الجزائر

من‮ هم‮ الذين‮ يدوسون‮ الشهداء،‮ ويبيعونهم‮ لجلاديهم‮ بلا‮ ثمن؟‮!‬



من‮ هم‮ الذين‮ يدوسون‮ الشهداء،‮ ويبيعونهم‮ لجلاديهم‮ بلا‮ ثمن؟‮!‬
كلما طالعتنا بعض الصحف بكتابات تتعامل مع تاريخنا الوطني كما يفعل من يُدبّج رواية يستوحي نسيجها من خياله المعطاء، فيُصرّف حوادثها كما يشاء له هواه، ويحرك أشخاصها بما قرر لهم من أنواع السلوك، لتبليغهم الغايات التي رسمها لهم في سابق تخطيطه.. كلما كان ذلك.. ألحّ علينا سؤال مُحيّر لا نجد له جوابا، هو: أين المؤرخون الجزائريون؟ أين كل أولئك الذين درسوا التاريخ، ودرّسوه لأجيال من الطلبة والمتعلمين؟ أين الذين تخصصوا منهم في حق التاريخ الوطني؟ أين المؤرخون الوطنيون، النزهاء، الغيورون على الحقيقة والموضوعية؟..
* أولئك الذين يستطيعون أن يُنيروا للناس بعضا من دروب تاريخهم التي أخذت تغزوها، في السنوات الأخيرة، فئات من هواة المخربشين، ومحترفي "الكتابجية"، وجماعة ممن قد يجيدون الكتابة فيما هو من اختصاصهم، أو فيما هو قريب منه؛ ولكنهم حين يحشرون أقلامهم في مضائق كثيرة المهاوي والمزالق، بلا عٌدّة من علم موثق، ولا عتاد من خبرة موثوقة، فإنهم حينئذ يخبطون في تلك المجاهل كلها خبط عشواء، ويزداد الحيف الذي يحيق بالأمة في غياب، أو غيبوبة تام لأولئك المتخصصين الذين يملكون إرشاد الضالين، وتوجيه التائهين في فيافي العنصرية البدائية، والتطرف‮ الشعوبي‮ المقيت،‮ ولكنهم،‮ للأسف،‮ نادرا‮ ما‮ نراهم‮ يحركون‮ ساكنا‮ أو‮ يدلون‮ برأي‮ يحق‮ الحق،‮ ويُبطل‮ الباطل‮.‬
من أمثلة ما أثير في الأيام الماضية، من هذه المواضيع، قضايا كثيرة لا أريد أن أقف إلا عند واحدة منها هي تلك التي تتصل بالتعاليق التي صدرت عن بعض الناس بخصوص تصريحات المسؤولين الأتراك المتعلقة بمجازر فرنسا في الجزائر.

الثورة‮ الجزائرية‮ وشهداؤها
رصيد‮ معنوي‮ وأخلاقي‮ للإنسانية‮ جمعاء‮!‬
كانت الثورة الجزائرية حدثا عالميا عظيم المعاني والدلالات؛ أقلها أنها أذنت بتصفة وشيكة، ونهائية، للظاهرة الاستعمارية في العالم. وقد اتخذت منها الإنسانية قاطبة، في كل ركن من أركان المعمورة، رمزا لما تطمح إليه، في أواسط القرن العشرين، من التحرر، والعدالة، والكرامة، والسيادة التامة على أوطانها.. وإذا كانت الشعوب الواقعة تحت حكم الهمجية الاستعمارية قد أسرعت إلى التعبير المدوّي عن التعاطف مع نضال الشعب الجزائري، والتضامن معه بكل ما تستطيع، فإنه لا أحد ينكر أن فئات واسعة من الأحرار في العالم، حتى من مواطني البلدان التي هي أقطاب للاستعمار والامبريالية؛ بل حتى الأحرار من مواطني الدولة الفرنسية الاستعمارية نفسها، كانوا من أنصار ثورتنا، وقدموا لها من التأييد المعنوي، والإعلامي، والمادي، ما لاينكره إلا الجاحدون.. وهكذا يتضح أنه صار بإمكاننا أن نستخلص مما تقدم، موقفين اثنين،‮ لا‮ نظن‮ أن‮ عاقلا‮ يُمارس‮ فيهما‮.‬
أحدهما أنه ليس بإمكان الجزائريين أن يفخروا - وحق لهم ذلك- بأن كفاحهم الوطني رصيد للإنسانية كلها، صاغوه بتضحياتهم القصوى، وشيّدوا قواعده الصلبة بهامات الملايين من الشهداء، وانهار من دماء المجاهدين، على امتداد قرن وثلث من التنكيل والقمع والتقتيل.. ثم ينكرون على واحد من قادة دولة إسلامية كبيرة أن يستمد من ذلك الرصيد الإنساني بعض قيمه الخالدة، ليرد بواسطته على نظام حكم مارق، لدولة استعمارية، ارتكبت في تاريخها الطويل من الجرائم والجنايات في حق البشر ما كان كفيلا بأن يشغلها عن تاريخ الآخرين كيفما كان.
