عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “أتى عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الغلمان، فسلّم علينا فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئتُ قالت: ما حبسك؟، قلت: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة، قالت: ما حاجته؟، قلت: إنها سر!!، قالت: لا تخبرنّ بسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدا، قال أنس: والله لو حدثتُ به أحداً لحدثتك به يا ثابت" متفق عليه واللفظ لمسلم.
وفي رواية البخاري: “أسرّ إليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سِرّاً، فما أخبرت به أحدا بعده، ولقد سألتني أم سليم رضي الله عنها -أمّه- فما أخبرتها به".
معاني المفردات
فبعثني إلى حاجةٍ: أرسلني لتنفيذ أمرٍ من الأمور.
أبطأت على أمّي: تأخّرت عنها طويلاً.
ما حبسك: ما الذي أخّرك.
❊ تفاصيل الموقف
ها هي ذي أيّام الغلام الصغير أنس بن مالك تنساب كالماء الرقراق في الأودية الخصيبة، وكالنسمة الباردة التي تهبّ تحت ظلال الأشجار، منذ أن تغيّرت حياته بقدوم النبي -صلى اللّه عليه وسلم- إلى المدينة، فقد عهدت به والدته الغميصاء بنت ملحان رضي اللّه عنها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام قائلة: “يا رسول الله هذا أنس ابني، أتيتك به يخدمك".
ومنذ ذلك اليوم بدأت مسؤوليّة أنس رضي الله عنه في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم- ومرافقته في حلّه وترحاله، فكان رضي الله عنه لا يألو جُهداً في تلبية رغباته وتنفيذ أوامره، فنال ما لم ينلْهُ غيره من أقرانه في تلقّي الهدي النبوي والعيش في كنف رسول الله وتحت رعايته.
ويروي لنا أنس -كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يناديه تدليلاً- يوماً من أيّام سعده وهنائه، حيث فرغ من أداء واجباته ذلك اليوم، فانسلّ من بيت النبوّة ليلعب مع الغلمان في أزقّة المدينة ونواحيها، فهو وإن كان خادماً للنبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه يظلّ في سنّ الصبا وريعانه، وما يعنيه ذلك من الحاجة إلى اللهو البرئ.
وبينما هو منهمكٌ في اللعب، إذ قدم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فألقى عليهم التحيّة، ثم أشار إليه إشارةً خفيّةً ليتنحّى به جانباً، ويُسرّ إليه بمهمّةٍ خاصّة.
ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم ما اصطفى أنساً لهذه المهمّة الخاصّة دون غيره من أقرانه، إلا لما رآه فيه من المؤهلات والصفات التي تؤهله لهذه المهمّة.
ولم يكد الأمر النبوي يطرق سمع أنس رضي الله عنه حتى هبّ واقفاً وانطلق من فوره يستقصي حاجة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسعى في تنفيذها، فأخذت منه وقتاً ليس باليسير حتى أنجزها على أتمّ وجه.
على أن أمّه رضي الله عنها أحسّت بتأخّر وليدها أنس إذ لم تعهد ذلك منه، وما إن رأته يدخل عليها حتى بادرته سائلةً: “ما حبسك؟"، فنظر إليها أنس وقال لها: “بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة"، ولم يزد على ذلك حرفاً!.
أرادت الأم أن تستفصل أكثر، فعاودت السؤال: “ما حاجته؟"، فردّ عليها أنس بأدبٍ خالجه شيءٌ من الاعتذار: “إنها سر!!"، كلماتٌ قليلةٌ تدلّ على نضج شخصيّة هذا الغلام النبيه، فلقد أدرك على صغر سنّه أنّه ما كان له أن يكشف عن سرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو كان لأقرب الناس إليه.
أكبرتْ الأم هذا الموقف السامي من غلامها، فأرادت أن تعزّزه في نفسه وتوطّده في مسيرته، ليظلّ وفاؤه مبدأً راسخاً لا يمكن أن يتنازل عنه مهما كانت المغريات، فقالت مؤكّدة: “لا تخبرنّ بسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحداً".
