الجزائر

من حرية التعبير إلى حرية التطهير



من حرية التعبير إلى حرية التطهير
اهتزت فرنسا مؤخرا على وقع هجوم مسلح أودى بحياة مجموعة من صحفيي جريدة "شارلي إيبدو" الذين اتخذوا من السخرية اسلوبا للتعامل مع الأحداث والتعليق على الأشخاص ، ولعل التساؤل الذي يتبادر إلى الذهن هو :هل يُقتل الصحفي في عصرنا من أجل سخرية أو دُعابة لم يستسغها البعض ؟ فهي مجرد رسومات كاريكاتورية هزلية لا تتطلب سوى ابتسامة عابرة للترويح عن النفس والتقليل من الاحتقان الذي يسود العلاقات بين الناس ويساهم في تلطيف الجو السياسي الذي يزداد تلوثا يوما بعد يوم .إنها المسافة القريبة البعيدة بين القتل والهزل والتي يمكن أن نختصر فيها المسافة بين ثقافتين كانتا ولا تزالان في صراع مستمر اتخذ أشكالا وألوانا مختلفة بدأت بحروب صليبية شرسة وانتهت بهجوم لا يقل شراسة ودموية، فالسخرية القاتلة هي في الحقيقة نتيجة تراكمات حضارية تعكس منزلقا خطيرا لما يسميه البعض (حوار الحضارات) ونهاية مأساوية جمعت بين التطرف الديني والتطرف الإعلامي، فإطلاق الرصاص على يد لا تحمل سوى قلم رصاص يبدو أمرا في غاية الخطورة والتهور، ولعل شدة اسفنا لهذه الواقعة الخطيرة لا يعادله سوى شدة استنكارنا لما آلت إليه (حرية التعبير) التي دافعت عنها الإنسانية منذ عهود النبوة الأولى إلى يوما هذا...فمن سخِرت منه هذه الجريدة المتهورة هو مثال لحرية التعبير ونموذج حي للدفاع عنها فقد جاء رسولنا الكريم رافعا شعار (خلوا بيني وبين الناس) والخطاب ليس موجه لكفار قريش في عهده ومن ساندهم من يهود الجزيرة العربية بل لكل من يعيقون الرسالة النبوية ويستميتون في منع التبليغ عنها (بلغوا عني ولو آية) ، ف"شارلي إيبدو" بسخريتها الثقيلة وصورها الكاريكاتورية الهزيلة تصبح جهازا إعلاميا يحرك كل طاقته وطاقمه للوقوف أمام حرية التعبير مدعيا حرية التعبير وهذه قمة التناقض والخيانة للرسالة الإعلامية التي هي أصلا رسالة فكرية استمات في الدفاع عنها جهابذة فكر عصر التنوير وفلاسفة العقلانية والحرية من "ديكارت" إلى "جان بول سارتر" مرورا ب"فولتير" و "فيكتور هوغو" و "لامارتين" وغيرهم ممن كانوا من كبار المعجبين بمسيرة المصطفى (ص) الذي شق طريقه الصعب نحو تحطيم أوثان الفكر والمعتقدات المكبِلة للحرية والحياة، ولعل هذا ما لم يعرفه جماعة "شارلي إيبدو" من جهة وأساء الدفاع عنه الإخوة (كواشى) عليهم رحمة الله من جهة أخرى.إنها حرية التعبير التي لا ينبغي أن تنزلق في مستنقع السفه والتفاهة والحقد وذلك حتى تبقى وفية لقيمها بأن تضع حدودا أخلاقية لنفسها بنفسها، لأن القاعدة في كل الحريات هو أنها نسبية تنتهي عند بداية حرية الآخرين، ولعل أخطر ما يمكن أن تقع فيه الحرية هو أن تصاب بالنرجسية و جنون العظمة والشعور بالقداسة المزيفة التي تقتل فيه نفسها بنفسها لأن ما زاد عن حده انقلب إلى ضده كما يقول المثل المتداول بين عامة الناس، والذي غاب عن جهاز تحرير مثقف ومتحضر في هذه الجريدة التعيسة...