الجزائر

معتقل تيفيشون ... رائحة الموت وذكرى البطولة



معتقل تيفيشون ... رائحة الموت وذكرى البطولة
عادت ”الفجر” 55 سنة إلى الوراء، مقتفية آثار أحد أشهر المعتقلات الاستعمارية، التي سجنت فيها نساء ورجال شاركوا في الثورة التحريرية، تنبش في علاقة السجانين الفرنسيين بمناضلي ومجاهدي ومسبلي جبهة التحرير والمتعاطفين معها، فلم تجد سوى رائحة التراب الذي بنيت عليه زنزانات جماعية للمعتقلين، تنبعث منه رائحة الشجاعة والنضال السياسي الذي نضج أكثر بين أسوار هذا المعتقل المسمى بـ ”تيفيشون”، وحصلت على شهادة تروي كيف تحول المعتقل إلى مصنع تقليدي لتزويد الثوار بالألبسة الصوفية، وكيف أصبح مدرسة لتلقين الأناشيد الوطنية وخلية مخابراتية تجمع فيها كل المعلومات المتصلة بتحركات العدو الفرنسي وجيش جبهة التحرير الوطني. في هذا التقرير الميداني تصف ”الفجر” مشهد إطلاق سراح سجينات تيفيشون وتعرض وثيقة إخلاء سبيل إحدى سجيناته.



”تيفيشون” واحد من مئات مراكز الاحتجاز التي تركتها فرنسا في الجزائر المستقلة، شاهد على طغيان الآلة الاستعمارية الفرنسية، لا يعرفه إلا المجاهدون والمجاهدات الذين اعتقلوا فيه، ولا

يزالون على قيد الحياة، أما الذين فارقوها فقد أخذوا معهم ما عاشوه داخل أسواره وقلة منهم من ترك أسراره لأبنائه وأقاربه، في ظل شح المعلومات وغياب كتابات تاريخية مختصة حول السجون والمعتقلات الاستعمارية على كثرتها، وأغلبها عقارات استغلت بعد الاستقلال من منظمات أوجمعيات وحتى مراكز تكوين كما هو حال معتقل تيفيبشون.

فبعد مرور خمسين سنة عن استقلال الجزائر، لم يعد لتيفيشون أي أثر مادي أومعنوي، ما بقي منه فقط هو نصب تذكاري وضع بعد الاستقلال، مكتوب عليه هذه العبارة ”تأسس هذا المركز من طرف العدو الاستعماري سنة 1957، الخاص بالتعذيب والاستنطاق والتأثير المعنوي والجسدي على المجاهدين والمناضلين للحصول على المعلومات خاصة السياسيين منهم الذين يلقى القبض عليهم في مختلف نقاط التراب الوطني، وقد دام هذا المركز منذ تأسيسه إلى غاية سنة 1962 ” .

فبفضل هذا النصب يعرف أبناء جيل ما بعد الاستقلال، أنه في هذا المكان اعتقل مئات من الذين حرروا الجزائر، لكن المؤسف أنه من أبناء الجزائر الحرة، وحتى بين أبناء السكان المجاورين له من لا يعرف حقيقة هذا المكان، حسب ما تبين لـ ”الفجر” عند زيارتها له.

يوجد النصب التذكاري عند مدخل المركز الوطني للتكوين المهني للمعوقين جسديا ببلدية خميستي الواقعة ببواسماعيل بولاية تيبازة، وهو الدليل المادي الوحيد الذي يعرف بالأصل التاريخي لهذا المعتقل الفرنسي الواقع حاليا تحت وصاية وزارة التضامن الوطني، بدل وزارة المجاهدين، بعدما محيت كل آثار الاعتقال فيه، وحول إلى مركز يخدم فئة المعوقين. ويقع في منطقة ريفية بـ ”خميستي المدينة” أوكما يسميها أهلها ”تافشون”، ولا توجد أية إشارة اولافتة في الطريق تدل عليه. كبار السن من السكان في بلدية خميستي الهادئة ومن تبقى من مجاهدي المنطقة يدلون السائل عنه بكل سهولة وينبهونه إلى انه تحول إلى مركز للتكوين، أما الشباب الذين استدل بهم فريق ”الفجر” للوصول إليه فلم يتعرفوا عليه إلا بعد أن ذكرنا لهم صفته الحالية.

ولأنه من الصعب العثور على واحد من المسجونين فيه إبان الثورة التحريرية، ليدلي لنا بشهادته، خاصة أن تواجدنا بتيفيشون تزامن مع تنقل مجاهدي المنطقة إلى ولاية مجاورة، لجأنا إلى البحث عن خيط رفيع قد يوصلنا إلى استذكار لحظات أومحطات وجيزة من عمر مسجوني الثورة في هذا المعتقل، فالتقينا بسيدي فرج في العاصمة، المجاهدين ”بوسيف صباح” و” غيلي لاحسين” المعروف بالاسم الثوري ”شيلي” ، الرجلان كانا همزة وصل مع المعتقلين، وكانا شاهدين على عملية إطلاق سراح السجينات سنة 1962.