وبهذا ينتهي الموقف، ويمضي الزمن، ويتنقّل أنس رضي الله عنه من مرحلة عمرية إلى ما فوقها، حتى جاوز المائة عام، ولم يزلّ سرّ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظاً، ولم يزل هذا الموقف أحد مفاخره رضي الله عنه التي عبّر عنها بقوله: “والله لو حدثتُ به أحداً لحدثتك به ي.بت"
* إضاءات حول الموقف
لو وضعنا هذا الموقف تحت مجهر التأمّل والاعتبار، لخرجنا منه بفوائد عديدة تصلح كلّ واحدة منها لبحثٍ مستقلّ، وحسبنا أن نشير إليها إشارةً عابرة لكي يستفيد منها القارئ، فنقول:
من فوائد الموقف، التنبيه على حاجة الأطفال إلى اللعب والترفيه، لتحقيق التنشئة الاجتماعيّة المتوازنة، والقيام بارتقاء النفس واكتساب المهارات الشخصيّة والقدرة على التواصل مع الآخرين، ولذلك نجد علماء النفس والاجتماع يؤكّدون على أهمّية اللعب للناشئة ودوره في التربية، بل قاموا بإدخاله في المخطّطات والبرامج التعليمية.
ورسول الله صلى الله عليه وسلّم قد سبقهم في ذلك كلّه فأقرّ لعب الأطفال في أكثر من موضع من سيرته.
ومن فوائد الموقف: حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على معاملة الأطفال بمنطق المسؤولية والتوجيه ليصنع منهم رجالاً، ويجعلهم ذخيرة للأمة في مستقبلها، نلمح ذلك من خلال قيامه عليه الصلاة والسلام بإلقاء السلام على الصغار، وهذا السلام وإن كان الهدف منه نشر قيمة السلام في المجتمع، إلا أنّه يحمل في طيّاته الرغبة في تعويد الصغار على الاستماع إليه ليعتادوه، ثم يطبّقوه مع غيرهم، كما يهدف إلى إزالة الحواجز الخفيّة التي تمنعهم من التعامل الإيجابي مع الأكبر منهم سنّاً، ليكونوا أقوياء على الحق، وتنشأ لديهم القوة النفسية التي تحمل صاحبها على معالي الأمور والبعد عن سفاسفها، وهذا هو عين السبب الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يستحفظ سرّه عند غلامه أنس رضي الله عنه وهو بمثل هذه السنّ.
وفي سؤال الأم لابنها حول أسباب تأخّره، لفتةٌ مهمّة إلى دور الأسرة في تفقد أولادها ومتابعتهم الدقيقة، بحيث يلحظون ما يطرأ عليهم من تغيّر في السلوك خصوصاً مع كثرة المؤثّرات خارج النطاق الأسري، ومثل هذه الرقابة الدقيقة وغير المباشرة تسهم في اجتثاث أي انحراف طارئ، ومن ثمّ تداركه قبل أن يستفحل خطره ويعظم أمره.
ويعظم موقف الأمّ عندما لم تلحّ على ابنها في السؤال، في حين أن كثيراً من نساء المسلمين ُيكثرن من سؤال أولادهنّ في الأمور التي تتعلّق بالآخرين وخصوصيّاتهم، ما يعود بالأثر السيء على الطفل وسلوكه، فينشأ فضوليّاً غير قادرٍ على كتمان الأسرار.
ومما يستوقفنا من الحوار بين أنس رضي الله عنه وأمه، قوله عنها: “فأبطأت على أمي"، إنّه تأنيب الضمير على تأخّره وما يعكسه من اهتمامه بأمرها، بحيث كان قلقه نابعاً من داخله وبقناعة تامة منه، ثم تبقى الإشارة إلى بيان أهمية كتمان السر وحرمة إفشائه وتضييعه، وقد جاءت بذلك جملة من النصوص الشرعية، كقول الله تعالى في محكم التنزيل: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) (الإسراء: 34)، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم، وقوله: (إذا حدث رجل رجلا بحديث ثم التفت فهو أمانة) رواه الترمذي، وقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد.
