كثر الحديث، وتنوعت الدراسات، والمناقشات في موضوع الجهاد، كما كثر الخطأ متعمدا أو غير متعمد، وجاء مفهوم الحرب المقدسة، وهو مفهوم لا يتسق مع مفهوم الجهاد في الإسلام، لأن مفهوم الحرب المقدسة يقصد به عند الغربيين فرض الدين وعقائده على الناس بالقوة، وإعمال السيف في الرقاب، ولا يمكن أن يتصور هذا في الجهاد في الإسلام الذي يحرّم فرض الدين على الناس، وينفيه تماما ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ البقرة/256، فليس المقصود من الجهاد قتل الكافر لكفره، لكن المفتاح الذي يحكم الحرب قائم على العدل، والإيمان العميق بقداسة حياة الإنسان وكرامته، فالمسلمون اليوم يكوّنون ربع سكان العالم، وإمكان قراءة القرآن ودراسته ميسّرة، وهو نسبيا كتاب مختصر به نحو 77000 كلمة يساوي تقريبا نصف العهد الجديد أي الإنجيل، ونحو سُبع العهد القديم أي التوراة.ويرى بعض الغربيين بأن الإسلام له ميلٌ واضح نحو الحرب العدوانية، ولا سلم فيه، يأخذون بعض الآيات منقطعة عن سياقها ويبنون عليها آراءهم، متجاهلين الدعوة الصريحة إلى القتل والعنف في بعض أقسام التوراة، وفي إنجيل لوقا 22: 36، وإنجيل متى 10: 34، وكتاب العدد 31: 15، 31، دون أي مبرر أو قاعدة للقتال، وفي يوشع 6: 21، وما فعله القائد الروماني في سنة 146 ق.م، أمر جيشه بألا يبقي على حياة أحد في قرطاج.
يقرِّر القرآن الكريم أن القتال غير مرغوب فيه، وأنه عملٌ مكروه، ويضطر إليه في ظروف معينة للدفاع عن النفس، وبطريقة يعاد الأمر فيها بسرعة إلى السلم، ويقلل الضرر الذي أدت إليه الحرب.
إن الجهاد لغة يقصد به بذل الجهد، قد يكون بذل الجهد في منع النفس من اتّباع أهوائها طاعة لله، أو جهاد ببذل المال للفقراء، ومجاهدة الإنسان بالصبر على ما يصيبه، والجهد في البحث العلمي، ودفع الظلم والقهر.
الجهاد ظُلِم حين تُرجم ب"الحرب المقدّسة"، وهو اصطلاحٌ مسيحي، فالجهاد في الإسلام له جانبان: جانب داخلي، وآخر خارجي، وحديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- حينما خاطب الصحابة الذين عادوا من معركة للدفاع عن المدينة قال: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" فالجهاد الأصغر يقصد به جهاد القتال لرد العدوان، وأما الجهاد الأكبر فهو جهاد نوازع الشرّ في الإنسان ومنعها، كما يطلق على بذل الجهد لاستنباط حكم شرعي.
لما تمكن المسيحيون من القوة في دولة الرومان، كانوا يشنُّون الحروب، وهم ينتمون إلى المسيح عليه السلام، وأول من تناول هذا الموضوع وسماه الحرب العادلة: Just War هو القديس أوغسطين الجزائري، ومعه أمبروز الميلاني: Ambrose of Milan قد تكون الحرب شرا ضروريا، وينبغي إيقافها إذا ساد السلم، ثم أخذ بهذا توماس الإكويني وHugo Gratius وبرز هذا بقوة في دول البابوات، وخاصة عندما أعلنوا الحروب الصليبية، فأصبح اصطلاح الحرب المقدسة "Holy War" بارزا ومشهورا، فأرسل البابا Pape Whan جيشه في القرن الحادي عشر إلى احتلال القدس، فأصبح اصطلاح "الحرب العادلة" يسمى "الحرب المقدسة"، واتخذت الصليب رمزا لها، ولا يعرف هذا الاصطلاح في مفردات الإسلام، وقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدْهُم بِهِ﴾ أي بالقرآن، والإقناع، والدعوة بالتي هي أحسن (الآية 52 من سورة الفرقان) وهي آية مكية، وأثنى الرسول على الجهاد الذي لا عنف فيه فقال: "أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر" في ما روى النسائي في كتاب البيعة من سننه.
وقد استعمل كلمة "حرب صليبية" بوش الابن، في حربه على العراق، كما استعمل كلمة "الفاشية الإسلامية" "Islamo-Fascism".
