الجزائر

مفاتيح لفهم علم الوراثة السكانية والأنساب



مفاتيح لفهم علم الوراثة السكانية والأنساب
علم وراثة الأنساب أو السّاكنة، هو علم يهتمّ أساسا بدراسة توزيع الأنماط الوراثية والآليات التي تحدّد التغير الوراثي وسط الفرع العائلي الواحد والساكنة الواحدة وأبعد وأوسع. وذلك انطلاقا من التغيّرات الوراثية الموروثة عن الأصول، ومدى بقائها وكيفية انتقالها من جيل إلى جيل. في العشريتين الأخيرتين توفّر كنز معلوماتي وراثي ثمين، جعل كثيرا من الباحثين والمهتمين والمستثمرين يسعون لاستغلاله، سواء كان ذلك عن علم لخدمة العلم والمنافع التجارية الضيقة، أو عن جهل بفهم سطحي لخدمة التعصب العرقي أو العنصري.

المعطيات الوراثية المتوفّرة كثيرة ومعقّدة ومتشعّبة، ولكنْ في ظل توفر تقنية الإعلام الآلي والذكاء الاصطناعي، يمكننا استغلالها نسبيا في المجالات الحيوية والاجتماعية والتأريخية، وحتى في رسم شجرة الأنساب والأصول بنتائج تبقى نسبية وجزئية إلى درجة كبيرة. وإذا ربطنا ذلك بدراسة مختلف الهجرات الجغرافية الإرادية والقسرية القديمة والوسيطة والحديثة بعقلانية وصدق ومصداقية، فإننا نجدها قد أدّت بالضرورة إلى تنوّع وراثي ومظهري وثقافي نراه ونعيشه ونلتقي حوله ونرتقي جميعا وسويا به.

كثير من المهتمين بموضوع شجرة الأنساب وراثيا عبر تحاليل الحمض الريبي النووي، ومن ثمة جغرافيا وثقافيا وتاريخيا، لا يمتلكون المفاتيح الضرورية لفهم أسس وجودها وتفسير نتائجها، لذلك آثرت التطرق إلى بضعها:

المفتاح الأول:

كان الإنسان يعتمد في تحديد شجرة الانساب على الألقاب والمستندات والمسرودات والمعلومات المتوارَثة بين الأجيال، ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين، وبتوفّر تفاصيل السلسلة النيكليوتيدية المفصِّلة للخريطة الوراثية للإنسان (Le séquençage du génome humain) والتكنولوجيا الضرورية لدراستها، أصبح علم الوراثة من أهم الوسائل المستعملة لدراسة الأنساب. ولكنّ فهم تكوين المادة الوراثية بجميع مكوّناتها، وكيفية العمل بها والتعامل معها، هام وضروري لاستيعاب المعطيات والنتائج وتفسيرها والاستفادة منها.

المفتاح الثاني:

المرجعية التي تُعتمد عند القيام بالتحاليل الوراثية للأنساب عبارة عن عيّنات ومنها بيانات حصلت عليها المخابر من شعوب في مختلف أنحاء العالم تم توزيعها على حوالي 20 إلى 25 منطقة جغرافية. قد تكون هذه العينات لشخصيات تأريخية توفرت مادتهم الوراثية في قبورهم، أو مشاهير قدَّموا عينات بأنفسهم، أو طلبة وعلماء باحثين في مخابرهم، أو متطوعين طالبين دراسة وتحليل مورثاتهم…إلخ. وبذلك تكوّنت في مختلف المخابر والجامعات والشركات التجارية بنوك للمعلومات، تستعمل كمراجع للمقارنة والقياس على أساس وجود مئات الآلاف من الطفرات الفردانية في مختلف الأزواج النيكليوتيدية (Polymorphismes Mono-Nucléotidiques PSN) أو عبر تردّدات التسلسلات المتكررة لقِطع نيكليوتيدية معيّنة (Short Tandem Repeat STR ou Microsatellite ). وتتم المقارنة بين معطيات الشخص المعني بالتحليل وبين المعطيات المرجعية بمختلف القصص التأريخية والعائلية والعرقية بصحيحها وهامش خطئها الكبير.

