لباريس سحرها الخـاص و»الخالص» المعدن، فالساعة فيها عمر من التأمل ومن الدهشـة ومن صلاة تاريخها أعمق وأكبر من تكنولوجيا العصر وما مسـخته حضـارة السرعة الفائقة التي لم ننتعل منها نحن، حيث لازلنا مشدوهين، سوى قشـورها، فباريس بحلتها التاريخيـة، تستنفر فيك أزمنة غابرة لازالت تحاكي حاضرا متطـورا، ساير التكنولوجيا، لكنه ظل محافظا على أصالة الانتماء وروعة القـديم المتجلي في شارع المشاهير الشانز اليزيه وممرات تاريخية مثل الافنيو مونتين وسان اونوريه وقصر فرسـاي الذي عايش بساطه أهم التحولات التي صنعت حاضر أوروبا من على ظـهر حضارة العرب والمسلمين..
المهم أن أول انطباع يـمكن أن يستنفر فيك حين ترى باريس، وأنت «الأعرابي» القادم من بؤر النفط المتدفق، هو ذلك السؤال العميـق الذي يمكنه أن يلقي بك في «نهر السـين» عن اقتناع واختيار ذاتي الانكسار، كون باريس، لا تملك شيـئا ورغم ذلك فهي باريس وباريس..ثم باريس. أما نحن، أباطرة النـفط وسادة المال وفرسان التاريخ الآفل، فإننا حيث تركـونا، وحيث قرر فينا قصر «فرساي» أمـره، بقرة حلوب عُشبها بها في أرضنا أما ضرعها، فإن حالبـيه وراء البحر، حيث باريس تترنخ وتسـكر وتلاعب بلادة أمـة تجاوزها التاريخ كما تجاوزتها حضارة الآن..
ببـساطة الجملة الوحيدة التي يمكنـها أن تهدئ فيك ثورتك على نفسك وأنت تنحني أمام «جلالة» باريس، أن تردد، أن «الجهد لا دين له»..ففرنسا يمكنها أن تشرح بمجرد أن تطأ باريسها ونظامها الإلكتروني الذي يسير الحيـاة، لماذا يرتمي شبـابنا في البحر في تحد لغرق متجلي من أجل الوصول إلى ضفة التشرد الأخـرى..
عن باريس ..وعن مهاجرين بلا عنوان وبلا وطن غير «الأورو»..وعن ومع الأستاذ والروائي الكبير واسيني الأعرج الذي حجز له موقعا بجامعة السوربون، قطعنا تأشيرة أنـنا كنا هناك في باريـس..
مع واسيني الأعرج
في «مضـيق المعطوبين»:
في مقـهاه حيث يشتهي ارتشاف فنجان قهوته متـوسدا تجاربا وانهيارات يكشفها ترحاله الدائم ومن وإلى «واسيني» ذاته، صادفنـاه رفقة الوجه التلفزيوني والشاعـرة العميقة «عفاف فنـوح»، بمقهى «Le Depart Saint-Michel «، لتكون لنا مع صاحب رائعة الأمـير و»مضيق المعطوبين»، أكثر من رحـلة ميزها كرم الجزائري الأصيل الذي لم تنزع عنه باريس شيم الرجل المتواضع الذي قد تختلف معه فكرا، لكن مضمونه الجزائري يجعل منه سيـدا أبيا في باريس.. من مقهي Le Depart Saint-Michel إلى معهد العالم العربي، راح الأديب الكبير يسأل عن حال الانتخابات في الجزائر وعن مواضيع عدة، أهم ما جاء فيـها أن «البلاد» تمر حقا بمخاض عسـير، يستوجب وقفة من نوع خاص حتى لا تغرق في الفوضى المستوردة تحت مبررات حرية «الشعوب» التي لا يمكن في نظـر واسيني الأعرج الذي يتابع عن كثب ما يجري في الساحة الدولية والعربية والجزائرية بالذات، أن تقايض بأمن واستقرار الأوطان..
واسيني وفي لقائه بـ»البلاد»، عبر بأسف عن مآل القطب الديمقراطي في الجزائر، الذي انتهى إلى الجدران، بعدما عجـز أقطابه عن صناعة حدثهم، فباستثـناء «الأفافاس» الذي لايزال في رأي الأستاذ البروفسور، يحافظ على بصيص أمل فإن البقيـة من ديمقراطيين انتهوا إلى الإفلاس، ومن موقعه كمتـمسك بالأمل، أعلن واسيني أنه إلى أن يظهر جـديدا فإنه «أفافاسي»..
