من الشِّعر الإلهي الرائع هذه العينيَّة الجميلة المؤثِّرة التي تفيضُ بالحب والصَّفاء، والضَّراعة والدعاء، والتودُّد والابتهال، والعُذوبة والصدق، واستِدرار العَطف، والجمال في السبك، يقول الإمام عبدالرحمن بن عبدالله السهيلي:
يَا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ
أَنْتَ المُعَدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ
يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا
يَا مَنْ إِلَيْهِ المُشْتَكَى وَالمَفْزَعُ
يَا مَنْ خَزَائِنُ رِزْقِهِ فِي قَوْلِ (كُنْ)
امْنُنْ فَإِنَّ الخَيْرَ عِنْدَكَ أَجْمَعُ
مَا لِي سِوَى فَقْرِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ
فَبِالاِفْتِقَارِ إِلَيْكَ فَقْرِي أَدْفَعُ
مَا لِي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيلَةٌ
فَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ
وَمَنِ الَّذِي أَدْعُو وَأَهْتِفُ بِاسْمِهِ
إِنْ كَانَ فَضْلُكَ عَنْ فَقِيرِكَ يُمْنَعُ
حَاشَا لِفَضْلِكَ أَنْ يُقَنِّطَ عَاصِيًا
الْفَضْلُ أَجْزَلُ وَالمَوَاهِبُ أَوْسَعُ[1]
("وقفات مع الأبرار" فقرة 48، نقلاً عن "بغية الوعاة" ص299، و"حياة الحيوان" 1/45، و"وفيات الأعيان" 2/323).
نداءٌ لله متكرِّر مفعم بالضراعة والانخِلاع من كلِّ قوَّة وحِيلة ووسيلة، إنَّه يناجي ربَّه هذه المناجاة الرائعة يُثنِي عليه فيها ويُنادِيه بصِفاته العُظمى ويقول: كيف للعاصي أنْ يُخفِي عن ربِّه ما اقترفَتْ يداه؟ أنَّى له أنْ ينجو! إنَّه - سبحانه - يعلَمُ ما في الضمير الذي لا يبدو منه للناس شيءٌ في سلوك المرء وتصرُّفاته.
إنَّه - سبحانه - يسمَع حديثَ هذا الضمير الذي لا تسمَعه أذنَا صاحبه، إنَّه - سبحانه - ﴿ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5].
إنَّه - سبحانه - يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، ولا يفلتْ منه أحدٌ، وسيُجازِي كلاًّ بما عمل؛ ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [العنكبوت: 4].
إنَّه - سبحانه - يعلم السرَّ وأخفى، ويعلَم ما توسوس به نفس الإنسان.
يَا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ
أَنْتَ المُعَدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ
أنت الذي يُستعان به في كلِّ ما يُتوقَّع من أحداث، وأنت وحدَك القادر على إزالة الضرِّ ومنح السعادة ومغفرة الذنوب، أمرتَنا ألاَّ نستعين إلا بك وحدَك، ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] فأَعِنَّا يا ربَّنا.
والحقُّ أنَّ الذي يستعينُ بالله هو الفائز؛ لأنَّه يستعينُ بقوَّةٍ لا يعتَرِيها ضعف ولا زَوال، فهو - سبحانه وتعالى - على كلِّ شيء قديرٌ، وهو حيٌّ لا يموت، ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58].
إنَّ شَدائد الحياة كثيرةٌ كثيرة، تعجزُ في كثيرٍ من الأحيان قُوَى المرء بل قُوَى البشر عن عِلاجها والتغلُّب عليها، وتَبقَى قوَّة الله العليِّ القادر هي التي لا تستَعصِي عليها شدَّةٌ مهما عظُمت.
يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا
يَا مَنْ إِلَيْهِ المُشْتَكَى وَالمَفْزَعُ
فلا مَلجَأ ولا مَنجَى من الله إلا إليه، ولا مَفزَع إلا إليه.
وإذا كانت لي حاجةٌ في هذه الدنيا فإلى مَن أتوجَّه لقضائها؟ إنَّني لن أتوجَّه بها إلا إليك يا الله؛ لأنَّك أمرتَنِي بذلك، ولأنَّني أعلَمُ أنَّ الناس كلَّهم فُقَراء، وأنت الغني الرزَّاق ذو القوَّة المتين، وأعلَمُ أنَّ ملكَهم للمال والقوَّة ملكٌ مؤقَّت محدود، وأنَّ أموالهم سرعان ما تَزُول عنهم، وأعلَمُ أنَّ خَزائنك يا إلهي لا تنفَدُ، ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [النحل: 96]، وأنت الوهَّاب الرزَّاق، وإذا أردت أمرًا قلت له: كُنْ، فيكون، فامنُن عليَّ فإنَّ الخير كلَّه عندك يا أرحم الراحمين.
