الجزائر

منصور بوداود يخص "الفجر" بشهادته



منصور بوداود يخص
كيف نجا الشيخ بوزوزو وبن بولعيد من مصير أولبصير وبالبڤرة..

نواصل في الحلقة الثانية من شهادة المناضل المجاهد منصور بوداود التعريف به، مع الوقوف عند بعض المحطات البارزة في مسيرته النضالية.. وكان توقف في الحلقة السابقة عند "لغز اختفاء عبان"، ومحاولات اختراق جهاز التسليح لجبهة التحرير الوطني بالمغرب من قبل المخابرات الفرنسية.. ويواصل اليوم بتناول عملية تحييد عيون إدارة الاحتلال بقصبة العاصمة في بداية الثورة، وحادثة الشيخ محمد بوزوزو وعمر بن بولعيد، وبداية صعود هواري بومدين "التلميذ الذي تفوق على أستاذه" عبد الحفيظ بوالصوف.

تحييد عيون العدو.. في القصبة

تمكن أمن الاحتلال في ربيع 1950 من اكتشاف "المنظمة الخاصة"، وتفكيك العديد من خلاياها السرية في مختلف أنحاء البلاد. ونجا محمد أرزقي بوداود من الاعتقال مرة أخرى، ليعود بعد حل المنظمة إلى مهامه النضالية العادية، فضلا عن مزاولة نشاطه التجاري في الخضر والفواكه.

فلا غرابة إذا أن يفاجأ باندلاع ثورة الفاتح نوفمبر 54 كغيره من المناضلين، بمن فيهم عدد كبير من الأعضاء السابقين في "المنظمة الخاصة".. ظل يتساءل إثر ذلك في حيرة: ترى من يكون وراء الثورة الوليدة؟ وذات يوم بينما كان يتناول طعام الغداء في مطعم بشارع شارتر (القامة حاليا)، التقى بالناضل صالح الوانشي - عضو اللجنة المركزية لحركة الانتصار - فأخرجه من حيرته، أخبره بحقيقة الثورة التي يقوده تنظيم جديد، لا علاقة له بمصالي ولا بأي طرف آخر.. هذا التنظيم هو "جبهة التحرير الوطني".

كان على موح أرزقي بعد ذلك أن يجد طريقه إلى الثورة بنفسه، فكان له ذلك بعد فترة في القصبة ضمن شبكة الشهيد أرزقي بوزرينة.. وكانت المهام الأولى التي أسندت إليه تكتسي طابعا أمنيا وقائيا: تحييد عيون العدو بالقصبة..

في أواخر 1955 طلب منه عمار أوعمران - الذي كان خلف رابح بيطاط على رأس المنطقة الرابعة - أن يلتحق بالمغرب في مهمة محددة: جمع ما أمكن من الأسلحة ونقلها إلى العاصمة.

لم يكن متابعا يومئذ، فسافر إلى المغرب بطريقة عادية.. بدأ نشاطه هناك من الدار البيضاء، بواسطة مناضل خياط.. فقام بجمع مبلغ من المال وأرسله إلى قائد المنطقة الرابعة.

علم محمد بوضياف - منسق الثورة بين الداخل والخارج - وكان بتيطوان بهذا النشاط في دائرة اختصاصه، فأرسل مساعده بالمغرب الطيب الثعالبي (سي علال) للاتصال به.. وقابل إثر ذلك بوضياف شخصيا، فطلب منه أن يواصل جهوده في الإمداد، لكن ضمن نظام الثورة بالمغرب.

كانت جبهة التحرير آنذاك بصدد تأسيس اتحاديتها هناك، على أنقاض نواة سابقة، كانت تحمل اسم "ودادية الجزائريين".. وما لبث أن أنشأت تنظيما على امتداد المغرب، يمتد جنوبا حتى أغادير، قوامه شبكات من الخلايا السرية، بكل منها عنصران، مهمتهما الرئيسية جمع الأسلحة.

وغداة استقلال المغرب - في 2 مارس 1956 - تدعم نظام الجبهة بمراكز جيش التحرير المغربي التي وضعت تحت تصرفها، فضلا عن كميات هامة من الأسلحة.