إنه التنكر لقيم الموضوعية والنزاهة والحياد والشعور بالمسؤولية وهي قيم يجب على كل إعلامي أن يؤمن بها ويدافع عنها حتى لا يسقط في مستنقع الكيل بمكيالين وحتى لا يرهن قلمه لمصلحة قوى اللوبي الصهيوني الذي أحكم قبضته على الإعلام الفرنسي والذي يدافع على نشر الرسومات المسيئة للرسول (ص) ولكنه في المقابل لا يستسيغ النكتة عندما يعرضها (عطاالله الفرنسي) Dieudonné على خشبة المسرح فيأمر رئيس الحكومة الفرنسية "فالس Valls" الفالس إلى إغلاق المسارح في وجه النكتة الساخرة عندما تُعرّي وتكشف الأيادي الخفية التي تحرك عرائس الغراغوز في السلطة الفرنسية وتدفع بهم في مسيرة تدافع عن حرية التعبير يتصدرها السفاح "نتنياهو" التي لا تزال أياديه ملطخة بدماء غزة الجريحة وذلك أمام دهشة واستنكار واستغراب العالم بأسره، ليتحول الموكب في حد ذاته إلى مسرحية ساخرة تُبث بالمجان على قنوات العالم ولتتحول إلى مادة دسمة للتعليقات على الشبكات الاجتماعية من الفيسبوكيون والمغرّدون على أغصان (التويتر) وغيرهم (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (فاطر، الآية 43) .لقد تحولت شوارع وأحياء باريس وغيرها من المدن الفرنسية بعد واقعة "شارلي إيبدو" المشبوهة إلى ميادين لممارسة أبشع صور التطهير العرقي والتمييز العنصري (الأبرتايد) الذي حطمته جنوب إفريقيا على يد "نيلسون مانديلا" وذلك من خلال حرمان حق المسلمين في ممارسة شعائرهم لينتشر هذا العداء لبقية العواصم الأوروبية، أمام صمت وخنوع العواصم العربية، وها هو التاريخ يكرر نفسه فيُعاد فتح مكاتب التفتيش سيئة الذكر من جديد وكأننا في القرون الوسطى، فلا داعي للحديث عن حرية تعبير مزيفة عندما تخون فرنسا مبادئها التي أثقلت مسامع العالم وهي تتبجح بها طوال قرون من الزمن لأن السياسة الفرنسية لم تنته إلى حد الآن من تصفية حساباتها القديمة والتخلص من عقدها الاستعمارية الوحشية فهي بهذا الاعتبار آخر من يحق له تقديم دروس في معاني الحرية والكرامة لأنها أول من يتصدر قائمة الدول المارقة عن مبادئ الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان Déclaration universelle des droits de l'homme التي تنص مادتها الثانية على (احترام حرية المعتقد) و كل ما يعبر عنه، كما تتناقض الحكومات الفرنسية المتعاقبة بشكل صريح مع اللائكية التي تنطلق من مبدأ (الحياد) في التعامل مع المعتقدات الدينية دون تمييز وعدم المساس بها، وها هي تنتهك يوميا حقوق المسلمين الذين أصبحوا عرضة للتجويع ممن يعترضون على كل ما يُنتج من المأكولات (الحلال).كما كشفت التطورات الأخيرة عن النوايا العنصرية للإعلام والسياسة الفرنسية من خلال التكالب في إعادة نشر الرسومات ولم تتردد إحدى القنوات الفرنسية في تصوير اتصال ساخر عبر الهاتف بشخص احمق يتكلم على انه الرسول الكريم في حملة مسعورة على الإسلام تمثل انزلاقا خطيرا آخر لا يدل إلا على التهاون بحياة الفرنسيين أنفسهم، بل ووصل الحد حتى إلى التفكير في طرد المسلمين من أوروبا بكاملها وشيطنتهم بكل الوسائل والأدوات، مما يدل على أن هذا الحقد الأعمى والمُمَنهج لم يدرك بأن الإسلام يتغذى من أحقاد أعدائه وينتشر في قلب عواصمهم بنفس القوة والسرعة التي تزداد بها همجيتهم و مكرهم، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال، الآية 30).




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)