الجزائر

مطرقة التفكير وزجاج التكفير



مطرقة التفكير وزجاج التكفير
*جامعي بجاية«عندما نربط الأفكار بالأشخاص، نحرم أنفسنا من الفكرة الجيّدة التي تأتي من العدو ونتورط بالفكرة السخيفة الآتية من الصديق”مالك بن نبي من قتل عبد القادر علولة؟ لن أقول الكثير عن هذا المخرج والممثل والمؤلف والمنظر الجزائري الكبير الذي اغتالته اليد الحمقاء الجاهلة المتطرفة، مغسولة العقل والشخصية والهوية. أردت أن أبدأ مقالي بهذه القصة التي تحمل أكثر من دلالة وأكبر من درس: عندما ألقي القبض على قاتل شهيد المسرح الجزائري والعالمي عبد القادر علولة، سُئل القاتل المتطرف ذو الثمانية عشرة سنة: هل تعرف من أنت قاتله؟ فكان جوابهُ كالآتي: “قيل لي إنّه كافر وإنه هو الذي كتب مسرحية ملحدة يهاجم فيها الرسول محمد (ص) واسمها “سي محمد خذ حقيبتك وارحل” وكيف ذلك وهل يرحل الإسلام من بلادنا .. لذلك قتلته”. المسرحية أولا في أصلها للروائي الجزائري كاتب ياسين وليست للشهيد علولة، ثم إن قيمة المسرحية ومغزاها يقول “يا سي محمد” (وهو لقب شائع يطلق على أي مواطن جزائري) خذ حقيبتك من مهجرك في فرنسا وعد إلى بلدك الجزائر لتساهم في بنائها. ومن سريالية وعبثية هذه القصة أن الشهيد علولة كان قد أسس وقتها (بداية التسعينيات) جمعية لمساعدة مرضى الكلى، وكانت إحدى المستفيدات منها هي أمّ القاتل نفسه .والآن نطرح السؤال: ألسنا نعيش نفس السيناريو تقريبا بنفس الأركان والمظاهر الجانبية، في زمن أخذ فيه التكفير حيزا خطيرا تجاوز الحدود الحمراء والبرتقالية؟هذه القصة جعلتني أختار عنوانا لهذه الورقة: مطرقة التفكير وزجاج التكفير، متيقنا أنه مهما اقتربنا من التفكير الصحيح والعلم الصريح استطعنا أن نكسر زجاج التكفير وفتاوى القتل والتهجير. مدخل القضية: أخطأ داود، أخطأ حمداش.. وأخطأ الذين من بعدهم، وأخطأنا في فيما بعد باتهام الجميع بالخطأ. لم أكن لأكتب هذا المقال لولا حادثتين أساسيتين عشتهما بعد الموجة التي تمخضت عن ما بات يسمى قضية “داود - حمداش”. الأولى تتعلق بمحاولتي مناقشة أحد الأشخاص على (فايسبوك) كان قد شنّ حملة شعواء ضد الكاتب والإعلامي كمال داود، مرددا في كلامه ومفصّلا في فتوى رئيس جبهة الصحوة السلفية غير المعتمد، حمداش زيراوي، وكفّر كل من لا يكفّر كمال داود. وبمجرّد أن طلبت منه بلباقة الدليل الشرعي من الكتاب والسنة على فتواه الفايسبوكية الخطيرة، أخذ ينعتُني بالزنديق والمنافق وأنني لا أغار على ديني وأن إسلامي مشكوك فيه ووابل من الدّعاوى.. اللهم.. الخ. وما أثار استغرابي ودهشتي هو الدّعم الذي لقيه في تهجمه عليّ بتلك الطريقة من طرف أشخاص آخرين وازدياد عدد الصفحات التي تتبنى هذا الطرح.أما الحادثة الثانية، هي ملاحظتي أن بعض القنوات الخاصة سلكت سلوكا غريبا بإعطاء القضية أكثر مما تستحق والإضفاء عليها بالحصص والبلاطوهات والنقاشات والاتجاهات المعاكسة والمتنافسة. تمخض الفأر فولد جبلا، نعم، وليس العكس، لأن القضية أخذت أضعاف ما تستحق وكان لها أن لا تنتج لنا غوغاء إعلامية وهرجا ومرجا فايسبوكيا لو تمت معالجتها سياسيا، ثقافيا وإعلاميا بالطريقة المناسبة، كيف لا وفي الوقت الذي يصنع إخواننا التونسيون عرسهم الانتخابي وانتصارهم الديمقراطي وجدنا فئات عديدة وواسعة من المثقفين والكتاب والشعراء وبعض رجال السياسة الجزائريين قد أحالوا هوائياتهم المقعرة على مسألة الهويّة والدخول في صراعات هامشية، جهوية، فئوية انتمائية لا تخدم السواد الأعظم من الشعب ولا طبيعة المرحلة وجرح غرداية لم يندمل بعد.