وكان جيش التحرير المغربي قد أبرم صفقة متفجرات، لكنها وصلت بعد استقلال المغرب بأشهر، فحولت إلى جيش التحرير الوطني. وتم استقبال الباخرة الناقلة بميناء الحسيمة، مساء اختطاف طائرة الوفد الخارجي لجبهة التحرير في 22 أكتوبر 1956. وكان على متنها 70 طنا من مادة "الشديت" وكميات من الصواعق وفتائل التفجير.

وقد أدخلت إلى الجزائر كميات هامة من هذه المواد، بواسطة شاحنات الخضر القادمة من المغرب، استعملت في العمليات الفدائية التي هزت العاصمة وبعض المدن الكبرى الأخرى، أواخر السنة وبداية السنة الموالية.

أصبح بوداود - الذي اتخذ اسما حركيا هو منصور - في تلك الأثناء مساعدا للدكتور إدريس قنيش، مسؤول الإمداد والتموين في نظام الجبهة بالمغرب.. وكان إلى جانب ذلك يشرف على مركز خميسات الذي كان يومئذ يستقطب المتطوعين والمجندين السابقين - في جيش الاحتلال - لتكوينهم معنويا وتدريبهم على مبادئ الحرب الثورية، قبل التحاقهم بجيش التحرير داخل الجزائر.

وقد أرسلت أعداد من هؤلاء إلى المنطقة الصحراوية من الولاية الخامسة، وهي المنطقة الثامنة التي كان على رأسها سي إبراهيم (بن علي بودغن) الذي اشتهر لاحقا باسم العقيد لطفي.

سألنا سي منصور عن نواة الصناعة الحربية التي ظهرت في كل من المغرب وتونس، فجاء جوابه متضمنا جملة من العناصر نذكر منها:

- إن المبادرة الأولى صدرت عن مجموعة من الطلبة، استطاعت أن تقلد نموذج قنبلة يدوية، وعبرت عن استعدادها لتصنيعه. وقد طرح الأمر على كل من بوالصوف وبومدين فلم يتوانيا في تشجيع المبادرة..

- تطورت المبادرة لاحقا، بعد الاستعانة بخبراء أجانب، استقدمتهم الجبهة - عن طريق اتحادية فرنسا - بواسطة أنصار القضية الجزائرية من التروتسكيين خاصة..

- إن معامل السلاح بالمغرب كانت تموه بنشاط مواز: تكوين الجنود المعطوبين مهنيا، في صناعة على الملاعق والشوكات!

وقد أنتجت هذه المعامل أنواعا من القنابل والقذائف والمسدسات والرشاشات والبنادق، فضلا عن الراجمات من "بازوكا" و"هاون" و"مورتي".

بومدين.. "التلميذ الذي تفوق على أستاذه"!

جعل بوالصوف من بومدين خليفته على رأس الولاية الخامسة ابتداء من خريف 1957، كما جعل منه - بمساعدة بن طبال - قائدا لهيئة الأركان العامة في يناير 1960، بدل العقيد السعيد محمدي مرشح كريم لنفس المنصب.. لكن العقيد بومدين ورث عن معلمه كذلك روح النظام والانضباط والتفاني في العمل، فضلا عن احترام الكفاءات والتعامل معها بما تستحق من الرعاية والتقدير.

وبفضل هذا الموروث استطاع أن يجعل من الولاية الخامسة حصان طروادة، في مسعاه لمكانة خاصة تحت الأضواء، قبل أن يتخذ من الأركان العامة وجيش الحدود حصان طروادة إلى الحكم باختصار.

وحسب سي منصور أن بومدين لم يتخل عن الولاية الخامسة أبدا، وظل يشرف عليها حتى بعد أن أصبح قائدا للأركان العامة.

وقد لازمه في أركان الغرب - منذ مرحلة قيادة العمليات العسكرية (كوم) - ملازمة الظل لصاحبه ثلاثة مساعدين هم: عبد العزيز بوتفليقة، أحمد مدغري، بلقاسم الشريف.

