الجزائر

مكسيم غوركي: ما بعد الأمّ



كتب الأديب الروسي مكسيم غوركي ( 1868 1936 ) رواية " الأم " بحدس عجيب. لقد أنجز العمل في سنة 1898، لينشر في 1904. الغريب أنّ هذا الأثر أرّخ لثورة محتملة، ويشهد الساسة والمثقفون أنه أسهم بطريقته في الثورة البلشفية (1917)، ذلك أنّ تفاصيل كثيرة في هذا الكتاب تتجاور وحركية المجتمع الرّوسي آنذاك. لذا أثنى عليه الزعيم لينين وعدّه من الهالات الأدبية التي كتبت تأسيسا على مخزون من الوعي المتقدم الذي سيساعد العمال والمسحوقين.استغل السياسيون لاحقا هذه الرواية ووظفوها لأغراض لم يفكر فيها الكاتب، وفي عام 1934 صنفت في خانة الواقعية الاشتراكية، المدرسة الجديدة التي ستنتشر في بعض البلدان، وفي البلاد العربية مع بعض الكتاب اليساريين.
ومع أنّ خصوصية البلاد العربية كانت مختلفة آنذاك، فقد ظهرت تأثيرات متنوعة بفعل التوجه الأيديولوجي في حدّ ذاته، بصرف النظر عن الأخطاء التي وقع فيها الكتّاب الذين نقلوا تمفصلات المدرسة بشكل إملائي ألحق ضررا بالأدب المحلي وبإمكاناته التخييلية.
أصبح هذا التوجه الأدبي منتشرا في الكتابات، وكانت رواية الأم من القوّة التأثيرية بحيث غدت مرجعا. أمّا غوركي فلم يكن يعرف هذه "الواقعية الاشتراكية"، ولا المسائل الفنية والجمالية و"الثورية" التي تحدث عنها النقاد واستثمرتها الأنظمة، ما ألحق أذى بالكتابات اللاحقة التي وقعت تحت ضغط السلطة، إذ لم تميّز بين الالتزام كخيار والإلزام كإملاء.
سيتجلى ذلك في سقوط نصوص امتلأت بالشعارات والدعاية لجماعات حاصرت أعمالا إبداعية أخرى لأنها مختلفة، أو لأنها انطلقت من تموقعات أخرى في نظرتها إلى المادة السردية، ما أدى إلى توقف بعض الكتّاب عن الكتابة وهجرة الآخرين، ومن هؤلاء سولجنتسين، الكاتب الذي قال عنه أحد الرؤساء الفرنسيين إنه أحسن نموذج ثقافي قدّمه القرن.
ومع أنّ البلاد العربية لم تكن منقوصة من مرض أحادية التفكير فقد وقعت في أحادية قطبية ثانية تتمثل في مركسة الإبداع، قبل أن يكتشف الكتاب أنهم ابتعدوا عن ذواتهم. لقد كتب مكسيم غوركي انطلاقا من محيطه ومن مقوّمات مجتمعه وحركيته التي تحتكم إلى منطق عيني.
وإذا كان قد أفلح في قراءة المستقبل، فلأنّ هناك عوامل كثيرة أهّلته لذلك، ومنها معرفة مختلف تفاصيل المجتمع وتمفصلاته. أمّا ما حدث لاحقا، في بعض الروايات الروسية، وفي بعض رواياتنا، فكان مجرّد استنساخ لتجربة غيرية، رغم بعدها الإنساني.
تكمن عبقرية الأم في رسم تفاصيل دقيقة لأحداث ستقع بعد 19 سنة من كتابة الرواية، أي أنها مرايا تعكس الحاضر والمستقبل بقدرة استثنائية في تاريخ الرواية العالمية، دون أن ننفي وجود كتابات في مستواها، وقد تفوقها أحيانا من حيث القدرة على التنبؤ (رواية 1984 للإنجليزي جورج أورويل).
كيف استطاع غوركي أن يتنبأ بهذا الحراك ويؤثر في المجتمع والسياسة؟ هناك ثقافته وتجربته وارتباطه بمقوماته وصيرورة الواقع، وهناك قوة المتخيل التي لها مرجعياتها المعرفية التي لها علاقة وطيدة بالوعي.
لا يبدو البطل بافلوف كائنا خرافيا أو أسطوريا أو انتحاريا أو سحريا، كما الأم، الشيء الوحيد الذي يميزهما عن الانهزاميين والعبثيين هو إيمانهما بالغد، بالقدرة على التغيير في أقسى السياقات، ولأنّ الهدف مشترك، فقد امتزجا بالطبقة العاملة في بطولة جماعية متناغمة آلت إلى تقويض أركان التفاوت الطبقي الذي كرسه النظام القيصري.
