الجزائر

نصائح لناقد مبتدئ



ل"نيتشه" موقف من النقد يكاد يكون غامضا يتوجب علينا تدبره وفهمه. فهو من جهة فيلسوف بل صاحب أكثر الفلسفات الغربية ذكاء، أي أنه ينظر إلى العالم نظرة فاحصة تفكك وتشكك وتستجلي وتقول الكامن والمخفي، ولا يمكن أن يكون هذا بغير احتفاء بالنقد واهتمام به ودعوة لإفساح المجال له، وهو يقول هذا بوضوح في "إنسان مفرط في إنسانيته" مثلا "لقد قيل لي أنها –أي كتاباته-كلها تحوي بحيرات وأحابيل لاصطياد الطيور المتغافلة وشبه تحريض، خفي لكنه مستمر على قلب التقديرات المعتادة والعادة المقدّرة..". التحريض إذن على قلب التقديرات، المفهوم، الأوضاع، هو ما تحاول الفلسفة النيتشوية أن تمارسه، بينما نجده من جهة أخرى وفي أكثر من موضع من كتاباته يقول:" إن النقاد لا يلدغون لجرحنا، بل ليبقوا على قيد الحياة"، أي إنهم يعتاشون من إبداع الآخرين ولا يمكن لهم أن يوجدوا إلاّ على أكتافهم.في أي فضاء يمكن أن تتنزّل هذه العبارة النيتشوية؟ هل هو الفضاء الشعري الذي ينتمي إليه الرجل مجاورا للفلسفي؟ فكثير من الأدباء لا يملكون علاقات صحية مع النقاد ويصابون بالزكام عند أول نسمة هواء نقدية. أم أنّه الفضاء الفلسفي الذي يفترض أن يُحكم بقواعد المنطق ومرجعياته بحيث تتوجه العبارة باللوم لنوع محدد من النقاد الذين يكتبون ليسيئوا ويتحدثون قبل أن يستوعبوا ويفهموا، فلا شكّ أن نيتشه –سواء الشاعر أو الفيلسوف-كان سابقا لأوانه، وهو يعرف هذا عن نفسه ويخبر بأنه "لا أحد قد نظر إلى العالم بشكٍّ في عمق شكي" حتى أطلقوا على فلسفته "مدرسة الشك" و"مدرسة الازدراء". قد يكون الفهم المتسرع والأحكام الجائرة في حق نيتشه في حياته هي الداعي لما قاله، وأصحابها هم المقصودون بالعبارة، بحيث تكون خاصة بنوع من النقاد لا عامة كما قد تكون العلة غير هذا مادامت النصوص الكبيرة في كل الأحوال تنفتح على عدد هائل من المعاني والتأويلات مع فهمنا الواضح بأنّ مقولة واحدة لنيتشه قد تكون مفتاحا لفهم رأي ما في موضوع محدد ولكنها لن تستجيب لكل الممكنات التفسيرية أو التأويلية إلا بمجاورتها بنصوص أخرى للفيلسوف نفسه.
إنّ الفهم المتسرع والأحكام الجائرة والخطأ في التقدير تتأتى من الناقد في أكثر المرات بسبب القفز على مجموعة من الخطوات يتوجب أن تكون في كل كتابة نقدية، والواقع أنّ واحدة من أهم الكتابات التي كتبها ناقد يفصل فيها آليات النقد وركائزه ثم يجمعها في نقاط مختصرة كالوصفة الطبية للناقد المبتدئ أو الشاب ما نجده في كتاب:"دليل موجز للكتابة عن الفيلم" AShort Guide to Writing ل:تيموثي كوريغان TIMOTHY CORRIGANمن جامعة بنسلفانيا، وهو من الكتب الناجحة في أوساط المهتمين بهذا النوع من المعرفة ويغني فهمه وتدبّره عن كثير مما سواه، إنها وصفة موجهة أساسا للنقد السينمائي لكنها مع ذلك تنطبق جيدا على النقد المسرحي بعيدا عن الحاجة إلى الثرثرة حول الفوارق الهامة بين الفيلم السينمائي والعرض المسرحي الذي سبق أن تحدثت عنها في مرات سابقة.
يضع الكتابُ هذه الأسئلة العشر ليطرحها الناقد على نفسه: هل أفهم الفيلم (المسرحية) أو الأفلام (المسرحيات) التي أنوي مناقشتها؟ هل ملاحظاتي واضحة وكاملة بحيث تتيح لي أن أصف الصور والمشاهد الأساسية والعناصر الأخرى وأستجيب لها؟ هل تقود فقرتي الافتتاحية إلى أطروحة محددة ومصوغة بدقة تتوقع النقاط الأساسية في ما تطرحه هذه المقالة؟ هل تعكس جملي الأساسية تطويراً منطقياً لتلك الأطروحة؟ هل تتوافر انتقالات سلسلة بين الفقرات والجمل؟ هل تتماسك الفقرات، ويكون هذا عادة حول فكرة واحدة؟ هل معنى كل جملة واضح، وهل تتنوع بنيات الجمل؟ هل التعليقات المجردة مدعومة بأمثلة محسوسة؟ هل قمت بالتنقيح والتصحيح بدقة للتخلص من الأخطاء النحوية والإملائية والطباعية؟ هل قمت بإعادة التأكد من الهوامش والشواهد لضمان دقتها ووضعها في أمكنتها المناسبة؟
لعلّ التحكم في هذه الخطوات أو النقاط العشر ستمنع عن أذن الناقد أن تسمع مثل الذي قاله نيتشه عن النقاد، ولو أنني لا أضمن هذا ما دام الكثير من المبدعين مازالوا يجهلون بشكل مؤسف قيمة النقد وما يقدمه النقاد.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)