المفتاح الثالث:

تنقسم المادة الوراثية عند الإنسان إلى قسمين أساسيين: القسم الأول يتمثل في المادة الوراثية الموجودة في النواة (حوالي 3.2 مليار زوج نيكليوتيدي)، وتتمثل في الكروموزومات بعدد 23 زوجا، منها زوج يمثل الكروموزومات الجنسية (X وY). في حين القسم الثاني يتمثل في المادة الوراثية الموجودة في الميتوكوندريا (حوالي 16569 زوج نيكليوتيدي). نلاحظ من جهة أن هذه الأخيرة صغيرة مقارنة بالمحتوى الوراثي النووي، ومن جهة أخرى أنها لا تورَّث إلا من الأم دون الأب. أما في المستوى النووي فالكروموزوم Y يورَّث كما هو دون تغيير ولا تهجين من الأب للابن دون البنت، والكروموزوم X الأبوي من الأب إلى البنت فقط دون أي تغيير أو تهجين (La recombinaison) أثناء الانقسام الاختزالي لتكوين الحيوانات المنوية. أما الكروموزومات الـ 22 الذاتية أو المادة الوراثية الأوتوزومية “L’ADN autosomique” التي نمتلك منها نسختين، واحدة أبوية والأخرى أموية في آن واحد، ومعها الكروموزوم X الأموي، فهي تخضع في كل مراحل تكوين الجاميطات (الحيوانات المنوية والبويضات) لتهجين عشوائي يخلط جل الأوراق الوراثية (La recombinaison aléatoire).

المفتاح الرابع:

إذا أردنا معرفة الأصل الأبوي أو الذكوري كفرع واحد نحو الأصل دون غيره من التفرّعات المتشابكة الأخرى، فإننا نعتمد بالضرورة على الكروموزوم Y فقط، أي النمط الفرداني الأبوي “الهابلوغروب Haplogroupe Y” كنمط وراثي واحد تشترك فيه مجموعة من الناس عبر اشتراكها في سلسلة الطفرات الفردانية أو ترددات القطع المتسلسلة. لأن هذا الكروموزوم لا يمكن أن يتم توارثه من الآباء إلا للذكور دون الإناث. أما بالنسبة للمرأة، إذا أرادت معرفة فرع الأصل الأبوي أو النمط الفرداني الأبوي الخاص بها، فما عليها إلا أن تطلب ذلك من أحد رجال عائلتها الأبوية: الأب أو الأخ أو العم أو الجد أو ابن العم للقيام بالتحليل مكانها.

المفتاح الخامس:

إذا أردنا دراسة الأصل الأموي بعيدا عن الأبوي، فذلك عبر دراسة مورّثات الميتوكوندريا التي نتوارثها جميعا ذكورا وإناثا حصريا عن الأم، أي “الهابلوغروب Haplogroupe ADNmt “، والتي تتميز بكثرة الطفرات وغياب التهجين عند الانقسام الاختزالي وتكوين البويضات. تحدّد هذه التحاليل أو الدراسات الانتماء الإثني أو العرقي عبر الفرع أو النمط الفرداني الأموي الأساس فقط، مثلها مثل النمط الفرداني الأبوي “الهابلوغروب Haplogroupe Y” الذي يحدد نمط واحد فقط، وذلك بعيدا عن الحقيقة الإثنية الواسعة والدقيقة التي تحتاج إلى معرفة كل الفروع الوراثية الأصلية المتشعّبة والمتشابكة.

