الجزائر

منوّر صمادح..شاعر تونسي بقلب جزائري



عديدة هي الأقلام المبدعة والعقول الفذّة التي كانت جريدة "الشعب" منبرا لها، من أدباء، وشعراء، من داخل الجزائر ومن خارجها، جمع بينهم الإبداع، وجمعوا بين حب الوطن، وحب الكتابة. من بين هؤلاء الشّاعر التونسي منور صمادح، الذي عُدّ من شعراء الثورة الجزائرية، وهو الذي تغنّى بالجزائر قبل الثورة، وأثناءها، وبعدها، بل وعاش بالجزائر واشتغل ب "الشعب"، وترك فيها بصمة وأثرا، ومن صفحاتها "ألقى السّلام على الجزائر".منوّر صمادح شاعر عصامي تونسي، لقّب ب "شاعر الوطنية"، و«شاعر الحرية". ولد في السابع من سبتمبر 1931، بمدينة نفطة بالجنوب التونسي. درس والده إبراهيم بجامع الزيتونة، كما درس في الجزائر وتخرّج في جامع الأزهر، وكانت أمّه تنظّم الشعر أيضا، وله أخوان أحدهما شاعر والآخر كاتب.
وللحديث أكثر عن إسهامات صمادح في جريدة "الشعب"، نستأنس بكتاب "منور صمادح، شاعر الثورة الجزائرية المغيّب" لمؤلفه أ.د.محمد مكحلي (جامعة سيدي بلعباس)، الصادر هذا العام عن دار القدس، في إطار ستينية الاستقلال.
استهلّ الكتاب بتقديم حبيب مونسي، قال فيه إنّ "شهادة الشعراء من أعز الشهادات وأقواها، فهي ليست وثائق بالمعنى الحرفي الذي نعرفه للوثيقة، وإنما هي شهادة الإنسان الحسّاس الذي عاين الأحداث، وتأثّر بها ألما، وفرحا، وقلقا، وشكا، وريبة...أي أن شهادته وثيقة مفعمة بالأحاسيس والمشاعر الإنسانية، وأنّه يمكن استثمارها في هذا الإطار لقياس درجات الوعي التي كان يتحلّى بها جيل بأكمله، من خلال تلك النصوص التي تغنّت بانتصار، أو تألمت لانكسار، أو رسمت معاناة الغربة والجوع والخوف". ويضيف مونسي: "فالشّعر ليس فضاءً غنائيا كما يراه البعض، وإنما الشعر كذلك لسان حال يمكن أن يحمل للقارئ طبيعة الجو الذي كان سائدا في فترة من الفترات".
واختتم مونسي تقديمه بالحديث عن الكتاب والشاعر معا، قائلا: "إنّه اكتشاف لشاعر تونسي عاش الوطن، وعاش الثورة، وحملهما في قلبه وشعره، وتغنّى بهما حلما وتحققا. وعلينا أن نعيده إلى الحياة مرة أخرى مع كوكبة من رفاقه، لا يزالون في طي النسيان والبلى، لتعود معهم صفحات أخرى من التاريخ العربي المناضل، وأخرى من الأدب، والنقد، والفكر، والفن، حتى تكتمل صورة الأدب العربي جلية واضحة من خلال سير أبنائه".
ويروي مكحلي تفاصيل رحلة الشاعر إلى الجزائر، والفترة التي قضاها فيها، وهي الفترة التي اشتغل فيها الشاعر بجريدة "الشعب". وقد وصل منور صمادح إلى الجزائر في شتاء 1968، فوجد في استقباله صديقه الجنيدي خليفة، الذي رحّب به وقدمه إلى جموع المثقفين بالتعريج على قيمة الشاعر الثورية والنضالية، ومكانته بالنسبة للثورة الجزائرية والمجاهدين. وكان الجنيدي خليفة مشرفا على القسم الثقافي لجريدة "المجاهد"، فكتب عمودا بتاريخ 07 جانفي 1968 بعنوان "شاعر خرّيج مخبزة"، وقد اعتمده صمادح مقدمة لديوانه "السّلام على الجزائر" (1972). وممّا جاء في كلمة الجنيدي خليفة: "وقد ذكر الشاعر أنه اختار الإقامة بالجزائر ورحّبت به السلطة، وأسندت له وزارة الأخبار مهمة ثقافية بالإذاعة شبيهة بالمهمة التي كان يشغلها بتونس".
ويقول مكحلي إنّ الشاعر مكث بالجزائر عامين معزّزا مكرّما، واشتغل بالإذاعة الجزائرية وبجريدة "الشعب"، فكانت هذه الإقامة فرصة لتجديد قريحته الشعرية، فنظّم عديد القصائد التي كان ينشرها في "الشعب"، كتلك التي نظّمها في الذكرى الثامنة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس وعنوانها "الحادي"، يقول فيها:
ألقى السّلام على الجزائر حاملا
وحي الرّسالة من منارة يثرب
فيمَ التّعجّب من حفاظ عهودها
يحتار فكر المرء في المتعجّب
ومن البيت "ألقى السّلام على الجزائر" اختار صمادح عنوان ديوانه الشعري.
وممّا ينقله الكتاب من قصائد نشرها صمادح بجريدة "الشعب"، قصيدة "تلاشٍ"، وهذا نصّها:
في فؤادي متاحة وشجون
وحريق وعاصف مجنون
كتفاي من الهموم جبال
فهموم الحياة حيث أكون
أنا كأس بغير خمر وأفق
مات فيه الضّياء فهو دجون
الضّباب الكثيف يغمر روحي
وضياعي تحار فيه الظنون
أنا قبر دفنت فيه الأماني
ودموع وفيّة لا تخون
أنا إثم يضيق عفوك عنه
يا حبيبي وضارع محزون
ثكلتك الشّفاه فهي صلاة
ونداء حراكها والسّكون
فقدتك اليدان فهي ارتعاش
وضلوعي من الجوى أتون
كل عضو يموت فيك ويحيا
أنه فيه حياته والمنون
وهناك قصيدة أخرى نشرها صمادح في "الشعب" ونقلها الكتاب، عنوانها "ليالي العمر"، ومطلعها:
هنا الخيّام قد ضرب الخياما
هنا ألقى على الدنيا السّلاما
أتاها وهي محمّلة الرّوابي
فشق الجيب واقترع الغماما
ولم ينشر صمادح شعرا فحسب، بل أفردت له "الشعب" حيّزا كبيرا لكتابات أخرى، على غرار قراءة للمجموعة الشّعرية "ثائر وحب" لشيخ المؤرّخين أبو القاسم سعد الله، الصادرة عن دار الآداب، "وقد قدّم دراسة وافية لهذه الأشعار تحت عنوان (في المعيار)"، يقول مكحلي، الذي أرفق هذا المثال بصورة للقراءة، نلاحظ من خلالها أنها تربّعت على صفحة كاملة، في وقت كانت صفحات الجريدة من الحجم الكبير.
توفي منور صمادح بتونس في 28 ديسمبر 1998، عن عمر ناهز 67 سنة، ولكن صدى شعره ما يزال خالدا، تلتئم حوله الملتقيات، وتؤلّف عنه الكتب والمقالات..هي واحدة من فوائد الشعر، يمنح اسم ناظمه الخلود، وتمنحه الصّحف مكانا مشرقا على صفحات التاريخ.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)