الجزائر

ملاحظات أوليّة على الهبّة الفلسطينية



ملاحظات أوليّة على الهبّة الفلسطينية
تؤكد الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة بأننا ازاء موجة كفاحية أو هبّة شعبية او ربما انتفاضة جديدة. تعزّز من هذا الاعتقاد شمولية المواجهات، التي عمّت في أيام معدودة معظم مدن الضفة وغزة وبعض البلدات الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وانها ظلت مستمرة بذات الوتيرة والفاعلية قرابة اسبوعين. ولعل أهم ما يميّز هذه الهبّة ان محركيها هم من الشباب، وأن للفتيات دوراً بارزاً فيها، وأنها اشتعلت بطريقة عفوية، وأن الفصائل لا تسيطر عليها، وانها أقرب الى فعاليات الانتفاضة الأولى، من حيث تعبيراتها وأشكالها النضالية.الآن، وبغض النظر عن الذين يريدونها او الذين لا يريدونها، وبمعزل عن الأمنيات أو الرغبات، فإن هذه الهبّة او الانتفاضة، التي جاءت بعد تجربتي انتفاضتين، وبعد عقد على انطفاء الانتفاضة الثانية (2000 - 2005)، أتت في ظروف صعبة وبالغة الخطورة، لذا فهي تستحق قراءة موضوعية للظروف المحيطة بها، والتي يمكن ان تؤثر عليها، ويمكن إجمال ذلك في الملاحظات الآتية:أولاً، أتت هذه الهبّة بعد أن قوّضت إسرائيل خيار التسوية، وسدّت حلّ الدولتين، وفي ظل انكشاف أجسام الكيانات الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل)، عن حال التآكل والترهل، والاعتماد على الدعم الخارجي، وفي ظل انقسام النظام السياسي، والافتقاد للإجماعات الوطنية، وتفكّك مجتمعات الفلسطينيين في الخارج. إذاً على هذا الأساس يفترض ان لا ننسى أن هذه هبّة او انتفاضة عفوية، أي أنها لم تأت كنتاج خطة وإنما كنتيجة لحال الإحباط وانعدام الأمل وانفجار الغضب عند الفلسطينيين، الذين باتوا يرون أنفسهم في سجن كبير، وفي ظل نظام يجمع بين الكولونيالية والعنصرية، مع سلطة لا تملك من أمرها شيئاً، في ظل علاقات التنسيق الأمني، والتبعية الاقتصادية، مع ما في كل ذلك من امتهان، إذ لا ينطوي الأمر على مكافأة الاحتلال فقط، وإنما على حمايته، وهي سابقة فريدة من نوعها في التاريخ.هكذا ثمة شيء من التناقض، فبقدر ما ينم الوضع الفلسطيني عن ضعف وتفكك، فإنه ينم أيضاً عن اختزان كل الأسباب التي تفجّر الانتفاضة، لا سيما مع استشراء الانشطة الاستيطانية، وانفلاش جمهور المستوطنين في الاعتداء على الفلسطينيين، ومع بناء الجدار الفاصل، وانتهاك حرمة المقدسات الاسلامية، وانتهاج اسرائيل سياسة هدم المنازل، بدعوى عدم ترخيصها، والاعتقال الاداري (حوالي 3 الى 4 آلاف في السنة)، التي تضر بمستقبل آلاف الشبان الفلسطينيين، علماً ان إسرائيل قتلت، منذ رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات حتى الآن (2005 الى 2015)، أي في عهد الرئيس ”المعتدل” محمود عباس، حوالي 6500 من الفلسطينيين، بمعدل 650 فلسطينياً في السنة (ثلثاهم في حروب غزة الثلاثة (2008 ، 2012 و2014)، مقابل 240 اسرائيلياً، بمعدل 24 في السنة.ثانياً، تبدو إسرائيل متحررة، في هذه الظروف، أكثر من أية فترة سابقة في تاريخها، من أية ضغوط أمنية أو سياسية أو قانونية أو أخلاقية، قد تُفرض عليها في إطار معركتها مع الفلسطينيين. ومعلوم ان مكانة القضية الفلسطينية تراجعت في سلم الاهتمامات الدولية، وأنه على الصعيد العربي باتت ثمة انشغالات أخرى، كما لم يعد ثمة شيء اسمه جبهة شرقية، مع اختفاء التهديد (ولو الشكلي) من الجيوش النظامية العربية، بخاصة مع تشقّق مجتمعات المشرق العربي على اسس طائفية ومذهبية، على خلفية الدور التخريبي الذي اضطلعت به ايران على هذا الصعيد. فوق ذلك فإن إسرائيل باتت تستطيع أن توظف جمهور المستوطنين، في مواجهة الفلسطينيين، بعد ان بات هؤلاء يشكلون ثقلاً مهماً في القدس وفي مجمل الضفة الغربية، بحيث يظهر ما يجري وكأنه بمثابة حرب أهلية بين مجتمعين، وليس بين الجيش الإسرائيلي ومجتمع الفلسطينيين. ومعلوم ان الوضع اليوم يختلف عنه ابان الانتفاضة الأولى، حيث تحمل وقتها الجيش عبء المواجهات، كما يختلف عن الانتفاضة الثانية، التي استخدم فيها الفلسطينيون السلاح، ما سهّل على اسرائيل استنزافهم واضعافهم بانتهاج أقصى قدر من العنف ضدهم.