه، ترى عليه سمات القربى، لم يكن شخصا عاديا، فهو موفور النشاط بالرغم من أنه يقارب الثمانين سنة، له حوالي 30 مؤلفا كتبها في ظرف 27 عاما، أي بمعدل كتاب في السنة، يقول الدكتور شحادة «بدأت بالكتابة سنة 1995، وأنا اليوم أعكف على كتابة موسوعة الصحابة، وقد أنجزت منها مجلدين. كنت أجلس بجانب الكومبيوتر حوالي 8 ساعات في اليوم، لكن اليوم لا يمكنني أن أتجاوز الثلاث ساعات، في الكثير من الأحيان تؤلمني يدي، فأخاطبها وأقول لها؛ تألمي أو لا تتألمي، يجب أن ننهي عمل اليوم».
يحظى الشيخ شحادة باحترام وتقدير الجميع من سكان المنطقة، ومن أتباع الزاوية، معروف عنه بكرمه وحسن ضيافته وتقديم يد العون والمساعدة لكلّ من يحتاجها، كما كان له التوفيق في بناء زاوية وتسييرها من ماله الخاص وتبرعات المريدين، يقول الشيخ شحادة «في البداية، مع مطلع السبعينات، كنا نجتمع في منزلي لأن عددنا لم يتجاوز العشرة، لكن مع مرور الوقت كثر المدد والعدد، وأصبحنا نتجاوز الآلاف، مما اضطرنا إلى شراء محل وتجهيزه، وهو منذ عام 1993 وقف لوجه الله».
عن أحوال التصوّف والصوفية في الأردن، يقول الشيخ شحادة بأن هناك العديد من الطرق الصوفية في الأردن، كالرحمانية والرفاعية والقادرية، «لكن أغلب مريديها يخوضون في الشؤون السياسية، باستثناء طريقتنا العلاوية، فنحن لا نمارس السياسة وهو دأب الطريقة العلاوية في الجزائر أيضا».
ب. هشام
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 10/12/2017
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : هشام
المصدر : www.el-massa.com