سمعنا عنه الكثير، وعلمنا أنه يصارع ذاكرته التي طرقت باب التسعين لتوثيق ما يمكن توثيقه من أحداث تاريخية، وهو الذي كان له الفضل في تأسيس الترجي الفالمي، وناضل في صفوف ''نجم شمال إفريقيا''.. المجاهد عمار عيساني، الذي تحمل كل شعرة بيضاء في رأسه ألف حكاية وحكاية، لتبقى المكيدة التي دبرت لمسؤول الولاية التاريخية الأولى، مصطفى بن بولعيد، غصة في قلبه.
اتصلت ''الخبر'' بالمجاهد عمار عيساني، وأعلمناه بنيتنا في لقائه، فوعد بمهاتفتنا ما إن ينزل ضيفا عند ابنه وكنّته بفالمة، وهو ما كان، إذ، وبعد فترة وجيزة، كلمنا وكان لنا ما وعدنا به.
توجهنا صوب منزل ابن الحاج عمار عيساني، المتواجد بحي ''الصفصاف'' في فالمة، بعد أن اتصل بنا ليعلمنا بوصوله من قسنطينة، التي يقيم بها. ولجنا غرفة الاستقبال فسارعت كنّته لإحضار المشروب والحلوى، وخصّتنا بحفاوة الترحاب. وبعد حديث مقتضب عن الأحوال، عرج بنا الحاج إلى الحديث عن غياب الكثير من رفاقه، حيث وجد نفسه معزولا ووحيدا بمدينة الجسور المعلقة، بعد أن كان يلمّ شمل فريق بكامله بولاية فالمة.
يبقى الفضل في تجسيد ''الوطنية والاستقلال'' لجماعة الـ22
أخبرنا الحاج عيساني عن نيته في كتابة مذكرات تؤرخ لمرحلة التأسيس لفريق ''الترجي الفالمي''، وكذا عن الظروف التي سبقت التسليم بأن الكفاح المسلح لا مناص منه، حيث قال: ''هذه الفكرة، ورغم أنها شرذمت المجتمع في البدء، بين مؤيد وواصف لها بـ''الجنون''، إلا أنها كانت أولى الخطوات نحو نقطة انتهاء مرحلة مظلمة من تاريخ الجزائر، والتي بدّد ظلمتها، شيئا ما، هؤلاء الأبطال، الذين لم تنكس الظروف عزيمتهم، فمزجوا بين الانتصار في ساحة المعركة وألحقوه بآخر في الملاعب''.
شرع مضيفنا بإخراج مجموعة أوراق من حافظته، قال إنها حصيلة عقود من الزمن اكتنزها حتى لا تُفتقد الكثير من حلقات التاريخ. وقدّم لنا الملف المتمثل في مذكراته، ودعمها بصور لفريق ''الترجي الفالمي''، وأفصح ''قمت بتأسيس الترجي بمعية بعض الأصدقاء، وهو أهم إنجاز تحقق بمعيار فترة الاستعمار''، ولذلك تحدث الحاج عمار مطولا عن القضية، وجاءت تباعا فكرة ''الوطنية والاستقلال''، حيث قال إنها ''بدت خلال فترة الاستعمار مستحيلة، ولذلك يبقى الفضل في تفجير الثورة لجماعة الـ 22، وهم، دون استثناء، أبناء الحزب الوطني''.
بن بولعيد تعرّض للخيانة من مرافقيه
لم يخف المناضل، وهو يعيد لنا صياغة تلك الفترة التي عايشها وتفاعل معها، ما ساوره من شكوك في نزاهة المؤرخين الأجانب، وهذا ما أدخله في سباق مع ذاكرته التي جاوزت عامها التسعين، يحاول لملمة ما علق بها من ذكريات عاشها مع الرفقاء في نقاط شتى، وهذا ما جعله يقول لنا إن ''أهم المصادر التي يمكن أن يعتمد عليها المختصون في كتابة التاريخ هي شهادات يدلي بها أفراد الشعب ممن عايشوا الأحداث، وعبّروا عن مشاعرهم بصدق''، وهذا ما سيترجم، حسبه، بمسعاه الحالي لاستدراك ذلك بجمع عدد من الشهادات الحية، والمنقولة عن أشخاص عايشوا فترة الاستعمار، والتي أكد على أنها ستنشر قريبا.