وفي أي دين أو منظومة قانونية توجد فجوة بين المثالي وتطبيقاته في العالم، ففي أغلب الحالات في تاريخ الإسلام تغلب الفروسية، والرحمة، والشرف العسكري، وما إلى ذلك من معايير الإنسانية، خذ مثلا موقف الأمير عبد القادر (ت1883) في حماية المسيحيين في الشام من الدروز، وخذ قبل ذلك موقف صلاح الدين من أسرى المسيحيين، والأرامل، وقبله موقف الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- من مشركي مكة عند فتحها، أطلق سبيلهم جميعا فكان نموذجا في كل تطبيقاته لمعنى الجهاد، فهو فتحُ نبي لا فتح إمبراطور أو مستبد، حين يستبيح المدن ومن فيها، وانظر إلى الإمام شاميل (ت1871) أسد داغستان رحمه الله، الذي قاوم الهيمنة الروسية ثلاثين عاما.
وليس في الإسلام أن الغاية تبرر الوسيلة، فإن مفهوم الجهاد هو الحرب الشرعية، كما حدّدت وعرّفت في تعاريفها الحديثة، بأنها الحرب العادلة، تبعا لميثاق الأمم المتحدة.
والمجاهد هو الذي يقوم عمله على احترام النفس البشرية، وكرامتها وحريتها.
والحرب ظاهرة اجتماعية منذ الأزمنة القديمة، قدم الشعوب ذاتها، ففي فطرة الإنسان النزوع إلى حفظ حياته، ودفع ما يسبب له الأضرار أو الموت، يدافع عن مكتسباته، وإن أدى ذلك إلى العنف والقتال، بقصد البقاء، فكان هذا المستوى البدائي في القتال من أجل حاجاته في الحياة كالغذاء، ثم تطور هذا الدفاع إلى مستوى الحرب المنظمة مثل الحرب من أجل الحرية، أو مقاومة الاستبداد، والظلم أو الدفاع عن الكرامة.
وأمّا ما يُعبَّر عنه اليوم بالإرهاب فهو بعيد عن حقيقة الدين، بل إنه مظهر لا أخلاقي يقوم به هؤلاء الذين قست قلوبهم، وغلظت نفوسهم، فالإسلام في طبيعته وسطي معتدل، يتجنب الغلو، والمسلم مأمور بأن يسلك في حياته مسلك أيسر الأمور، أسوة بالرسول- صلى الله عليه وسلم- الذي ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
والإسلام يرفض بوضوح كل أشكال التطرف والتشدد. وما يعانيه بعض المسلمين اليوم يرجع إلى مسألة السياسة والسلطة، وتلك ظاهرة في طائفة تخلو من العلم ومن فهم مقاصد الدين، ينصبون أنفسهم سلطة دينية، يصدرون الفتاوى المنحرفة، مع فقدهم أي قدرة علمية في فهم النصوص الدينية وتأويلها أخلاقيا وقانونيا، وقصدهم سياسي محض، لبث الفوضى والرعب بين الناس في العالم، يستعملون اسم الإسلام لإخفاء جرائمهم، بالإساءة إلى مفهوم الجهاد، وتحريف مفهومه، لسوء فهمهم ورداءة إدراكهم لمعنى الجهاد، في ربطه بالعنف والعدوان دون مبرر، فالجهاد على العكس من ذلك لا يقصد منه العدوان بل دفع العدوان، إنه حرب عادلة كما تذهب إلى ذلك القوانين الوضعية ذاتها، يقول الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ البقرة/190، بقصد دفع العدوان عن الأنفس والأوطان.
والجهاد لا يعلنه إلا الحاكم الشرعي بعد استشارته ممثلي الأمة وخبراءها، بل يمنع الإسلام مفاجأة العدو إلا لضرورة دفع عدوان مفاجئ.
وهؤلاء الإرهابيون يقتلون الأطفال والنساء والمدنيين عموما، وهو أمرٌ نهى عنه الإسلام بوضوح تام في نصوص صريحة، وذكر إمام عظيم من أئمة المسلمين وهو الإمام النووي في شرحه الحديث النبوي إجماع المجتهدين على أنه لا يجوز قتل الأطفال والنساء، والرهبان وكل من لا يقاتل.
ويطرح هنا سؤال وهو: هل الدين مصدرٌ للعنف؟
إن الذين ينتقدون الديانات عموما يرون أنها مصدرٌ للعنف، ويسهل عليهم أن يستدلوا بأحداث التاريخ، مثل الحروب الصليبية، ويذهب René Girard في مقال له: "العنف والمقدس" وكذلك لويس برنار Bornar Lwis في وصفه لما يسميه ب"الأصولية الإسلامية"، وهو في الأصل مصطلح مسيحي، ورد عليه الأستاذ إبراهيم كلن، ويرى دوني جرار أن القربات الدينية بالذبائح في مختلف الديانات تشير إلى ميلها إلى العنف.
كما يمكن للإنسان أن يستنتج بيسر أن الديانات تنتج العنف في المستوى الاجتماعي واللاهوتي كالحروب الأوربية في العصور الوسطى، وحركات الجهاد في التاريخ الإسلامي، ويخلص إلى القول بأن تاريخ هذه التقاليد ليس إلا تاريخ العنف والحروب، والصراع، والتعذيب، ومن هو أكثر تدينا كان أكثر ميلا إلى العنف.