ثمّ، وفيما عدا هذا، هل من أحد يقول لنا ماهو المنطق الذي يقبله عاقل، أو يرضاه فكر سليم، يُجيز لنظام الحكم في فرنسا (ولبرلمانها الذي يُشرّع لعقيدة "إيجابية الاستعمار الفرنسي" للشعوب التي عانت ويلاته عقودا طويلة من السنين..)، أن يكون له الحق في تجريم تاريخ العثمانيين، وتحميل أحفادهم أعباءه السياسية، في شأن لا تشكل تفاصيله كلها إجماعا بين المؤرخين.. ثم إن هذا الشأن يهمّ، في النهاية، الأرمن دون غيرهم.. أم أن الديماغوجية الانتخابية، بما تدفع إليه من المطامع في الحصول على أصوات ذوي الأصول الأرمنية من الفرنسيين، تبيح‮ كل‮ محظور‮...‬
وأيا ما يكون الأمر، فإنه من المدهش أن هذا المنطق الأعرج، لايثير لدى بعض الجزائريين أي نوع من الشجب أو الاستنكار، ولكن ينكر على القيادة التركية حقها المشروع في تذكير رئيس الفرنسيس، وبرلمانهم، بما ارتكبوه من جرائم قلّ نظيرها في دنيا الناس، وهي التي مازالت دماء ضحاياها، إلى يوم الناس هذا، تخضّب أيدي الأحياء من مجرميهم، وتنتصب شواهد للعار والنذالة فوق قبور جنودهم وضباطهم الجبناء.. ومازالت عصابات إرهابيي ما يسمونه "منظمة الجيش السري" (O.A.S) تحيي ذكرى القتلة المجرمين، وتقيم لهم الأنصاب والتماثيل... (دون رد فعل جدي، لا من الجهات الرسمية، و لا من المنظمات المدنية المعنية.. بل إن مبادرة من بعض النواب الجزائريين لتجريم الاستعمار الفرنسي قوبلت بالرفض الشديد، وتم القضاء عليها في المهد صبيّه..) كل هذا وبين بلادنا وبلاد/ رجب الطيب أردوغان/، رئيس الحكومة التركية، من القرابة،‮ والوشائج،‮ والصلات‮ الحضارية‮ والتاريخية‮ العميقة‮.. ما‮ لا‮ نظير‮ له‮ بين‮ حكام‮ فرنسا‮ والشعب‮ الأرمني‮.. ومن‮ يزعم‮ أنه‮ مُحبّ‮ للنظافة،‮ فإن‮ عليه‮ أن‮ يبدأ‮ بالكنس‮ أمام‮ بابه‮..‬

ومنذ‮ متى‮ صرنا‮ للفرنسيس‮ محامين؟‮!‬
أما ثاني الموقفين فيطرح تساؤلا خطيرا للغاية، لو كان في البلد مظهر، ولو ضئيل، لحياة سياسية، أو نشاط حزبي فعلي، لما أمكن تغييبه أو تلافيه، والتساؤل هو لماذا يسارع أحد المسؤولين الجزائريين إلى تزكية الغطرسة الفرنسية باتهام رئيس الوزراء التركي بأنه يتاجر بالشهداء الجزائريين؟.. ولكنه لا يلوم الفرنسيين على متاجرتهم في السوق السوداء بمصائب الشعب الأرمني. ثم إن للأرمن دولة تدافع عنهم متى شاءت. وأية سياسة هذه التي تُبيّض وجه المستعمر الكالح، وتقدّم خدمة جليلة، (لا أحد يعلم ثمنها الحقيقي)، لدولة تبتلي السلطة فيها كل يوم‮ إخواننا‮ المغتربين‮ بألوان‮ من‮ المتاعب،‮ والمصائب،‮ والمنغصات‮ التي‮ يخترعها‮ التطرف‮ الإسلاموفوبي،‮ بكل‮ روافده‮ الصهيونية‮ واليمنية‮ الفاشية‮.. لكل‮ المسلمين‮ الفرنسيين‮ بلا‮ تمييز؟‮!‬