وروى لنا الحاج عيساني، وهو أحد أعضاء الحركة الوطنية من مناضلي ''نجم شمال إفريقيا''، المكيدة التي دُبّرت لمسؤول الولاية الأولى ''مصطفى بن بولعيد'' وبالتاريخ، وقال إن بن بولعيد تعرّض للخيانة من طرف اثنين من مرافقيه سنة 1955، وربط ذلك بالمهمة التي كان موكلا أن يؤديها، فتوجه إلى تونس، لكنه حين أخلد للنوم بجبل ''بني صالح'' وقعت الخيانة، فعندما استيقظ وجد نفسه على الحدود التونسية.
وهذه الواقعة، التي ما تزال تنخر في نفسه، وصفها بـ''العمل المشين''، وجعلته يتوقف عندها كثيرا. ورغم مضي كل هذه العقود وجد ما يبرًرها، وقال إن ما تعرض له الشهيد ''بن بولعيد'' ناجم عن وجود اتفاق مسبق بين مرافقيه وقوات الاستعمار، التي قامت باعتقاله وزجّت به في سجن ''الكدية'' بقسنطينة، إلى جانب عدد من المناضلين من حزب الشعب الجزائري، منهم كريم بلقاسم، الذي كان يقضي مدة سجنه بالخلية السادسة، قسمة غرفة ''ب- بلاندي'' بذات السجن، والشيخ بلقاسم، والسبب في ذلك أن بن بولعيد كان على اتصال دائم بمصالي الحاج.
''بن جلول أحمد'' غيّر اسمه لـ''جلول'' حتى لا يُنسب للداعي إلى الإدماج
حدّثنا المجاهد، وبإسهاب وهو يعيد تصفح مسودة ''المذكرات'' بين فترة وأخرى، والتي ستوضع تحت الطبع، حسبما صرح به لنا، حدثنا عن الحركة الوطنية، وعن بعض صناعها، وعلى رأسهم ''جلول أحمد''. وقال إن هذا الاسم قد يبدو غير مألوف، لكنه يعبّر عن شخصية واحدة، وهو ''أحمد بن جلول''، وقد غيّر اسمه حتى لا يُنسب إلى الدكتور ''بن جلول محمد الصالح''، بحجة أن هذا الأخير كان من دعاة إدماج الجزائر بفرنسا. وكشف الحاج عيساني عن المفارقات الكبيرة التي تحول بين الشخصيتين، حيث إن ''جلول أحمد هو الذي نزل ضيفا كريما قادما من فرنسا، ينتمي لحزب نجم شمال إفريقيا، حيّر فرنسا في فالمة وبالشرق عامة، ووضع أولى اللبنات للحركة الوطنية باسم الحزب وأسس فروعه، وكذا جريدة الأمة الصادرة من باريس''.
ولم يتوقف المجاهد عند هذا الحد، بل تناول الجانب الخفي من حياة البطل، وقال إنه كان عصامي التعليم، وزّع وقته ما بين العمل بالمطبعة في النهار ومتابعة الدروس الليلية على غرار باقي المغتربين، حتى يكون في مستوى إدراك ما يجري، وقد ترجم ذلك في عدة مؤلفات، بعضها كتبها خلال فترة تواجده بفرنسا، منها ''الأمير المتشرد'' و''الميت الحي'' و''الكاهنة''، كما حضّر لكتابة تاريخ الجزائر. وأثناء إقامته في سجن ''سركاجي'' بالعاصمة ألّف عدة روايات ومسرحيات، منها ''الوعاء المقلوب'' و''الملتقى الأكبر''.
يضيف المجاهد عيساني أن جلول أحمد، وتزامنا مع احد الاحتجاجات في سنة 1935، كان هو من أشرف على خياطة العلم الوطني، وقال إن تلك الحادثة رسخت في الأذهان ''كونها المرة الأولى التي خرجنا في مسيرة أبهرت الناس ونحن نحمل العلم. وهذا العمل العظيم الذي قام به جلول دفع كل المناضلين إلى وضع قطعة قماش على كاهلهم تحمل ألوان العلم الوطني، حتى اقتربنا من دار الشرطة، حيث خرج مسؤولها ''جانفي'' محاولا انتزاعه من حامله، حسن دمناني، المدعو ''فناوة''، لكن أحدهم اعترض سبيله فأسقطه أرضا. وامتد نشاط ''جلول'' إلى تنظيمه لزيارة ''مصالي الحاج'' إلى فالمة في العام الموالي، حيث تم اللقاء بـ''رحبة الزرع'' سابقا''.
وقال عمي عمار إن الزيارة كانت أهم حدث على الإطلاق وقع في تلك السنة، وتزامنت مع حل مشكل انضمام عمار بوجريدة الشيوعي إلى صفوف حزب الشعب، والذي فتح بدوره الباب لانضمام الوزيرين السابقين بومعزة وبلعيد عبد السلام إلى صفوفه أيضا.