عن الإسلاميـين وعن انفتاح السلـطة، اعتبر واسيني الأعرج الذي كانت تنتظره رحلة إلى «الصـين» في إطار عملي، أن انفتاح السلطة بشكل لكل دوار حزبه، ابتـذال ليس بعده سوى «التسويف» لديقراطية مشوهة تستسقي منها السلطة مخرجا، لكي تبقى أكثر، وفيما يخص موقفه من الإسلاميـين، اعتبر أن الطريق الآن في الجزائر مشرع أمام الإسلاميين، وأن قواعد اللعبة الديمقـراطية في وقتها الحالي، تفرض على الجميع احترام الصنـدوق، فرغم تخوفه من غـد بلون «أخضـر»، إلا أنه كمؤمن بالديمقراطية، يرفض بأي شكل مصـادرة حق الإسلاميين إذا ما اختارهم الشعب، فتجربة التسعيـنيات في رأيه، تجاوزها الزمن، ولا مجال اليوم لأي مغامـرة تهدد أمن الوطن..
واسيني الأعرج الذي ظهر منكسرا من وضع الديمقـراطين ومآلهم المشتت، تمسك بأمل «الأفافاس» كبديل تاريخي يمكنه أن يؤطر اللعبة السياسية في الجزائر، وكنتيجة في دردشته مع «البلاد»، فإن الطريق إلى السلـطة مفتوح أمام الإسلاميـين، والرهان لم يعد في منعهم، ولكـن في كيفية الوصول إلى تعايش مبن على احتـرام متبادل من جميع الأطراف لإرادة الشعب.. دون مغامرات رسمية ولا بلطجة إسـلامية أو ديمقراطية، ففي الكفة الأخرى للرهان مصـير وطن هو مسؤولية الجمـيع…
الوجه الآخـر لبرلمانـيات
لا تعني أحدا؟
عكس واسيني الأعرج الذي كان يتابـع كل صغيرة وكبيرة عما يجري في ضفته الأخرى بالجزائر، فإن «كادر»، واسمه السابق «عبـدالقادر»، شاب جزائري يقطن بمدينة «بورج» التي تبعد عن باريـس بـ245 كلم، لا يعرف من البرلمانيات ولا من الجزائر، سوى انه تركها وراءه منذ عشر سنين، بعدما دخل فرنسـا وغرق في باريسها، ليحفظها شارعا شارعا، وإشارة إشـارة، وبعد أن ضاقت به اختار «بورج» الهادئة، ليعيد من خلال حسـابات «هجرة» بدأت قانونية وانتهت للفـرار باتجاه لا شيء، فهو عكس أترابه، رفض التورط في الزواج لتسوية وضعيته، وقد شارف الآن على أربعيـنه بعدما دخل باريس وعمره ثلاثون سنة، يقول إنه اشتاق للوطن، ويبتـسم، أفكر حقا في «الحرڤة» إليه، عكس الجميع، والسبب أنه «امتلاء» من فرنسا، وخاصة في حكايـات الضياع التي يعيشها من تزوجوا هنا، ففي رأيه أن صفقة «الأورو» مقابل ضياع «الأولاد» التي تعيشها الأسر الجزائرية، صفقة ضائعة حقا..
بفرنسـا يعبدون «الطفل» وهو صغير، لكن بمجرد أن يبلغ الـ14 من عمره، حيث السن الحرج، فإن الضياع سيكون مآل أسر كسبت الأورو وفقدت فلذات أكباد، لم تعد تحمل من الهـوية إلا «هاوية» الضياع، وهو المآل الذي قال عنه «نجيمي جلال»، شاب مغترب بباريـس وله عائلة ناجحة، بكونه يمنع عنه النوم، لأن ابنيه «أسـامة»، و»إسـلام» اللذين لم يبلغا بعد العاشرة، لا يمكنهما أن يعيـشا في ظروف كهذه، رغم ما فيها من مغريات إلا أن نهايتـها أن يصرخ الأطفال حين يكبرون قليلا في أوجه آهاليهم: لن أعيش في جلباب أبي..
الانتخابات البرلمانية وما يجري فيـها من تنافس، لا تعني للمهاجرين شيئا، فالعجز الرسمي وحتى الحزبي، عن إيصال الرسالة إلى الضفة، شاهد عيان، على أن «الوطن» في الضفة الأخرى، يبحث عن «مواطـن» مطلوب تحديد مكانه ونبضـه، فرغم كل ما يقال عن «الجاليـة» الجزائرية، إلا أن الثابت أنه العجز الرسمي نتـيجة منطقية لبث مقطـوع ومنقطع النظير بين من هم هنا ومن هم هناك ولا يزالون هنـاك..