من القرآن :نظرات في آيات
في سياق حديث القرآن عن بني إسرائيل، وتذكيرهم بنعم اللّه عليهم، يخبرنا القرآن عن موقف من مواقفهم، وذلك بقوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) (البقرة: 59-58).
وجاء الإخبار عن هذا الموقف في موضع آخر من القرآن الكريم، وذلك قوله سبحانه وتعالى: (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين، فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون) (الأعراف: 162-161).
وقد فارق كل موضع الآخر من أحد عشر نحواً، ونحن نذكر أهم الفوارق التي قيلت حول هذه الآيات:
أولاً: أنه سبحانه عَطَف فعل (الأكل) بالفاء في سورة البقرة: (فكلوا)، وبالواو في سورة الأعراف، لأنه تعالى أمرهم في سورة البقرة ب(الدخول)، وهو سريع الانقضاء (ادخلوا هذه القرية فكلوا منها)، فناسب اقتران الفعل بعد الأمر بالدخول بالفاء، لدلالتها على التعقيب وعدم التراخي، فكأنه قيل: ادخلوا القرية فكلوا مما أنعم اللّه عليكم فيها. أما في سورة الأعراف، فقد أُمروا بالسكنى، وهذا الفعل يفيد الاستقرار والتراخي، فناسبه اقتران الفعل بعده بالواو: (اسكنوا هذه القرية وكلوا منها)، مما يدل على مطلق الجمع بين السكنى والتمتع بالأكل، بغض النظر عن مراعاة التعقيب والترتيب.
ثانياً: جاء الوصف: (رغدا) في سورة البقرة يحمل دلالة محددة، وذلك أنه سبحانه لما أسند القول إليه: (وإذ قلنا)، ناسبه أن يذكر معه ما يدل على إفاضة النعم، وما يدل على كرمه سبحانه على خلقه، فقال: (فكلوا منها حيث شئتم رغدا). أما في سورة الأعراف، فإنه لما جاء الفعل على صيغة المبني للمجهول: (وإذ قيل)، لم يذكر معه ما ذكر من الإكرام الوافر، لأنه لم يسند الفعل إليه سبحانه.
ثالثاً: جاء الأمر بالدخول سجداً في سورة البقرة مقدماً على الأمر بالقول بحط الذنوب، (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة)، بينما جاء الأمر بالقول بحط الذنوب في سورة الأعراف مقدماً على الأمر بالدخول سجداً، (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا)، وذلك أنه لما كان منهم مذنبون وغير مذنبين، ذكر في كل موضع ما هو أليق بهذين الفريقين، فذكر في سورة البقرة ما هو أليق بفريق المذنبين، فطلب الدخول سجداً، تقديماً لأمر العبادة، إذ هو الأليق بحالهم، وأخَّر الأمر بحط الذنوب على سبيل هضم النفس، وإزالة العجب، في حين أنه في سورة الأعراف قدم ما هو الأليق بحال المذنبين، فأمرهم بطلب حطّ الذنوب وغفرانها، إذ هم أحوج ما يكونون إليه، وأخَّر أمرهم بالدخول سجداً، لأن التوبة عن الذنب مقدَّمة على الاشتغال بالعبادة، وبذلك يكون ذكر في كل موضع ما هو أليق بكل فريق.
رابعاً: قال في سورة البقرة: (وسنزيد المحسنين) عطفاً ب(الواو)، وجعل (المغفرة) مع (الزيادة) جزاء واحداً لمجموع الفعلين: (دخول الباب سجداً)، وقولهم: (حطة). أما في سورة الأعراف، فجعل (المغفرة) جزاء لقولهم: (حطة)، وجعل (الزيادة) جزاء على (الدخول)، فَتْرك (الواو) يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الفعلين.