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الحل هو إزالة التقديس من العالم، فالديانات وبعضها بالخصوص تحتاج بالضرورة إلى نزع القداسة منها، وإلى تحديثها لإبعاد جوهر العنف منها، وهذه هي العلمانية التي تحل محل الدين.
أما أصحاب الديانات فيرون على العكس من ذلك، فهي لا تدعو إلى العنف، وأنها سلمية في تعاليمها، تقصد في أسسها إلى الانسجام بين السماء والأرض، بين الخالق والمخلوق، وبين المخلوقات ذاتها.
لكن بعض التعاليم الدينية الخاصة، ومشاعر معتنقيها يلحقها الانحراف والتحريف لأغراض سياسية، فيقع تأويلها بسبب هذه الأغراض، فيلجأ أصحابها إلى ارتكاب العنف باسم الدين، وهو بريء من ذلك.
ويذهب هؤلاء النقاد العلمانيون إلى أن هذه الديانات لم تطور بفعالية السبل التي تحميها من مثل هذا الانحراف، والتأويل، فهي لم تستطع حديثا حماية أصولها ولا أهلها أنفسهم من العنف باسم الدين.
وباختصار، فإن الدين في ذاته ليس مصدرا للعنف لكن بعض الذين يسيئون تطبيقه هم السبب، ونسي بعض هؤلاء العلمانيين أن العلمانية الراديكالية تستعمل العنف قولا وعملا.
عندما نتحدث عن الإسلام والعنف، أو الهندوسية والحرب، أو المسيحية، فإن المنهج السليم هو النظر في كتبهم المقدسة ومقارنتها مع الحقائق التاريخية الناتجة عن تطبيقها في الواقع، لبيان الفرق بين النصوص والتاريخ، وهذا يجعلنا ندرك الطرق التي أوِّلت بها تلك النصوصُ الدينية، فأصبح مختلف التأويلات البدعية جزءا من تجربة الحياة اليومية لجماعات دينية معينة.
وفي حالة الإسلام، نجد أن القرآن والسنة يبقيان هما مصدر الرؤية الإسلامية إلى العالم، أما التأويلات المتعددة التي يمكن الحديث عنها فهي تأويلاتٌ تقرب أو تبعد عن النص الواحد الأصلي، لأن النص الواحد أصبح موضوعا لتأويلات، وقراءات مختلفة فهذا صوفي، وذاك حنبلي، وآخر وهابي، أو من المحدثين في قراءاتهم البدعية الحديثة، إن الرؤية الإسلامية للعالم، وحياة الدين، من دونها لا نستطيع أن ندرك جزءا مهما من القرآن، وكيف فهمه أوائل المسلمين، وطبقوه في الواقع، وأصبحوا نماذج روحية وأخلاقية للأجيال من بعدهم، وكيف تلقوا القرآن ومقاصده بهداية الرسول وسلوكه وتطبيقاته.
إن كثيرا من المناقشات والدراسات عن الإسلام والعنف، التي تجري بتوسُّع في الغرب تثير المشاكل والاتهامات الجزافية، وهي آتية من قراءات العلمانيين وغيرهم للنصوص الإسلامية والجدال حولها، في ضوء إيديولوجيات معينة، وينتهون إلى الغاية التي يضعونها في أدمغتهم أولا، وهي أن الإسلام دين عنف في موارده الاعتقادية ومقاصده السياسية، وأن المسلمين يأخذون بعض الآيات ويربطونها بالعنف في التاريخ، وينتهون إلى أن تعاليم القرآن تبرر العنف، الذي لا مبرر له.
والمشكلة تأتي كما قلنا من التأويل المخطئ للنصوص لا من النصوص في حد ذاتها، فالنص بريء من العنف، واختلاف قراءاته هي التي يبدو لبعضها عنيفا ولآخر مسالما.
ومن المشاكل مشكل قانونية مظاهر السلم والعنف في الإسلام، كيف يعامل المقاتلون والأسرى والسجناء، وهذا نوقش في الجانب القانوني والتشريعي، وما إلى ذلك من المسائل الفلسفية والأخلاقية، والروحية، فإن النظر القانوني في السلم والحرب في العصور الأولى كان في ضوء تعاليم الإسلام، ومقاصد تشريعاته، فالمقصد الأقصى للإسلام هو تحقيق مجتمع أخلاقي، يسوده العدل، تتعايش في أوساطه مختلف الديانات والثقافات، فالسلم مبدأ لحالة التوازن والاختلاف، وليس مجرد حادث سياسي، ويقتضي هذا تحليل الأفكار الفلسفية للنصوص الإسلامية التي تشكل التجربة التاريخية للمجتمعات الإسلامية، في مواجهة اعتقادات شعوب أخرى وثقافاتها[1]، وهذا ما سنتناوله في المقال القادم.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 24/08/2020
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الشروق اليومي
المصدر : www.horizons-dz.com