أحدهم يدعى «ب، مصطـفى»، يتجاوز الخمسين من العمر، أصوله من ولاية داخلية، كان قبل عشر سنوات في «نعمة ربي» كما يقولـون، حيث السيارة والشقة والزوجة بولايته بالجزائر، ولأن للهـجرة، باريس، فقد غامر ببيع كل شيء، ليطلق قبل شقته امرأته وسيارته، ويغرق في باريس، تزوج فرنسية ثم طلقته، لينتهي به الحال إلى العمل كحمال بباريس عند أحد الخواص، حين سألناه هل ندم، كانت إجابته..ولماذا أندم..فلا أحد يسـأل عني لذلك فلا أحد يعنيني أمـره، لا أولاد، لا أسرة ولا باريس..لقد فقد كل شيء ولا يزال مصرا على أن يفقد ما تبقى له من «اللاشيء»..فباريس سكنته..كما كنسته..
لبيب المغـربي..شوفور الطاكسي
يسمى لبيب المسـعدي وهو مغربي من طنـجة، يشتـغل سائق طاكسي، نقلـنا من باريس إلى مطار أورلي في رحلة العودة، وأثناء الطريق، راح يتحدث عن الأخوة المغربية الجزائـرية، وكلمة من هنا وأخرى من هناك، ظهر أن الشاب المغربي، مثقف كبير دخل باريس شاعرا كان يمكنه أن يكـون شيئا كبيرا، فإذا بقطار باريس يدوس فيه كل «أحلام» الشاعر، لتصبح قصيدته «شارع وراء شارع»، فباريس لا ترحـم، والعرب في نظر فرنسـا، ضرورة غير مرغوب فيـها، عن ساركوزي وعن إصـلاحات الملك وعن وعن..كان للبيب المسـعدي أكثر من حكاية مثقفة، ففي رأيه أن إصلاحات الملك المغربي، رغم كل ما عليها إلا أنها حد أدنى يمكنه أن يحفظ لوطنه بعضا من كرامة كانت مداسة في «سجود» الرعية لكل من ينتسب للأسرة المالكة. أما عن ساركو وغزواته ضد العرب، فقد اختزل لبيب قراءاته للحكاية برمتها، في أن هذا الشخص عانى من القذافي بشكل شخصـي بعد أن خذله في صفقة طائرات فكان القرار الساركوزي، إنهاء ليبيا قبل القذافي، وهاهو التشخيص نفسه للمشكل مع العرب، لكن مع العرب والمهاجـرين، فإن العدد يتجاوز القرار المتسرع في رأي لبيب، حيث يقول، لو كان الأمر بيد ساركـوزي وفي طاقتـه، لكنت أنا وأنت والآخرون، في هذه اللحظة، ننتظر دورنا في «نهر السـين»..
للعلم لبيب، لم ينقطع عن طنـجة أبدا، ففي كل شهر يذهب مرتـين إلى هناك، والسبب ليس لكون «شيفور» الطاكسي غنيا، ولكن لأن رحلتي مـعه من منطقة «إيكوان» التي تبعد عن باريس بـ27 كلم حتى مطار أورلي كانت تكلفتها 120 أورو، وهي أقل من تكلـفة الذهاب والإياب إلى المغرب، التي لا تتجاوز الـ100 أورو..ولكم أن تقارنـوا سفرنا تكلفتنا نحن إلى باريس، لتسألـوا عما وصل إليه دينارنا النفطي مقارنة بدرهم مغـربي، لا نفط فيه..
للعلم وللشكر فقط، فإن لبيب المغربي، وفي تكرم وكرم عربي منه، تقاضى منا فقط 100 أورو عوضا من الـ120 أورو التي سجلها عداد سيارة الأجـرة، وتلك عملة يمكن أن تصرف في شيم العرب..
نهاية الأمـر، لقد عدنا من باريـس، ومعنـا بالإضافة إلى كرم «لبيب» المغربي ومكارم الأستاذ البروفسور واسيني الأعرج، محطة عن شاعرة مغربية تدعى «غـادة كاميلـيا» صادفنـاها في معهد العالم العربي، فأكرمتنا بمأدبـة مغربية، لا نظن أن حضارة باريس، يمكنها أن تجد لها من تشفير، لأن «الكـرم»، رغم كل مساوئنا يبـقى وشما عربيا ولو كان الطبق «باريس»، حيث الأورو هـو الهوية وهو الدين وهو العقيـدة التي تتحكم في مأساة الإنسان ببـاريس الساحرة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 30/03/2012
مضاف من طرف : aladhimi
صاحب المقال : أسامة وحيد
المصدر : البلاد 2012/03/30