وكان بومدين يجمع بين الدهاء السياسي وحسن التدبير التكتيكي، فضلا عن حس دقيق في الملاحظة، جعله يتبين نقاط ضعف جميع المسؤولين، سواء كانوا من صفه أو من خصومه.

وكان ماهرا في التضليل كذلك. ويذكر سي منصور في هذا الصدد، أنه غداة قرار مجلس الثورة في يناير 1960، دخول معظم كبار المسؤولين في الحكومة والجيش إلى ميدان الكفاح داخل الجزائر، جاءه بومدين قائد الأركان العامة الجديد، وطلب منه أن يشتري له لباسا عسكريا وأدوات الميدان كالبوصلة والمنظار.. ويقول الشاهد في هذا الصدد إنه وفر له ما يريد، وهو على يقين تام بأن بومدين لم يكن يريد دخول الجزائر آنذاك، كان يهمه فقط أن يشيع سي منصور بأنه عازم على ذلك!

بعض المسؤولين - ومنهم مناضلون قدامى - اكتشفوا مبكرا تطلع بومدين المرضي إلى الحكم، وتوجسوا خيفة من ذلك.. ولعل المناضل حسين قديري كان واحدا من هؤلاء. إذا وضعنا في هذا السياق ما صرح به لنا حوله سي منصور: لقد اتهم بمحاولة تسميم بومدين، وعلقت بسبب ذلك عضويته في مجلس الثورة!

سي منصور نفسه لمس هذا التطلع خلال اجتماع بالناظور، ترأسه بومدين واستغرق الليل كله تقريبا. فقد انفرد به عقب الاجتماع ليروي له طرفة خلاصتها أنه سيقف وحيدا في وجه الجميع، رغم البشر والطبيعة، وكل القوى المرئية والغيبية!

عندما قابل سي منصور بوالصوف بعد هذا الاجتماع، نبهه قائلا: "أخونا يتطلع إلى أخذ الشاة منكم!" فلم يأخذ تنبيهه ذاك مأخذ الجد، وقال له بنوع من الاستخفاف: "ذرك من ذاك الراقد!".

ويعلق الشاهد على ذلك بقوله: بعد الاستقلال بعدما أصبح بوالصوف يذرع شوارع تونس وأنا أذرع شوارع المغرب، التقينا ذات يوم فذكرته بالحادثة.

وأضفت بالمناسبة: "ترى من هو الراقد؟! أأنت أم بومدين؟!".

كيف أفلت الشيخ بوزوزو.. من قبضة الجبهة

سألت سي منصور عن محاولات تموقع الحركة المصالية - المناوئة لجبهة التحرير الوطني - في المغرب ومصيرها. وكان بذهني اختفاء بعض رموزها هناك أمثال العربي أولبصير ومحمد الصغير بالبقرة.. ونجاة محمود بوزوزو من نفس المآل بأعجوبة..

ويقول محدثنا في هذا الصدد أنه ورفاقه تلقوا في غضون 1956 أمرا باعتقال كل مصالي يحاول زرع الحركة في المغرب.

وفي هذا الإطار تم إيقاف المحامي والقيادي بالبقرة، وإرساله إلى قيادة الولاية بوجدة. وكان ذلك في خريف نفس السنة.

وبعده لقي نفس المصير محمود بوزوزو مدير "المنار" ومرشد الكشافة الإسلامية سابقا.. واكتشفنا بالمناسبة أن سي منصور كان على سابق معرفة بالشيخ وله معه قصة طريفة..

كان يعرفه من زمن الكشافة الإسلامية في الأربعينيات من القرن الماضي، وسافر معه في مهمة خاصة - جدا! - سنة 1955 إلى "مونترو" بسويسرا.. خلفيات هذه المهمة أن شخصية "ليبرالية" من الولاية العامة، كانت تبحث عن عناصر جزائرية للمشاركة في مؤتمر لتنظيم عالمي، يعرف باسم "منظمة التسلح المعنوي"..

وعلم عمر أوصديق نائب أوعمران - قائد المنطقة الرابعة - بذلك، فكلف سي منصور بالانضمام إلى هذه العناصر، بهدف جمع ما أمكن من المعلومات حول هذا التنظيم. وهكذا وجد نفسه مع الشيخ بوزوزو وشخصيات أخرى، يتذكر منها عبد القادر وڤواڤ وإبراهيم أوبوزار، وأحد المقربين من الحاج مصالي.