ثالثاً، يخشى هذه المرة أن يتصرف الفلسطينيون على طريقتهم، من دون ادراك طبيعة الظروف غير المؤاتية من حولهم، بحيث يستدرجون إما نحو استخدام السلاح في الضفة، والصواريخ من غزة، وإما بالعمل وكأن هذه انتفاضة الى الأبد، لأنهم في الحالين سيسهلون على اسرائيل استخدام مختلف الطرق لاستنزاف طاقتهم، وإضعاف مجتمعهم. والفكرة هنا ان الأنسب للفلسطينيين ان يتصرفوا على اعتبار ان هذه جولة في إطار الكفاح الطويل والمضني والمعقد ضد إسرائيل، وأن يدركوا أنهم ليسوا بحاجة لإثبات شجاعتهم لأحد، أو استعدادهم للتضحية، فقد أثبتوا ذلك كشعب على مر تاريخهم، رغم موازين القوى المختلة، ورغم كل الصعوبات، في الأردن ولبنان، وفي تجربتي الانتفاضتين الاولى والثانية وفي حروب غزة الثلاثة. ولعل مشكلة الفلسطينيين تكمن في أنهم، في كل تجاربهم السابقة، كانوا يقاتلون بإيمانهم بحقوقهم، وبروح العناد والتحدي عندهم، وهذا ضروري ويستحق التقدير، وهو أمر طبيعي وإنساني وأخلاقي، لشعب يكابد الاضطهاد والقهر والاحتلال، لكنه لا يكفي لاستعادة حقوقهم.الفكرة هنا، أيضاً، أن الفلسطينيين مطالبون بإدراك أن العالم، كما هو اليوم (وضمنه أوباما وبوتين)، لن يسمح لهم باستثمار كفاحهم ضد اسرائيل، على النحو الذي يتناسب مع تضحياتهم وبطولاتهم. هذا حصل، مثلاً، بعد الانتفاضة الاولى، التي نجم عنها اتفاق اوسلو المجحف، وتكرر الأمر بعد الانتفاضة الثانية، التي قتل فيها من الإسرائيليين اكبر عدد في تاريخ المقاومة (1040 اسرائيلياً) من ضمنهم 230 في آذار (مارس) 2012 وحده، اذ بعد ذلك بنت إسرائيل الجدار الفاصل، ومنعت الفلسطينين من دخول القدس، وانسحبت أحادياً من غزة وحاصرتها. حتى حرب غزة الثالثة (2014)، ورغم ما بذل فيها من تضحيات وبطولات فإنها لم تفلح، ليس فقط في استعادة الميناء والمطار، وإنما أيضاً لم تفلح في رفع الحصار ولا في ادخال مواد الاعمار.رابعاً، فوق ما تقدم فإن ما يفترض الانتباه اليه، في خضم الحماس للانتفاضة، أن الظروف العربية الراهنة، ومن ضمنها خراب المشرق العربي، من سورية الى العراق وصولاً الى اليمن، ليس فقط لا تسمح للفلسطينيين باستثمار تضحياتهم وبطولاتهم، وإنما قد تشكل الفرصة التي ربما تنتظرها اسرائيل لتغطية أي خطوة ضدهم في الاراضي المحتلة عام 1948، أو في القدس أو في الضفة. والمعنى انه مع كل الحماس للانتفاضة والمقاومة، ينبغي اعطاء حيز من التفكير للتحسب لردود الفعل الإسرائيلية، غير المحسوبة، التي قد تودي بالفلسطينيين إلى كارثة. فماذا لو قامت اسرائيل بترانسفير، مثلاً، لفلسطينيي القدس الشرقية أو الخليل أو الجليل أو المثلث؟ أو ماذا لو أفلتت الحبل لعدوان المستوطنين عليهم لإجبارهم على ترك بيوتهم وأراضيهم؟ هل يملك الفلسطينيون القوة لمنع ذلك؟ هل تستطيع الدول العربية منع اسرائيل؟ هل سيمنعها اوباما؟ هل سيمنعها بوتين؟ لأنه، وبكل صراحة، وبعد ان حصل ما حصل للسوريين، لم يعد ثمة شيء يمكن استبعاده، إذ أن العالم الذي سكت على الاسد، مع كل ما فعله بشعبه، لن يتحرك لكبح أي ردة فعل اسرائيلية قد تؤدي بالفلسطينيين الى نكبة جديدة.المعنى أنه، وبعد كل هذه التجربة في الصمود والمقاومة، طوال خمسين عاماً، من الاردن إلى لبنان والانتفاضتين وحروب غزة الثلاثة، آن للفلسطينيين طرح الاسئلة الصحيحة، المتعلقة بكيفية ادارة احوالهم، وضمنه مواءمة امكاناتهم مع أشكال كفاحهم، وإدراك ان المقاومة لا تشتغل بالعواطف والرغبات فقط، وإنما هي عمل يخضع لموازين القوى ولحسابات السياسة. آن لهم ان يدركوا ان المقاومة هي حالة مجتمعية، وانها عملية تراكمية، وأنها تحتاج، أيضاً، إلى التحكم بردات الفعل الإسرائيلية، والقدرة على امتصاصها، وإلى توافر الاوضاع العربية والدولية التي تسمح باستثمار المقاومة سياسياً في انجازات ملموسة.وباختصار فإن الفلسطينيين بحاجة إلى انتهاج أشكال مقاومة تتمتع بميزتين: أولاهما تحييد الآلة العسكرية الإسرائيلية أو كبح امكان استخدامها بأقصى قدر من العنف ضدهم، ما أمكن ذلك. وثانيتهما، ان تمكن هذه المقاومة من تقوية المجتمع الفلسطيني، وضمنه تقوية كياناته السياسية، لا اضعافها. أي ان الفلسطينيين بحاجة إلى مقاومة توجع اسرائيل اكثر مما توجعهم، وتعزز الانشقاقات وتنمي التناقضات في مجتمع عدوهم، ولا تعزز تماسكه وتقوي وحدته.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)