المفتاح السادس:

يمكن معرفة الأصل الوراثي بطريقة أفضل وأوسع عبر دراسة المادة الوراثية الذاتية “الأوتوزومية L’ADN autosomique”، التي تسمح بدراسة الأصل الأبوي والأموي انطلاقا من المادة الوراثية المشتركة، لأنها مادة وراثية متوارَثة بكل تهجيناتها من كل الأصول ذكورا كانوا أو إناثا. هذه الطريقة هي الأنجع والأكثر مصداقية، لكنها تمدّنا بمعلومات معقدة ومتشابكة وصعبة التحليل بسبب كثرة المعلومات الناتجة عن التهجينات (Les recombinaisons) العشوائية المتتالية التي تنقل تغيّرات جديدة، وقد تصوِّب القديمة عند تنقلها من جيل إلى جيل، مما يصعّب الصعود عبرها بعيدا نحو الأصول القديمة أو العليا في الدراسة، أين يكون الاختلاف كبيرا ومعقدا، ويكون التقارب تقديريا وتقريبيا. لذلك تُستعمل هذه المادة الوراثية لدراسة التقارب والاختلاف بين عدد محدود من الأجيال الحديثة والمتقاربة فقط. رغم ذلك، فهذه الوسيلة هي ذات أهمية ومصداقية كبيرة لدراسة الانتماء، ومن دونها لا يمكن تحديده بنسبة معقولة ومقبولة. ولكن ما نعرفه ونراه أكثر في وسط تحاليل تحديد الأنساب، أن الصحيح غير قابل للاستغلال والمحدود هو الأكثر استعمالا واستغلالا لتحديد الانتماء الإثني، وبذلك التأريخي والجغرافي، بأحكام وتقديرات نسبية صالحة للاسترسال أكثر منها لبناء أحكام وقرارات مطلقة.

المفتاح السابع:

إذا كانت عيّنات المرجعية المستعملة للقياس غير أكيدة، بتحليل جزئي الوسائل والأهداف، وبفرع أموي واحد “مورّثات الميتوكوندريا ADNmt”، لا علاقة له بالمادة الوراثية الأساسية “الأوتوزومية L’ADN autosomique”، أو أبوي وحيد “الكروموزوم Y” فقط، في حين بقية التداخلات الوراثية أو المورّثات الموروثة عن الأصول بمختلف تفرعاتهم وتغيراتهم وتداخلاتهم وتهجيناتهم مهملة في التحليل، فكيف ننسب النسب إلى نسب جزئي دون غيره من النسب…؟

المفتاح الثامن:

الفرع أو النمط الفرداني “الهالوغروب Haplogroupe” لا يحدِّد الانتماء الإثني سواء كان أمويا أو أبويا، وإنما يعبر بمعطياته النسبية عن فرع وراثي منتشر في فضاء جغرافي معين، ولكنه يبقى فرعا من عدة فروع أخرى شخصية وعامة لم تخضع جميعها للدراسة والتحليل. تعتمد الدراسات أو التحاليل على طفرات فردانية وتردّدات السلاسل النيكليوتيدية المتكررة، ولكن يجب أن نأخذ في الاعتبار التصحيحات التي قد تحدث بسبب أجهزة التصويب والطفرات العكسية والتهجينات المتتالية (Les recombinaisons). وللأمانة فالعلم يعلم ذلك والعلماء لا يدّعون غير ذلك، ولكنّ التجار يستغلون المعطيات ولو كانت جزئية من أجل المضاربة المالية أو الهوياتية أو الجيوسياسية بنتائج قد تكون بقصورها تضليلية.