خامساً: قوله سبحانه: (فبدل الذين ظلموا منهم)، جاء في سورة الأعراف بزيادة: (منهم)، لأن أول قصة أصحاب موسى عليه السلام في سورة الأعراف مبني على التخصيص والتمييز، إذ قال: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) (الأعراف: 159)، فذكر منهم من يفعل ذلك، ثم عدَّد صنوف إنعامه عليهم، وأوامره لهم، فلما انتهى الإخبار عن ذلك، قال: (فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم)، فأتى في آخرها ما أخبر عنهم بلفظ: (من)، التي تفيد التخصيص والتمييز، ليكون آخر القصة متوافقاً مع أولها. أما في سورة البقرة، فإنه لما لم يذكر في الآيات التي قبل قوله: (فبدل الذين ظلموا) تمييزاً وتخصيصاً، لم يعد لازماً ذكر ما يفيد التخصيص والتمييز.
سادساً: في سورة البقرة قال سبحانه: (نغفر لكم خطاياكم)، وفي سورة الأعراف، قال تعالى: (نغفر لكم خطيئاتكم)، و(الخطايا) جمع تكسير، يدل على الكثرة، و(الخطيئات) جَمْعٌ ملحق بجمع المؤنث السالم، وهو يدل على القلة، وتعليل هذا الاختلاف: أنه لما جاء إسناد الفعل في سورة البقرة إليه سبحانه: (وإذ قلنا)، ناسب تكثير النعم والفضائل، فأتى بما يدل على الكثير الجم، لأن وزن (فعالى) = (خطايا) من أوزان جمع الكثرة، وذلك ليدل على كرمه وجوده وعظيم امتنانه، فكأنه قال: نغفر لكم خطاياكم كلها جمعاء. أما في سورة الأعراف، لما كان الفعل غير مسند لله سبحانه، بل جاء بالبناء للمجهول، جاءت الصيغة بما تدل على جمع القلة.
سابعاً: جاء فعل العاقبة والجزاء في سورة البقرة معبَّراً عنه ب(الإنزال) (فأنزلنا)، بينما جاء في سورة الأعراف معبَّراً عنه ب (الإرسال) (فأرسلنا)، والفرق بين الفعلين: أن فعل (الإنزال) يفيد حدوث الأمر بداية، في حين أن فعل (الإرسال) يفيد حدوث الأمر على وجه كلي ونهائي، فذكر في البقرة ما يدل على بداية نزول الرجز عليهم، وذكر في الأعراف ما يدل على أخذهم بالكلية واستئصالهم، وبذلك تكون صورة عذابهم في الموضعين، قد جاءت على أتم وصف.
هذا بعض ما ذُكر من فوارق بين آيتي سورة البقرة وآيتي سورة الأعراف، وهي فوارق تقريبية احتمالية، لا يمكن الجزم بها، قد يقبلها البعض، وقد يرفضها آخرون، ولا حرج في ذلك.
فمن قَبِلَها، فقد وافق الإمام الرازي فيما ذهب إليه بخصوص هذه الفوارق، حيث ذكر عشرة فوارق بين موضعي البقرة والأعراف. ومن رفضها، فقد وافق الآلوسي فيما ذهب إليه، حيث رفض ما ذكره الإمام الرازي، وتعقبه فيما ذكره من فوارق، وخَلَص إلى أن تلك الفوارق المذكورة لا تخلو من نظر.
وقد سكت كثير من المفسرين عن ذكر تلك الفوارق، ولم يتعرضوا لها - فيما رجعنا إليه - بإثبات أو نفي.
وعلى الجملة، فإن ما قيل من نكت وفوارق بين آيتي سورة البقرة وآيتي سورة الأعراف، وإن لم يكن القول به على سبيل اليقين، فإن ما هو متيقن - بهذا الصدد - أن التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك.
![if gt IE 6]
![endif]
Tweet
المفضلة
إرسال إلى صديق
المشاهدات: 11
إقرأ أيضا:
* أمثال النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء
* وقفات مع قصة يوسف في القرآن (2)
* من السيرة.. وقفات مع قصة يوسف في القرآن (1)
* دروس من حادثة بئر معونة
التعليقات (0)
إظهار/إخفاء التعليقات
إظهار/إخفاء صندوق مربع التعليقات
أضف تعليق
الإسم
البريد الإلكتروني
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 09/09/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : التعليق تصغير تكبير
المصدر : www.djazairnews.info