لقد كان أجدر بالمسؤولين الجزائريين أن يتأملوا طويلا التناقض الصارخ في الموقف الفرنسي فهم، (الفرنسيون)، من جهة يحيون جراح الأرمن المتقادمة، ويطالبون بالاعتذار لهم من نظام حكم، في تركيا الآن، مختلف أشد الاختلاف عن النظام العثماني الذي يحمّلونه مسؤولية الحوادث التي أصابت الشعب الأرمني قبل ما يقرب من مائة سنة!.. ولكنهم يرفضون، هم، الاعتذار للشعب الجزائري على جرائم لم يمض على آخرها خمسون سنة.. ويقول رئيسهم إنه لم يعشها شخصيا، ولم يكن وقتئذ في الحكم.. بل يذهب بعض مساعديه الأقربين، في جسارة لافتة للانتباه، إلى نصح الجزائريين ب "إحياء الذكرى الخمسين" لاسترجاع سيادتهم الوطنية "باعتدال"!.. ويقرر لهم بأنه عليهم أن يتوجهوا نحو المستقبل، وأن يتركوا النظر إلى الوراء.. هذه "الهدرة"، وأمثالها، تنطق بها ألسنة لاتراعي لنا ذمة ولا عهدا، دون أن تصدم أحدا في سدة الحكم الرشيد.. بل‮ إنها‮ لتجد‮ من‮ يناصر‮ أصحابها‮ في‮ تهويماتهم‮ الدولية،‮ وخزعبلاتهم‮ العالمية‮!!‬
وعلى فرض أنه ربما كانت هناك صفقات لايعلمها الجزائريون، (وإن لم يكن من الصعب تصور طبيعتها، ونحن على مرمى البصر من موسم الصفقات الداخلية والخارجية..)، صفقات تبرر لمسؤولينا أن يسكتوا على حماقات "دنخيشوطية" أسخطت الوطنيين الذين لايمكن لهم أن ينسوا، ما حيوا، تاريخا داميا من المجازر الرهيبة التي لم ينج منها شبرّ في الوطن، وهي التي من حقها أن توصف بالإبادة الجنسية، ولكن الذي لايمكن لا فهمه ولا قبوله هو أن ينصّب المسؤولون المعنيون أنفسهم قضاة، يدينون الصديق التركي، الذي لم نر منه، كجزائريين، إلى حد الآن ما يؤذي، ويبحثون‮ له‮ في‮ التاريخ‮ المشترك‮ بيننا‮ عما‮ يعين‮ مستعمرنا‮ القديم‮ عليه‮. وكان‮ من‮ أفظع‮ المغالطات‮ التاريخية‮ تلك‮ الإشارة‮ إلى‮ أن‮ الأتراك‮ قتلوا‮ أيضا‮ الجزائريين‮.‬
وهنا كان واجب المؤرخين يفرض عليهم أن يعيدوا المسؤول الجزائري إلى رشده، ويعلموه ما فاته من حقائق تاريخ بلده، إن كان قد نسيه، أو كان لها من الجاهلين.. فمن الحقائق التي ينبغي أن يعلمها شباب الأمة أن الأتراك العثمانيين لم يأتوا إلى الجزائر المحروسة، في بداية أمرهم فيها، لا غزاة، ولا فاتحين. وإنما أتوا إليها منقذين ومحررين من جيوش الإسبان الذين بدأوا يحتلون أطرافا من الأراضي في المغرب العربي، بمجرد أن استقووا بضعف المسلمين على ضفتي البحر، في الأندلس، وفي بلاد المغارب.. فاحتلوا مدينة تطوان عام 1400م. (قبل سقوط الأندلس ب 92 عاما) واحتل البرتغاليون مدينة سبتة عام 1415م. (ومازالت هي ومليليا محتلتين إلى يومنا من طرف إسبانيا) وسقطت "مرسى الكبير" سنة 1505، وبعدها بقليل مدينة وهران؛ ثم مدينة بجاية عام 1510، ومثلها عنابة في العام نفسه. وخضعت العاصمة وفاوضت عام 1911 إلخ..