المفتاح التاسع:

انطلقت الإنسانية في الوجود بالضرورة من رجل وامرأة كما هو متفق عليه في مختلف الشرائع والقوانين الطبيعية والتحاليل السلالية… ولكن حسب نتائج الدراسات المعروفة انطلاقا من مورثات الميتوكوندريا “ADNmt” التي تحدد الخط الأموي أو الأنثوي فقط، فإنّ أصل الإنسان من الأم الأولى المشتركة (حواء الإفريقية) يعود إلى حوالي 150 ألف سنة. أما الأصل الأبوي (آدم الإفريقي)، المحدد انطلاقا من تحاليل الكروموزوم Y “الهالوغروب Haplogroupe Y “، فيرجع إلى حوالي 60 ألف سنة في إفريقيا. نلاحظ أن الفارق الزمني بين “آدمهم” و”حوائهم” في الوجود الافتراضي حوالي 90 ألف سنة. مُعطيات، غريبة ومتغيرة وقابلة للتغيير، إن دلّت على شيء فإنما تدل على نسبية صحة نتائج التحاليل السلالية وقابليتها للتصويب.

المفتاح العاشر:

الأصل الإنساني في نظري واحد ووحيد من آدم وزوجه معه بجانبه، والمورثات التي كان يحملها الإنسان الأول بالضرورة كانت تختلف عن تلك التي كانت تحملها أنثاه، وذلك لتكُون على مر الأجيال وتعاقبها أساسا للتنوع الأليلي الوراثي والمظهري الذي ورثناه نتيجة التهجين العشوائي المنقول. كل هذه التهجينات الوراثية الناتجة عن التزاوج المتقارب والمتباعد أدّت بالضرورة إلى تفرعات متشابكة تناقلت معها مختلف الطفرات والتغيرات من جيل إلى جيل، بتصحيح أو من دون تصحيح. وكل الثراء النوعي الوراثي والمظهري الذي نراه أو لا نراه ونعيشه ونعيش معه وبه كان نتيجة لذلك. فكلنا هجين اختلطت فينا جينات أصولنا بكل تهجيناتها، ومن يقلْ غير ذلك فليراجع معارفه الوراثية وغروره الإثني، فالأبيض مظهريا قد يحمل جينات إفريقية في غير جينات لونه، والأسود يحمل جينات تجدها عند الأصول الأوروبية كذلك، فقط علينا أن نبحث فيها وعنها جميعها لنعي ونعلم: أننا هجين كلنا… بأصل واحد وفروع متشابكة ومعقّدة في فضاء تأريخ مورّثاتنا الإنسانية.

وفي الأخير:

آدم الأول كان بالضرورة من دون طفرات وراثية، فهو بذلك المَرجع الذي يحمل الأفضل بتقدير مُحكم… وكلما حدثت طفرة في جيل بعده نحصل على فرع جديد في الجيل الجديد… هذا هو أساس البحث والدراسة في هذا المجال.

والسؤال: هل آدم الإنسان يختلف عما سبقه من البشر أو أشباههم رغم تشابه المادة الوراثية بينهم إلى أبعد الحدود؟

المادة الوراثية إرث مشترك بين كل الأحياء كأساس وظيفي وبنيوي، فكما جُعل من الماء كل شيء حي، جُعلت المادة الوراثية في كل كائن حي. والتشابه في سلسة المادة الوراثية عند مختلف الكائنات الحية، من صغيرها إلى كبيرها ومن أبسطها إلى الأكثر تعقيدا منها، يعود إلى التشابه الوظيفي للبروتينات التي تعبّر عنها. وبناء على ذلك وليس فقط، يمكن اعتبار التشابه الوراثي بين المخلوقات غير الإنسانية التي وُجدت كبشر ولم يبق لها في الواقع الحيوي أثر، كائنات أخرى يتميز الإنسان الآدمي عنها بالعقل والوعي والعلم والنطق وكل ما رفعه وميّزه عن غيره من المخلوقات وراثيا ومظهريا وبنيويا ووظيفيا… وبذلك فنحن أبناء الإنسان الآدمي الأحدث بكل التغيرات الخلقية الوراثية التي جُعلت فيه لتكريمه، وكانت سببا في ظهور الزراعة والفنون والكتابة والتعبير وكل ما يميز الإنسان عن غيره من بقية الخلق والحيوان… ودائما “الله يجيب الخير”.



سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)