السجينتان ”نجيمة أكلي” و”زمبوجي” ..الزعيمتان

عمي بوسيف كان مسؤول خلية ببلدية سطاوالي سنة 1955 مع جماعة الشهيد ”بلخضر الطاهر”، المكلف آنذاك بتجنيد المجاهدين، وكان من الشبان الجزائريين الذين أدوا الخدمة العسكرية بثكنة في مدينة تولوز الفرنسية، تفرغ للتواصل مع سجينات تيفيشون بعد عودته من فرنسا وكان رفقة صديقه المجاهد ”شيلي” الذي كان يزور قريبته المسجونة في تيفيشون المدعوة ”نجيمة آكلي” وكان عمرها حوالي 20 سنة، استقدمت من بجاية أين كانت تنشط في صفوف جبهة التحرير الوطني، بعد التحقيقات العسكرية التي لم تثبت حملها للسلاح، وكانت معها سيدة من العاصمة كبيرة مسنة لقبها ”زمبوجي” واسمها الكامل ”رحماني بوزينة مليكة”. وحسب وثيقة الخروج التي حصلت عليها ”الفجر”، وهي من عائلة ثرية امتلكت الكثير من العقارات في الجهة المقابلة لمقر مجلس الأمة من الجهة البحرية.

يروي عمي بوسيف وسي شيلي الذي يوجد في حالة صحية متدهورة، أن المجاهدتين كانتا مسؤولتين عن مجموعة من السجينات في إحدى قاعات المعتقل، الذي كان يضم ثلاث قاعات كبيرة (بناء جاهز)، تحوي كلها حوالي 300 سجينة، كما كانت توجد قاعتان للمعتقلين الرجال يتم الفصل بينهم عن طريق سياج. والمفاجأة عند معاينتنا للمكان، أن كل هذه القاعات تم هدمها ولم يبق لها أي اثر، مجرد أرضية نبتت فيها بعض الحشائش والأشجار، فلم يعد هناك أي دليل مادي على وجود مركز فرنسي للتعذيب والاستنطاق كما هو مدون في لوحة النصب التذكاري.

وبحسب المجاهد بوسيف الذي لا يملك العدد الكامل للمعتقلين رجالا ونساء، كان هذا المعتقل لا يقوم بتعذيب السجناء، فكما سماه المستعمر- وحسب بعض الوثائق التي تحصلت ”الفجر” عليها- كان يسمى ”مركز الإيواء تيفيشون”، نسبة إلى دوار ”تيفيشون” وكان يحتجز المجاهدين والمناضلين مع جبهة التحرير وكل من تثبث صلته بها من بعيد أوقريب، بعد تخطيهم مرحلة التعذيب في المراكز التي قدموا منها من مختلف ولايات الوطن.

وكان عمي بوسيف وشيلي يزوران السجينات، يوم كل أربعاء على الساعة الواحدة زوالا وينهيان زيارتهما على الساعة الثالثة، كما ينص عليه القانون الداخلي للسجن، وكانا يؤمنان لهن كل الحاجيات من أكل ولوازم نسائية وأقلام الرصاص ورسائل ، وأدوات الحياكة الصوفية، والخياطة، وكلها يتم اقتناؤها من عند بائع بسطاوالي هو ”كايتي محمد” لا يزال على قيد الحياة، وكان يبيعهم هذه المستلزمات بسعر الجملة لعلمه انها ستوجه للمجاهدات بالمعتقل.

تيفيشون الفرنسي مصنع ألبسة الثوار

يتذكر المجاهدان جيدا كيف كانا يجمعان الألبسة الصوفية من قمصان، جوارب وقفازات وقبعات كانت تحيكها السجينات بالصوف التي كان يشتريها لهن في كل زيارة، لتخرج مرة أخرى عبر بوابة المعتقل، مع عمي بوسيف وسي شيلي في الزيارات المقبلة، بحجة أنها ألبسة موجهة إلى الغسيل عند عائلات السجينات، بعد أن تقوم بتمريغها في التراب داخل المعتقل، ليعتقد الحراس أنها فعلا ملابس متسخة، وكم كان سهلا اقناعهم بذلك يقول عمي بوسيف، فذكاء وحيلة السجينات كانا أقوى من فطنة السجانين الفرنسيين.

بعد ذلك تبدأ مهمة توصيل ”سلعة المعتقلات” إلى ثوار جبهة التحرير الوطني، فتتكفل جماعة مكونة من سيدة من بوشاوي اسمها ”زوينة” (وهي قزمة) وميلود لخضر وبولرجم النذير، وكلهم استشهدوا، بنقل الألبسة المنسوجة في سجن تيفيشون، إلى المنطقة الخامسة، يستلمها منهم ”سي بلقاسم مطروش” المعروف ثوريا باسم ”فراسكا” وهولا يزال على قيد الحياة وتعذر علينا الوصول إليه لضيق الوقت، وكان معه في هذه المهمة الرائد بن حمديد.