أما بعد للقضية دروس: الدرس الأول: التطرق إلا مسائل الدّين والتاريخ واللغة بالطريقة والجرأة التي سلكها الكاتب كمال داود في روايته الأخيرة (ميرسو.. تحقيق مضاد) وفي تصريحاته على القنوات الفرنسية، بحاجة إلى مراجعة متأنيّة من طرف الكاتب لنفسه خاصة أنه في بداية مشواره الأدبي، وأخذ بعين الاعتبار الحساسيات الدينية والتاريخية التي تميز المجتمع الجزائري بمختلف فئاته وانتماءاته. من حق الكاتب أيّا كان أن يعبر عن رأيه وأن يحمل هواجسه وأحلامه لشخوص خيالية يجعلها أبطالا لرواياته، ولكن في حدود المعقول وعدم تجاوز الخطوط الحمراء في الإساءة لبعض مظاهر وجواهر الدّين والتاريخ والذاكرة. الدرس الثاني: معالجة إنتاج إبداعي سواء أكان كتابا أو فيلما سينمائيا أو مسرحا بالطريقة الثيوقراطية التي انتهجها زيراوي حمداش، لا يمكن لها سوى أن تصنّف في خانة جريمة (قابيل وهابيل)، خاصّة أن الفتوى تحمل جرعة من الإصرار والترصّد بالإضافة إلى أنها تنشر مشاعر الخوف والحقد والكراهية بين أبناء البلد الواحد وتنمّي ثقافة الإرهاب الديني والقتل والانتقام وزرع عناصر الفتنة بين أبناء وشرائح المجتمع، يمكن فقط أن نتذكر كيف قتل في العشرية الحمراء: إسماعيل يفصح (بعد اتهامه أنه ذو فكر شيوعي) والشاب حسني، وعبد القادر علولة كما أسلفنا والقائمة طويلة، ولا شك أن جيل اليوم شاهد كيف اغتيل الشيخ والعلامة السوري سعيد رمضان البوطي، 24 ساعة بعد فتوى القرضاوي بإهدار دمه. الدّرس الثالث: طريقة معالجة القضية من طرف النخبة أو جموع الكتاب والمثقفين بطرق دوقماطية شوفينية، سواء بالانتماء إلى أحد الطرفين أو بعدم الإدلاء بالرأي أصلا، تدعو للقلق ودق ناقوس الخطر عن حجم براميل البارود التي ننام عليها. إذا كانت صفوة المجتمع وخيرته من المثقفين تسكت عن أمور أقل ما يقال عنها أخلاقية بامتياز، ينطبق عليهم ما قاله مارتن لوتر كنج: “إن أسوأ مكان في الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يبقون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة”، وإما أن تدخل في المعترك وتركب أمواج جهة معينة غير أخرى، هنا إننا أمام تحديات كبيرة لحمل مشعل التنوير والتقدم وتوجيه الجماعات الكبرى من المجتمع. وفي هكذا أحداث وقضايا وفي غياب تأطير لكل أشكال الغضب والانتقام والعفوية الناتجة من تصريحات لا مسؤولة كالتي أطلقها حمداش، يصبح الجميع ضحية الإشاعات والتوجيه من طرف جهات لا تخدم إلا مصالحها الشخصية سواء أكانت سياسية أو أيديولوجية مفلسة، وهنا مربط الفرس.مخرج القضية: كي لا تتكرر جرائم كالتي راح ضحيتها علولة والشاب حسني وإسماعيل يفصح وطاهر جاووت والجيلالي اليابس وكل ضحايا فتاوى القتل وإهدار الدّم، كي لا تتحور الشريعة وسيلة لقطع الرؤوس عوض أن تكون وسيلة لسعادة الإنسان، كي لا يتحول التكفير إلى زجاج يرمي فوق رؤوس الناس وتحت أقدامهم، وكي لا يتحول الأدب إلى مساحة معركة لتصفية حسابات التاريخ والذاكرة والدين، كي لا تلهث قنوات الإعلام وراء كل شاردة وواردة لا تسمن ولا تغني من جوع وتجيش الجيوش لإشعال النار بدل إطفائها، كي لا يتخندق المثقفون و«المعولون عليهم لإطفاء نار الجهل” داخل متاهات أيديولوجية، لغوية، انتمائية، جهوية، إقصائية، عفوية ويجرّون وراءهم بقايا المجتمع الفاقد للبوصلة. كي لا نلعن ما بقي من الإبداع والعقل الجزائري ونبصق في الصحن الذي أكلنا ومازلنا نأكل منه.. كي لا أكتب أكثر من هذا، على كل واحد منا القيام بواجبه الحقيق في إطار مشروع صناعة مجتمع متكامل متجانس بكل انتماءاته، يحمل مسؤولية النهضة الفكرية والعلمية كمطرقة يكسر بها زجاج الجهل والأمية والعادات القروسطية. [email protected]




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)