الجزائر

من الصخر المقدود إلى الخلايا الجذعية..



من الصخر المقدود إلى الخلايا الجذعية..
ما الذي يجعل الإنسان يتعنت من أجل فرض كينونته على سطح هذا الكوكب؟ أليس هذا التعنت محفورا في الحامض النووي، الذي صرنا نتحدث عنه كثيرا في مطالع هذه الألفية الثالثة؟ما الذي دفع هذا الإنسان إلى أن يحفر كينونته في المغارات؟ وما الذي حثه على أن يتناول المطرقة والإزميل ويصوّر حالته الوجودية منذ عهود السومريين والفراعنة واليونانيين، بل وقبل ذلك بكثير؟ وما الذي استحثه على أن يتخذ طريقا مغايرة بعد ذلك، ويبري القصبة ويحرق الصوف ويضيف إليه بعض الصمغ، لكي يستخرج الحبر منه، ويخط وجوده، رسما أو حرفا في الحضارة الصينية، ثم في الحضارة الإسلامية الزاهرة، وينتقل إلى حالة أرقى من ذلك كله باستخدام الحاسوب وما إليه من التشكيلات الهندسية والصناعية التي يتميز بها زمننا هذا؟ لماذا، وألف لماذا؟ والأجوبة تلد أجوبة أخرى دون أدنى راحة من جانب هذا الإنسان.
هل المسافة بعيدة حقا بين الإنسان الأول والإنسان الذي نعيش معه ونعايشه في أيامنا هذه؟ بل، هل تختلف هذه الحالة الوجودية من ذلك الإنسان إلى هذا الإنسان؟
أجزم أهل الإيمان أن الإنسان يصنع وجوده، وأجزم غير المؤمنين أن الإنسان يصنع وجوده أيضا، يصوغه على هواه، وحسب مزاجه، ووفقا لما يؤمن به، وكل ذلك صحيح. سيّدنا علي بن أبي طالب (ض) يقول ما معناه أن الإنسان يساوي عمله. وأصحاب المذهب الوجودي بدءا من ”كيركجارد” في القرن التاسع عشر ووصولا إلى ”جابرييل مارسيل” و«جان بول سارتر” و ”ألبير كامو”، يقولون نفس الشيء، سواء منهم من كان مؤمنا راسخ الإيمان أو يعلن صراحة أمام الملإ بأنه لا يؤمن بالبعث ولا بما يشبه البعث، غير أن الخلاصة واحدة، وهي أن الإنسان يصنع وجوده، أي يساوي ما يعمله في هذه الدنيا أيا ما كانت وجهته، وسواء أنظر هذا الإنسان إلى السماء أم قصّر نظرته على هذه الأرض فقط، فإنه يمضي نحو غاية واحدة حتى وإن اختلفت سبل السير بين هذا وذاك.
من الصخر المقدود في المغارات والكهوف العتيقة، والرسوم الأولى، والحروف الأبجدية المنثورة هنا وهناك منذ العهود الأولى، إلى الخوارق العلمية التي تفاجئنا في كل يوم، وتطالعنا بها المخابر في أرجاء الدنيا كلها، تظل الحالة الوجودية واحدة، بمعنى أن الإنسان مكتوب عليه بأن يحقق وجوده على سطح هذا الكوكب، ومن ثم فإن ذلك يعني أيضا أن الحامض النووي الذي ما فتئ أهل العلم يتحدثون عنه في عصرنا هذا، ويعملون على تشطيره لكي يصلوا إلى بعض النتائج عن الحقيقة الإنسانية، هذا الحامض مسجل في أعمق أعماق وجودنا كله.
ظل الإنسان منذ آلاف السنين يتوالد، وعندما يجيئ إلى هذه الدنيا يكون أول شيء يفعله هو أن يقطع حبل السرة، وهو قد يقذف بهذا الحبل دون مبالاة بما يؤول إليه، وقد يدفنه على سبيل الاحترام لكي يرضي شيئا ما في أعماقه. وما درى يوما أن كل شيء فيه جدير بأن يكون محل دراسة وعناية فائقة من جانبه هو، أجل، ما درى أن كل شيء وقع تقديره حقا وصدقا، ولم يكن عبثا، وها هو اليوم يكتشف أنه يتعين عليه أن يحتفظ بهذه التشكيلة البيولوجية العجيبة التي يقال لها ”حبل السرة ”، والسبب في ذلك هو أنه أدرك أن حبل السرة هذا ينطوي على الخلايا الجذعية التي قد يحتاج إليها في يوم من الأيام حين ينال منه هذا المرض أو ذاك، مؤملا بذلك أن يعيد الحياة إلى هذا الجانب الميت منه، أو ذلك الذي تعطلت حركته.
والمعلومات التي بدأت تتوافر في يومنا هذا تقول إن أهل العلم يسعون للاحتفاظ بهذه التشكيلة البيولوجية العجيبة، التي يقال لها ”حبل السرة” في بنوك بيولوجية معيَّنة؛ لأنه من شأنها أن تغتني في القادم من الأيام وتغني هذا الإنسان عند استخلاص الخلايا الجذعية منها. ”فلينظر الإنسان ممَّ خُلق”، ذلك ما تقوله الآية الكريمة، وذلك ما يبدو أن الإنسان قد اهتدى إليه في أيامنا هذه؛ كل شيء مرتَّب أحسن ترتيب في الكائن البشري. وقد أثبتت مسيرة الإنسانية منذ بداياتها، أن المسافة بين الصخر المقدود وحبل السرة قد تبدو بعيدة جدا، لكنها في واقع الحال تظل هي هي، بمعنى أنه ينبغي على هذا الكائن الحي أن يدقق النظر على الدوام في كل صغيرة وكبيرة من كيانه، والأمر سيان أكان هذا الإنسان مؤمنا شديد الإيمان، أم غير مؤمن؛ إذ إن العبرة بالنتيجة التي يصل إليها. ويبقى الحكم الأخير في هذا الشأن لخالق الكون كله؛ فهو الذي يحاسب على كل شيء.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)