يتذكر عمي بوسيف جيدا أن هذه المهمة لم تكن سهلة، ويذكر أسماء نساء شاركن خارج أسوار المعتقل، في غسل هذه الملابس، وهن أخته بوسيف فطومة، وسيدة تعرف بتابنياشوت، السيدة عباس، لجاجي، عميل، وهن من تولين نقلها إلى مناضلة أخرى اسمها ”طاطا قوريش”، تعمل على خياطة الممزقة منها وتعديل ما يمكن تعديله، حتى تصبح جاهزة ليرتديها المجاهدون في الجبال. وسر الثقة في طاطا قريش هو أنها كانت محل ثقة الإدارة الفرنسية، لأنها كانت تخيط ملابس الجنود الفرنسيين وزوجها صانع متفجرات تقليدية، كانت ورشته تقع بالقرب من فندق الشيراتون حاليا.

ما يعرف شاهدا ”الفجر” عن سجينات تيفيشون، أنهن كن يعشن حياة نضالية جديدة داخل أسوار هذا المعتقل، يتعلمن سرا الأناشيد الوطنية والقراءة والكتابة ويتناقلن أخبار جيش التحرير خطوة بخطوة، بفضل ما كانت ترويه لهن عائلاتهن والكثير من المجاهدين الذين كانوا يزورونهن كل أربعاء، من مختلف الولايات التاريخية التي استقدموا منها، بعد عمليات الاستجواب والاستنطاق التي تعرضوا لها عن طريق أبشع وسائل التعذيب الممارسة في الحقبة الاستعمارية. لقد كان المعتقل خلية استخباراتية حول أحداث الثورة فكل الأحداث التي سجلتها شوارع ومدن الجزائر وجبالها، تصل آذان المعتقلين وتدور حولها نقاشات بناءة.

الحايك يغطي تيفيشون يوم الإفراج العام

تلونت قرية تيفيشون يوم 30 مارس 1962 باللون الأبيض، لون ”الحايك” الذي ارتدته السجينات عند حصولهن على حريتهن، وكن متجمعات أمام مخرج المعتقل، تنتظرن عمي بوسيف لينقلهن إلى بيوتهن، في سيارة نفعية استأجرها بمبلغ 50 دج، فنقل مجموعة منهن إلى المطار لتتوجهن إلى ولاياتهن الأصلية، بما فيها الولايات الجنوبية، ومجموعة أخرى توجهت إلى القصبة، بينما قضت مجموعة ثالثة ليلتها في أكواخ كانت موجودة بزرالدة، ريثما نقلن إلى مقرات سكانهن في الأيام الموالية. لقد كان مشهد إطلاق سراح السجينات دفعة واحدة مثيرا جدا - حسب ما رواه هذا المجاهد- متأثرا كثيرا، بشجاعة السجينات وفرحتهن وعزتهن، مشيرا إلى انه لم يتابع عملية الإفراج عن الرجال المعتقلين. وقد حصلت ”الفجر” على وثيقة إطلاق سراح السجينة ”رحماني بوزينة مليكة” موقعة من الرائد الفرنسي الذي كان يدير المعتقل، إذ لا يبرز اسمه في الوثيقة لقدمها، وصدرت بموجب مرسوم رقم 618 مؤرخ في 5 مارس 1962.

المعوقون يتكونون على أنقاذ السجن الفرنسي

لم تفكر وزارة المجاهدين في الاحتفاظ بهذا المعتقل، ليبقى شاهدا على جرائم الآلة الاستعمارية الفرنسية، مثلما كان الحال عليه بالنسبة للكثير من السجون والمحتشدات، والعديد من الشواهد التاريخية الحية التي أهملت وتحول بعضها إلى سكنات خاصة أومقرات لهيئات عمومية وخاصة، بينما ترمى الأوساخ وتجول الحيوانات الضالة في بعضها الآخر. وتيفيشون بعد أن هدمت قاعاته أصبح بموجب المرسوم رقم 81/397 المؤرخ في 26 ديسمبر 1981 المركز الوطني للتكوين المهني للمعوقين جسديا، شيدت فيه 17 بناية جديدة بينها مراقد نسائية ورجالية، حسب ما أفاد به مديره بن أمزال مراد، الذي أوضح أن المركز كان مزارا لمجاهدي منطقة خميستي، في كثيرا من المناسبات التاريخية، يستذكرون فيه اللحظات التي قضاها بعضهم أوأقاربهم فيه، وتم تغيير صفته إلى مركز وطني لتكوين المكونين والدراسات والبحث التطبيقي في مجال الإعاقة والمجال الاجتماعي، كون هذه السنة 1410 مؤطر مختص. وله سمعة طيبة على المستوى الوطني نظر لجدية التكوين والمتابعة، ولأنه يتوفر على ظروف استقبال حسنة، ويوفر تخصصات هامة جدا في هذا المجال كالجينوتولجيا الخاصة بالأشخاص المسنين المعوقين، دينامكية الفوج، الاتصال التطبيقي، البداغوجيا المتخصصة، الاغونوميا، الإعلام الآلي على البراي..الخ.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)