الجزائر

معرض الكتاب والعضلات



معرض الكتاب والعضلات
كان صالون الكتاب في طبعة 2012 مكسبا للبلد وللمشاركين، وقد يمثل ذلك فرصة لاكتشاف الأسماء والعناوين والاستفادة من الخبرات والمحاضرات والندوات واللقاءات الأدبية والعلمية.
ثمّة دائما ما يغني العقل والروح، وما يثير المساءلات ويضعك في حجمك الحقيقي، كقارئ وككاتب، إن كنت كذلك.
وبالمقابل هناك دائما ما ينغّص عليك تلك الأجواء السعيدة التي يوفرها لك المعرض والمبدعون. وما أكثرها العوالم التي تسفسف كل أبهة جمال وهدوئه، وتواضعه أيضا.
إني أعتقد أن هناك قضايا أخلاقية وَجَبَ الاهتمام بها في القريب العاجل، لأنها مضرّة بالكتابة، وربما ألحقت أضرارا بالتوازن البيئي وبالعلامات قاطبة.
كنتُ، ومنذ سنين، أهاب المشمّرين والهرولة التي لا ضوابط لها، ذلك أنها من أتعس المظاهر التي تسم الكتابة والثقافة.
لا يمكن، مهما كانت ثقافتنا وعبقريتنا، القفز على الحلقات الثقافية والفنية والتاريخية التي أنتجتنا، لأننا، في نهاية الأمر، لسنا سوى امتداد لهذا الآخر الذي نريد التنكر له بمحوه، أي بقتل الأب كما في منطق بعضهم، وفي الأحاديث المتواترة بين المبدعين، إن كانوا مبدعين حقا.
أصبح هذا السلوك قاعدة، وأغلب الظن أنه منتوج جلسات المقاهي التي لا تعرف كوعها من بوعها. وذاك ما يحدث فعلا. يجتمع رهط ويقرر أنه المبتدأ والخبر والمصدر والمرجع.
رأيت في المعرض وسمعت من يمحو الشعراء الجيدين والأكاديميين المكرسين والكتاب والروائيين والمفكرين، وبلا سبب، أو تأسيس على معرفة قاصرة. عندما نتحدث عن نجيب محفوظ باستخفاف، فمعنى ذلك أننا تمثلناه وتجاوزناه، وأن تجربتنا القصيرة بلغت مرحلة من النبوغ بحيث نستطيع إلغائه ليغدو مجرد ذكرى، ما يشبه تجربه قديمة لا شأن لها.
وكذا الأمر بالنسبة للآخرين، وخاصة أولئك الذين أنجبهم البلد.. رضا حوحو، عبد الحميد بن هدوقة، الطاهر وطار، مولود فرعون، وبقية الشعراء الذين كتبوا في سياقات مخصوصة. وأما الشعر من منظور الفئة الكنودة، مع ضرورة كتابة صفة “كنودة" بخط بارز ووضع سطر تحتها ليفهمها القاصي والداني، فلم يظهر إلا مؤخرا قبل سنين قليلة، أي مع مجيئ “الحداثيين" الجدد، أولئك الذين على وشك إلغاء التجربة والحلقات السابقة، وربما اللاحقة.
سمعت في المعرض، على سبيل التمثيل، من يتخذ غابرييل غارسيا ماركيز هزؤا، ويبدو أن هذا المرض المعدي سينتقل إلى درجة أعلى ليلغي سرود كافكا وتولستوي وراسبوتين وتشيكوف وقصائد بودلار والمعري ووايت مان وبوشكين. من يدري؟
وقد سمعت أيضا من يقول إن أدونيس تجاوزه الزمن، شعرا ونقدا. لم يعد لكتابه الثابت والمتحول أي معنى، مع أنه يتعذر على عشرات القراء مجتمعين فهمه، دون الحديث عن إمكانية تأليف يصل إلى ربع مستواه أو عشره. ويجب التنبيه في هذا السياق العابث، أن أدونيس لا يرفع اسم إن وخبر كان. كما أنه لا يتعامل مع الجمل التي تشبه مسارات الحلازين، ولا مع تلك التي لا تختلف عن المسامير وقطع الغيار المستعملة والرثاث المهمل.
من المفارقات التي لن يفهمها الشيطان أن نطلب من محمود تيمور كتابة القصة على شاكلتنا، هو والهمذاني وعنترة، الأول في المقامة والثاني في الشعر. أي أن نحكم على الموروث ومن سبقونا بأدوات نقدية حديثة العهد، ووفق ذائقتنا، إن كانت لنا ذائقة أصيلة غير مستوردة مع الأشكال والتقنيات التي نحاكيها بحرفية.