انعقد المؤتمر بضواحي مونترو، حيث وجد مناضل جبهة التحرير في استقباله أحد عناصر هذا التنظيم الذي لازمه كظله منذ تلك اللحظة، وكان يتقاسم معه نفس الغرفة - إقامة ومبيتا - طوال أسبوعين كاملين!

تحول المؤتمر إلى نوع من التربص المغلق الذي يستهدف تلقين المشاركين مبادئ وتعاليم محددة، حسب برنامج يومي مكثف.. تستغل فيه حتى فترات تناول الطعام.. فقد كان سي منصور مثلا يفطر مع الأمريكان، ويتغدى مع الألمان، ويتناول شاي الخامسة مع الإنجليز، والعشاء مع الفرنسيين.. وهكذا دواليك!

بل كان يلزم كل مساء بمشاهدة مسرحية بعنوان "فريدم" (الحرية).

وعرف حينها أن مؤسس "التسلح النووي" يدعى الدكتور "بيكمان"، وأن المنظمة تحرم بعض السلوكات مثل التدخين وشرب الخمر.. وكان الشيخ بوزوزو حريصا على تطبيق هذه المبادئ، فقد فاجأ سي منصور وهو يدخن سيجارة بأيكة مجاورة لمكان التربص، فنهره على ذلك!

وأكثر من ذلك تدخل الشيخ أمام التجمع بكلمة فيها كثير من المسكنة والاستعطاف للفرنسيين، حتى أوشك على البكاء! عكس الجنرال كاترو الذي انتقد سيادة بلاده التي اختارت سبيل القوة بدل الحوار والتفاوض.

ولهذا التنظيم مندوبون دائمون عبر العالم، ويستقبل المنتمون إليه أينما حلوا بكل حفاوة.

وحسب الشاهد أن الشيخ بوزوزو أصبح دائما في هذا التنظيم، وأفاد الحركة المصالية بذلك حين أرسلته إلى نيويورك، لمنافسة ممثلي جبهة التحرير في أروقة الأمم المتحدة.

وفي غضون 1957 بلغ بوالصوف أن الشيخ يتردد على المغرب، وأنه يقيم عادة عند شقيقه بضواحي مراكش، فأمر سي منصور ورفاقه باختطافه في أول فرصة.

كان سي منصور مكلفا بالتسليح في المغرب، لكنه إلى جانب ذلك كان يقود مصلحة لمطاردة المناوئين للثورة أيضا.. فلما كلف بالمهمة أبلغ بذلك عناصره في مراكش.. فقامت بتنفيذ المهمة على جناح السرعة، حتى أنها جاءت بالشيخ إلى الرباط في ثياب النوم!

تم إيداع الشيخ في دار للجبهة هناك، فلما دخل عليه سي منصور اطمأن بعض الشيء، فتساءل ما هذا يا منصور؟!

حاول أن يهدئ من روعه قائلا: كل ما في الأمر أن قيادة الولاية طلبتك لإرشاد الجنود ورفع معنوياتهم.. غير أن هذا التطمين لم يكن مقنعا، لتنافي المهمة مع طريقة الاختطاف.

حبس الشيخ بعض الوقت في وجدة، رفقة عمر بن بولعيد ورفيق له يدعى النقيب مصطفى.. وبعد فترة تمكن هذان من مخادعة الحارس وتجريده من سلاحه، والهروب لوضع أنفسهم تحت الحماية المغربية.. وكانت الجبهة قد أبرمت اتفاقا مع السلطات المضيفة، تلتزم بموجبه عدم اعتقال أو الإساءة لأحد من خصومها فوق التراب المغربي.. على أن تتكفل هذه السلطات بإبعاد المناوئين للثورة وتحييدهم.

وقامت فعلا بإبعاد الشيخ بوزوزو وبن بولعيد خارج المغرب.. وبذلك نجيا من مصير أولبصير وبالبقرة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)