‮ وكان‮ واضحا‮ أن‮ الإسبان‮ يريدون‮ استعادة‮ المغرب‮ العربي‮ كله‮ لأوربا‮ والديانة‮ المسيحية‮ لتلافي‮ كل‮ خطر‮ يمكن‮ أن‮ يداهمهم‮ منه‮ مرة‮ أخرى‮ في‮ مستقبل‮ الأيام‮..‬
وقد كان من حسن حظ بلادنا أنها لم تخل يوما من الرجال الأفذاذ، المخلصين لهذا الوطن وقيمه الراسخة، ومثله العليا. فقد كان من حسن تقديرهم للأوضاع أن اقتنعوا سريعا بأن ميزان القوى راجح، بشكل مفرط، لجهة الإسبان، وأن الجزائريين لا قبل لهم وحدهم برد الغزو الصليبي الإسباني الذي سيجتاح المغرب العربي كله، (فقد وصلت سفنه الحربية إلى طرابلس الليبية)، فاتفق أهل بجاية، وقسنطينة، والجزائر وغيرها.. على إرسال وفود من أعيانهم وعلمائهم لطلب مساعدة مجاهدين عظيمين شاع صيتهما في مجالات "جهاد البحر" التي يسميها الأوروبيون "القرصنة" وهما القائدان خير الدين وعروج، وكان من لطف الأقدار أن استجابا بسرعة وبدأت معركة طاحنة طويلة بين الجزائريين، بقيادة العثمانيين، والجيوش الإسبانية العازمة على احتلال بلداننا.. وقد دامت المعركة قرونا أبلى فيها الجميع خير البلاء بعد أن انضمت إليهم الخبرات الأندلسية‮ النازحة‮.‬
وكما هو شأن الحكام في كل حقب التاريخ، لم تكن روح الجهاد ومثله العليا وهي التي سادت في كل الأزمان، بل إن تقلبات الظروف التي تأتي بحكام مختلفين هي التي تحيد بهم نحو التسلط والظلم والبطش.. وما وقع لنا من بايات ودايات العثمانيين، قد وقع مثله، بل أشد منه، في بلاد الأناضول نفسها. وكان مثله ونظيره قد صدر عن الحكام العرب، والبربر، (المرابطون والموحدون عبروا إلى الأندلس لإنقاذها من هجوم الملوك المسيحيين، فأنقذوها فعلا، وأمدوا في عمرها العربي الإسلامي، ثم احتلوها، وفعلوا فيها مايفعل الملوك! والشاهد ماجاء في الذكر الحكيم - (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون)- (النمل 34). ولكن ما فعله فينا ملوك الفرنسيس وسوقتهم فوق ما فعله كل الآخرين، ذلك أن بطشهم تجاوز الأجسام إلى العقول!! وقد ينسى المرأ ما لحقه من الأذى المادي، بعد فترة، ولا ينسى الأذى‮ المعنوي،‮ أبدا،‮ ما‮ بقي‮ على‮ قيد‮ الحياة‮! وقد‮ يحمل‮ أصداء‮ منه‮ إلى‮ أخراه‮!!‬
* madrasala@hotmail.‬com


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)