الجزائر

نطحات جزائرية



وأنا أستعيد جوانب من التاريخ الجزائري قديمه وحديثه، وقفت على حقيقة واحدة تتكرر عبر الأزمنة والأمكنة، وهي أننا أصحاب عقلية واحدة بالرغم من التباين الذي قد يوجد بيننا. نحن، على حد ما قاله الشاعر أبو فراس الحمداني، أناس لنا الصدر دون العالمين أو القبر!
روى أحد دارسي اللغة العربية من أبناء الجيل السابق حكاية مفادها أن العلامة الجزائري محمد بن شنب، صاحب التآليف العديدة والضليع في العديد من اللغات، كان يلقي محاضراته في جامعة الجزائر في العشرينات من القرن الماضي. وكان يحرص على ارتداء الزي الوطني المعروف أيامذاك، المتمثل في “البدعية” وما يسمى بسروال “نصف تستيفة” والحزام الجدلي العريض والشاش، أي العمامة، والخفين الجلديين المصنوعين على مقاسه.
وذات يوم وهو يمر بالقرب من شارع العربي بن مهيدي، “إيزلي سابقا”، أطلت سيدة فرنسية من إحدى العمارات، ولما رأته يحمل قفة ظنته تاجرا يبيع البيض، أو شيئا من هذا القبيل، فابتدرته سائلة إياه: ما الذي تبيعه، يا هذا؟؟ وما كان منه سوى أن رفع رأسه وحدق فيها، ثم قال بعد أن أدرك أنها اعتبرته مجرد تاجر بسيط جاء من الريف، ونظر إلى قفته المغطاة بقماش، ثم أزاحه قليلا وقال لها بلسان فرنسي بليغ: أنا أبيع الأدب والكتب!
وبهت الذي كفر!
وهناك ما يماثل هذه الوقفة في جانبها المعنوي ففي العشرينات من نفس القرن، قام العلامة الفقيه عبد الحليم بن سماية بربط جواده إلى الحاجز الحديدي الذي يحيط بتمثال الدوق أورليان في ساحة الشهداء، وجعل يتحادث مع أحد أصدقائه. فجاء شرطي وانتهره بقوله: هيا أبعد جوادك عن هذا المكان! وما كان من عبد الحليم بن سماية سوى أن حدق فيه مليا، ثم في التمثال، وقال له: اسمع يا هذا، إن جوادكم هذا يروث علينا منذ حوالي مائة سنة ولم يمنعه أحد من ذلك، أما جوادي، فإنه في مربطه!
هذه الوقفة تكررت في جهات أخرى عبر تاريخنا القديم والحديث. ومنها أن الداي حسين، ضرب بمذبته القنصل الفرنسي حين أقلقه بكلامه الفارغ. وأيا ما كانت عواقب تلك الضربة إلا أنها ظلت رمزا للعقلية الجزائرية. وما كانت هي السبب وراء غزو الجزائر، إذ أن الاستعمار الفرنسي كان قد خطط لمثل ذلك الغزو قبل مدة طويلة.
وفي أواخر عام 62، أي بعد أن نالت الجزائر استقلالها، توجه الرئيس السابق أحمد بن بلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، واستقبله الرئيس جون كنيدي بحفاوة بالغة، وعمل المستحيل لكي يستدرجه ويجعل منه تابعا للعالم الغربي، لكنه رفض بكل إباء. وقرر التوجه إلى كوبا، فألح الرئيس الأمريكي على أن يقف حائلا بينه وبين قراره ذاك، غير أنه أصر على أن تلتقي الثورتان الجزائرية والكوبية. وكان له ما أراد، ووجه بذلك صفعة قوية للإمبريالية الأمريكية.
ولعل أجمل النطحات في هذا الشأن إنما هي تلك التي أداها اللاعب الجزائري الفرنسي زيدان حين أزعجه منافسه الإيطالي وقال له كلاما بذيئا، فوجه له نطحة من النطحات القوية التي أردته أرضا.
هذه الوقفات تكررت كثيرا في تاريخنا، وهي تكشف عن عقلية كثيرا ما ينتقدها بعض المداهنين، لكنها، في حقيقة أمرها، عقلية ينبغي أن نعتز بها لأنها جزء من تكويننا النفسي والثقافي والحضاري.
وملحمة أم درمان الكروية ما زالت تتردد بيننا وبين عشاق الكرة في العالم أجمع. ولقد قيل في هذا الشأن إن أحد الشبان الجزائريين الذين رافقوا الفريق الكروي الجزائري إلى السودان، صاح في وجه أحد الصحفيين قائلا: ليعلم الجميع أن الذين يمتطون هذه الطائرة ليست لهم أمهات قد يذرفن دموعا عليهم إن هم لقوا حتوفهم في أرض السودان.
ألا ما أعظمها وأروعها من نطحات نتمنى أن تتكرر عبر الأزمنة القادمة بين أبناء الأجيال القادمة. ويروقني في هذا المقام أن أستعير تعبير الشاعر الفرزدق لكي أصف هذه الحالة الجزائرية: إن في عرنين الإنسان الجزائري شمما، والعرنين هو النقطة العليا من الأنف، وهي دليل على الشموخ والإباء.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)