فكما أننا لا نستطيع قياس الطريق بالكيلوغرام، فإنه يتعذر قياس منتوج السابقين بمقاييس لم تكن قائمة. أي أن علينا كما يقول النقد الجديد، أن نولي الاهتمام لزمن الإرسال وزمن التلقي. ومن العبث التمادي في إطلاق أحكام تحتاج إلى منطلقات مؤسسة على عدة أصعدة، خاصة إذا كنا لا نعرف كيف نكتب جملة صحيحة. وعلينا، إن كنا نرغب في ذلك، إعادة قراءة نصوصنا التي تفتخر بمئات الأخطاء التي لا تليق بمبدعين على اختلافهم.
من أين جاءت هذه اللعنة؟ ربما كان للمجاملات دور في هذه المحنة، إضافة إلى انحسار النقد وظهور التكتلات واللوبيات والمصالح الظرفية التي أصبحت تتحكم في المؤسسات النقدية برمتها. وهناك الجهل، وروح الجاهلية التي تفشت في أوساط المبدعين بدءا بالعلاقات المشبوهة والصدامية، بالهمز واللمز والاستعلاء المدمر. عكس ما عرفناه عند القدماء الذين أسسوا لإبداع استمر لقرون.
ذكرت الأسماء بأسمائها لأن مبدأ الإقصاء تجذر فينا، ولم يعد ممكنا سماع تلميذ طرد في السنة الرابعة ابتدائي ينتقد عبقرية الآخرين، دون سابق معرفة بما يكتبونه.
وكذا الأمر بالنسبة لمبدعين آخرين يعتقدون خطأ أنهم مركز الإبداع، لا شيء قبلهم وبعدهم عدم. أي أن الجمال ولد معهم ويموت بموتهم، كما تموت الموهبة والملكة.
لا أجد في هذا السلوك سوى حالات مرضية، وقد يغدو لقاء كاتب من هذه الفصيلة عقوبة ربانية. ذلك الإحساس الحقيقي الذي ينتابني في المعرض الدولي للكتاب ويتخيلني حينئذ في صحراء ملأى بالأنبياء وذوي الكرامات، وبكتب منزلة من السماء وليست من تأليف بشر لهم سلبيات وإيجابيات وزلات وإبداعات راقية، ببصيرة نافذة أحيانا وعمياء أحيانا أخرى.
ماذا لو كان هؤلاء بحجم تولتستوي وماياكفسكي وهنري ميللر وعزيز نسين وصاحب كتاب تقرير إلى غريكو؟ لا بد سيعتبرون الأمة قطيعا من المعتوهين، وسيكون الأجداد رمادا. وذلك ما نسعى إلى تكريسه في ظل الاستثمار السيئ لوسائل الإعلام وشبكة التواصل الاجتماعي التي تصنع الأمجاد الوهمية.
وفي ظل هذا الوضع البائس الذي يقلل من قيمة الآخر ومن قيمة الأخلاق، بجعل بعض الثقافة نبوة وألوهية شأنها شأن الإبداع، فإننا نتوقع ظهور أسماء خرافية تسيطر على المشهد الأدبي وتمثل الجزائر في كل المحافل الدولية. وإذا كان ذلك حاصلا نسبيا فإنه سيتقوى بعد أعوام قليلة، وسنجد فئة قليلة تمثلنا في الشعر والقصة والرواية والمسرح والفتوى والتاريخ والجغرافيا والنقد والأدب الشعبي والسياسة وعلم الفلك.
لم أجد هذا المعرض عند الآخرين، رغم اختلافاتهم. كأن الجزائر لا تتسع لمجموعة من الكتاب، كانوا من الأبالسة أم من الملائكة، قدامى أم محدثين، كتاب القصيدة العمودية أو الحرة أو النثرية. لقد ضاق البلد وأصبح للإبداع سلاطينه وأباطرته. وها نحن نبدأ دائما من الصفر.. لا شيء قبلنا ولا أحد. كان البلد غمرا إلى أن جئنا مشمرين كالعادة، وها قد شرعنا في خلق السماوات والأرض وما بينهما. أليست هذه لعنة أتعس من لعنة ما سمي بلعنة السبعينيات؟ إنها أتعس بملايين المرات. أخلاقيا على الأقل.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)