ثم يقول: إنَّ فقري إليك هو وسيلتي الوحيدة إليك، فإنَّني بهذا الافتقار إليك أدفَعُ فقري، وليس لي حيلةٌ إلا اللجوء إليك يا سيِّدي، فإنْ رددتني عن بابك فليس هناك بابٌ أقرعه، ولكنْ حاشا لفضلك أنْ يُقنِّط عاصيًا، ففضلُك جزيلٌ، وإنعامك جليل، ومَواهبك كثيرة، سُبحانك لا أُحصِي ثناءً عليك.
ويحسن أنْ أورد ترجمةً موجزة للإمام السهيلي فيما يأتي [2]:
هو عبدالرحمن بن عبدالله بن أحمد الخثعمي السهيلي، والسهيلي نسبةً إلى بلدته (سهيل) وهي قريبةٌ من (مالقة)، وذكَر الذهبي أنَّ البلدة سُمِّيتْ بذلك لأنَّه لا يُرَى (سهيل) النجم المعروف في جميع بلاد الأندلس إلا من جبلٍ مطلٍّ على هذه البلدة.
تلقَّى العلم في بلَدِه، وحَفِظ القُرآن ومتونَ العلم المختلفة، وقد نشأ في أسرة علمٍ وفضل؛ فأبوه خطيبٌ وعالم، وجدُّه كذلك خطيبٌ وعالم، وخالُه محمد بن خير صاحب الفهرست الشهير كذلك عالم، كما ذكَر ذلك الحافظُ العراقيُّ في كتابه "الباعث الحثيث".
ولَمَّا بلغ السابعة عشرة من عمره فقَدَ بصَرَه، وما زال يجدُّ في طلبه العلمَ حتى أصبح عالمًا جليلاً في العربيَّة والقراءات والنحو والتفسير والحديث والفقه والأصول والتاريخ، وكان شاعرًا مُجِيدًا مُكثِرًا.
وكان يعيشُ في بلده عيشة ضِيق، ولكنَّه كان عفيفَ النفس، يتبلَّغ بالكَفاف إلى أنْ طلَبَه سُلطان مُرَّاكش، فذهب إليه فأكرَمَه ونال عنده حظوةً، وأقامَ فيها نحو ثلاث سنين، وصنَّف فيها عددًا من كتبه ومات فيها.
ولي قضاءَ الجماعة فحمدتْ سِيرته، وكان سكن إشبيلية مدَّة.
ومن أساتذته أبو بكر بن العربي القاضي المشهور، وابن الطراوة وعنه أخَذ العربيَّة.
ومن تلامذته أبو الحجاج بن الشيخ، والحافظ أبو محمد القرطبي، وأبو الحسن بن السراج.
تُوفِّي بمُرَّاكش سنة 581، رحمه الله رحمةً واسعة.
من كتبه: "الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام"، و"مسألة السر في عور الدجال"، و"التعريف والإعلام فيما أبهم في القُرآن من الأسماء والأعلام"، و"مسألة رؤية الله والنبي في المنام".
و"شرح كتاب الجمل" (ولم يتمَّه)، وكتاب الجمل للزجاجي عبدالرحمن بن إسحاق المتوفَّى سنة 339هـ، وقد ذكَر إسماعيل باشا في كتابه "هدية العارفين" عددًا آخَر من كتبه.
ومن شِعره هذه الأبيات التي قالها عندما مَرَّ ببلدته سهيل بعدما خرَّبَها الأعداء وقتلوا أهله وأقاربه الذين كانوا فيها، وكان هو غائبًا عنها، فوقف وقال:
يَا دَارُ أَيْنَ البِيضُ وَالآرَامُ
أَمْ أَيْنَ جِيرَانٌ عَلَيَّ كِرَامُ
رَابَ المُحِبَّ مِنَ المَنَازِلِ أَنَّهُ
حَيَّا فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ سَلاَمُ
لَمَّا أَجَابَنِيَ الصَّدَى عَنْهُمْ وَلَمْ
يَلِجِ المَسَامِعَ لِلْحَبِيبِ كَلاَمُ
طَارَحْتُ وُرْقَ حَمَامِهَا مُتَرَنِّمًا
بِمَقَالِ صَبٍّ وَالدُّمُوعُ سِجَامُ
يَا دَارُ مَا فَعَلَتْ بِكِ الأَيَّامُ
ضَامَتْكِ وَالأَيَّامُ لَيْسَ تُضَامُ
[1] قال ابن دحية: أنشدني وقال: إنه ما سأل الله تعالى بها حاجة إلا أعطاه إياها، وكذلك مَن استعمل إنشادها.. "وفيات الأعيان" 2/323.
[2] انظر في ترجمته؛ المراجع الآتية:
["إنباه الرواة" 2/162- "البداية والنهاية" 12/319- "بغية الوعاة" 2/81- "تذكرة الحفاظ" 4/1348- "الديباج المذهب" 150- "شذرات الذهب" 4/271- "طبقات القراء"؛ لابن الجزري 1/371- العبر 4/244- "مرآة الجنان" 3/422- "نكت الهيمان" 187- "وفيات الأعيان" 2/323- "طبقات المفسرين" 1/266].
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 01/11/2014
مضاف من طرف : soufisafi
المصدر : www.alukah.net