أسست الرواية على فرضيات مقنعة، دون أيّ صخب أيديولوجي من ذلك النوع الذي قيّد الأدب في فترات تاريخية حساسة جعلته يتحدث عن مجتمعات مثالية، وليس عن مجتمعه، كما سيفعل لاحقا جزء من الحداثة العربية الواهمة.
وإذا كان نجاح "الأم" مرتبطا بكيان مخصوص، فلأنّ الكاتب كان محيطا بنفسية شخصياته في مرحلة ليست إلا نتيجة حتمية لتراكمات تاريخية، ومن ثم إمكانية توجيهها وفق مسار سردي لا يتناقض وطبيعتها.
هناك في هذا الجهد مهارة حقيقية، وكانت نباهة غوركي هي التي ارتقت بالرواية إلى مستوى عالمي. لقد كان مهندسا ذا موهبة فارقة في قراءة الواقع، وكان ارتباطه بالشعب ذا أهمية في اكتساب الجزئيات التي وردت في هذا العمل الذي أسهم في الثورة البلشفية وظل مثيرا للجدل، بيد أنّ التجارب التي حاولت تقليده سقطت في الدعاية وأساءت إلى الأعمال الكلاسيكية الكبيرة التي شرّفت روسيا القيصرية.
بعد سنتين من انتصار الثورة البلشفية احتكرت الأنظمة المتعاقبة حرية الأدب، وخاصة في عهد جوزيف ستالين (1878 1953) وأندريه جدانوف، وزيره للدعاية والثقافة(1896 1948)، وبدل أن يستثمر الأدب في المتخيل أصبح تابعا للقرارات السياسية، وهكذا فقد كثيرا من ألقه.
قال جدانوف في المؤتمر الأول للكتاب (1934):"يجب على الكتّاب أن يكونوا مربيي النفوس البشرية"، وكانت هذه الوصية كافية لتدمير جزء من الأدب الذي رغب في الإفلات من الاحتكار المعياري الذي فرضه النظام، تأسيسا على رؤيته وعلى قناعاته، أو على بعض الشعارات التي ظلت يوجهه.
هل تنبأ غوركي بما بعد الثورة؟ لم تنشر الرواية إلى هذه الفترة التي ستعقب التحول الأعظم، ربما كتم ذلك ولم يفعل ما فعله نوسترادموس في تنبؤاته المذهلة. هناك كتاب يأتون من المستقبل، بتعبير أدونيس.
ماذا حدث لاحقا؟ كتب ميخائيل بولجاكوف رواية مثيرة بعنوان: الرواية المسرحية، وكان بولجاكوف أقلّ حظا من غوركي، لم يطبع كتابه الذي وفق مابين الحقيقة والخيال، ما بين الحاضر والمستقبل، لكن المخطوط، بالنظر إلى قيمته، وزع بآلاف النسخ، تمّ تصويره بطرق سرية وقرأه ملايين الناس بإعجاب شديد، وقد يكون هذا الكتاب من أكثر الكتب مقروئية وإثارة للدهشة: قبل أن يسمح بطبعه بعد أعوام.
نقلت الرواية بسخرية لاذعة الحصار الذي ضرب على حرية التغيير في مجتمع "الغد الأفضل" الذي تنبأ به غوركي في كتاب الأم، وكانت الرواية المسرحية مأسوية في أبعادها، رغم أنها تبدو مسلية في تجلياتها الجملية وحواراتها العابثة.
لا يمكن تقديم شواهد عن جنون السلطة، لأنّ النص يحتاج إلى قراءة، وليس إلى ملخص يختزله في مقاطع. المؤكد أن ميخائيل بولكجاكوف قام بتخريب جهاز احتكر الحقيقة، كما ألحق مضرة بالفنون قاطبة، وبالغد الأفضل الذي سعى الناس إلى تحقيقه للتخلص من الطبقية.
لقد جاءت هذه الرواية مفارقة للكتابات الصنمية التي غدت ذيلا للسياسة. كما تنبأت بموت الكلمة وهيمنة خطاب أحادي لا يقدم شيئا للمجتمع، خطاب يحمل بذور فنائه في ذاته. لذا اعتبرت هذه الرواية مبشرة بثورة على أدب الدعاية، ومقدمة لغد أفضل مختلف، ذلك الذي تحدث عنه مكسيم غوركي في رائعة الأم، وليس الغد الأفضل الذي أنتج النفي والمحتشدات، كما يرى النقاد والمتخصصون الذين خابت آمالهم بعد السطو على الثورة، وهكذا ظهرت أصوات منادية بتغيير أنسب: يافتوشنكو، راسبوتين، حمزاتوف، سولجنتسين، وكانت هذه الأصوات ذات صدى عالمي أعادت للأدب بعض ألقه وجمالياته.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)