فرحات عباس وجمعية العلماء شكّكوا في فكرة ''الوطنية والاستقلال''
كان الحاج عيساني يتوقف بين فترة وأخرى.. يصمت هنيهة ثم يلملم شتات كلماته وهو يحاول إعادة استنطاق ذاكرته، وصف لنا هذه المرة تلك الحقبة، التي عايش جزءا مهما من تفاصيلها، بـ''الصعبة''، كونها لصيقة بأشخاص بسطاء. كما أن فكرة الوطنية و''الاستقلال'' بدت حينها ''مستحيلة''، وقد استدل على ذلك بقول فرحات عباس ''فرنسا هي أنا. لو اكتشفت الوطن الجزائر لكنت وطنيا، ولذا فأنا لا أموت لأجل الوطن الجزائري، لأنه غير موجود، ولم أكتشفه. لقد سألت التاريخ وسألت الأحياء والأموات، وزرت المقابر، ولكن لم يجبني أحد''، ويضيف، على لسان فرحات عباس، ''فالمسافة التي أقطعها بين الجزائر وفرنسا، أقرب من القاهرة''.
ويضيف محدثنا: ''وهذا الموقف لم يكن محسوبا على الزعيم فقط، فحتى جمعية العلماء المسلمين اعتبرت الاستقلال أمرا مستحيلا، أتذكر رد فعل أعضاء جمعية العلماء المسلمين الذين كانوا يلقبوننا بالمجانين، ويطردون من مدارسهم المعلمين والطلبة ومحبي الحركة الوطنية''. ويضيف، في هذا السياق، ''وقد حاولنا الاستعلام عن موقف الشيخ عبد الحميد بن باديس المؤيد للشيوعية، والذي اعتبرناه حينها يفتقر للنظرة البعيدة، ويخالف الدين الإسلامي، حتى أن الشيخ قال سياستنا تتلخص في عدو العدو صديقنا، وأنكم مجانين، فهل يعقل أن تخرج فرنسا من الجزائر، فهذا جنون لا يقبله أي عاقل''، ومع الصدمة التي أصبنا بها ونحن نسمع تلك التصريحات، برر لنا المتحدث موقف الجمعية، وقال ''إن الجمعية كان تركيزها الأساس حول التعليم أولا، وما حصل بعد ذلك كان حجة مؤكدة في التاريخ، بأن مفجري الثورة هم جماعة الـ22، وكلهم، ودون استثناء، أبناء الحزب الوطني''.
الجزائر أول بلد عربي مسلم تحصّل على كأس إفريقيا للأندية سنة 1952
تمنينا لو أننا استطعنا أن نعيد الزمن القهقري، لنقف على تلك الصورة التي يلحظها وحده بعيون قلبه فتومض لها عيناه، عندما قال ''كل أفعالنا كانت تصب في بوتقة واحدة، وهي دعم الحركة الوطنية، إلى جانب ''جلول أحمد''. والنضال السياسي لم يكن شغلنا الشاغل حينها، حيث كنا قلة من الشباب ممن كانوا يمارسون الرياضة، إما داخل الأحياء حيث يجتمع شباب ''نهج الفندق'' وآخرون من ''نهج موقادور''، أو خارج صور المدينة في ''رحبة باب السوق''، وأحيانا في ساحة مدرسة ''ألمبير''، المعروفة حاليا بإكمالية ''محمد عبده''، يضيف، فكان حلمنا الكبير يتركز حول إنشاء فريق عربي مسلم يضاهي فريق المستعمر، حتى نتخلص من ''الحفرة'' التي كنا نتعرض لها.
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه مضيفنا، وهو يتذكر تحقق الحلم.. ''تحقق الحلم بعد مرور فترة امتدت من عام 1917إلى غاية 1937، والذي اختير له اسم ''الترجي الرياضي العربي المسلم الفالمي''، هذا الفريق الذي مكّن الجزائر، في عام 1952، من الحصول على ''بطولة شمال إفريقيا''. وبذلك فالجزائر هي البلد الوحيد الذي تحصل على كأس إفريقيا للأندية في عهد الاستعمار، وعن طريق ''الترجي الفالمي''، وتم ذلك على مستوى بلدية الخروب التابعة لقسنطينة. لحسن الحظ إنه في ذلك الوقت كانت تتوفر لدي آلة تصوير، وهي التي استطعت بها تخليد الذكرى''.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 12/10/2012
مضاف من طرف : aladhimi
صاحب المقال : مكي أم السعد
المصدر : الخبر الجمعة 12 أكتوبر 2012