ارتبط اسم مدينة الورود البليدة منذ عقود، بمستشفى تاريخي ظلّ إلى زمن قريب صرحا صحيا عملاقا، ارتبط اسمه بالاخصائي الكبير المنخرط في الثورة الجزائرية فرانس فانون، و ما أهله لأن يصبح رائدا بين المشافي في القارة السمراء والوطن العربي، رقعته الجغرافية من جهة والطريقة المبتكرة في علاج المرضى بتخصيص ورشات عمل لهم من جهة ثانية، والتي أصبحت مع الوقت احدى أهم طرق العلاج بل أنجعها على الإطلاق.بمرور الوقت عرف مستشفى فرانس فانون المتخصص في علاج الأمراض العقلية تراجعا في شهرته، وبدأ القائمون عليه يجتهدون من أجل استعادة بريقه وسمعته التي ذاع صيتها في كامل أصقاع العالم بفضل طريقة العلاج المشهور بها التفاصيل تنقهلا "الشعب" في هذا الاستطلاع الميداني.حقائق تاريخيةالحقيقة التاريخية تقرّ أن المستشفى أو ما يشبه المدينة الصحية عرف مجده الأول مع سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، على يد مؤسسه الطبيب فرانس فانون، حينما اهتدى الى اخراج المريض من عزلته ومرضه وغرس فيه إدراك ما يحيط به و يعي عامل الزمن، واستطاع مع فريق من العاملين أن ينجح في فكرته وتطورت مع الأيام، وأصبح المريض يعيش العلاج الفيزيائي بالذهاب الى ورشات العمل المستحدثة بعيدا نوعا ما عن العلاج الكيميائي، وأصبح المستشفى عبارة عن ورشات يمارس فيه المصابون بأمراض عقلية حرفا متعددة كالنجارة، الحدادة، صناعة الخزف بالإضافة إلى مشتلة لغرس الزهور والنباتات التزيينية ومزرعة صغيرة، بل أن الفريق العامل تمكّن حتى من بناء مسرح ومكتبة ومطبعة تصدر جريدة، وتأسيس لجوق غنائي كان من أهم معلميه الفنان الراحل عبد الرحمان عزيز، كل ذلك تكفل حقيقي بالمصابين بالأمراض العقلية وأصبح المشفى كل متكامل. وفي فترة الثمانينات أصبح المستشفى يستقبل مصابون بأمراض أخرى على حساب المختلين عقليا، وشهد عملية توسعة طالت المساحات الخضراء والورشات التي كانت جزء مهم من عملية الشفاء، وبعد أن كان يضم 2000 سرير تقلص العدد إلى 1000 سرير فقط. وصدت الورشات والمزرعة أبوابها أمام المريض الذي أصبح يخضع للعلاج الكيميائي فقط في ظلّ اختفاء العلاج الفيزيائي، وبقي الحال يسوء ويتردى في هذا المستشفى التاريخي، إلى أن جاء فريق إداري جديد بدأ يعمل من أجل إعادة مجده وتاجه الضائع، وهي الحقائق التي لمستها "الشعب " في الواقع ومن خلال المشاريع المستقبلية المزمع انجازها، الهدف منها راحة وعلاج المريض. نجوم مروا من هنا و تاريخ ذهبي لا ينسى ...يحكى العارفون بتاريخ مستشفى فرانس فانون وعمال تقاعدوا وتوارثوا تلك الحقائق، أن فرانس فانون وجد في العلاج بالعمل دواء ليس له بديل، يكمل الدواء دواء كيميائي، وكان بين ثنايا هذا الصرح الصحي العظيم مجتمع صغير من المرضى جمعتهم بدرجة أولى المزرعة لفلاحة الأرض، والفرقة الموسيقية والرياضية التي كان ينشطونها بأنفسهم والمطبعة التي كانوا من خلالها يصدرون جريدتهم للمطالبة وانتقاد أوضاعهم. وأكد بعض العمال ل« الشعب "، ان المستشفى في سنوات الخمسينيات وستينيات القرن الماضي كان شعارهم "قيمة البلد تعرف في الاهتمام والعناية بمعاقيها"، ونجح الفريق العامل آنذاك رغم الوسائل البسيطة والإمكانات شبه المنعدمة في تقديم علاج إنساني ونفسي مؤسساتي قبل اللجوء للأدوية، فأسس لهم الطبيب الشاب فرانس فانون ورشات في النجارة والحدادة يعمل فيها أولئك المختلون عقليا، واستطاع المختلون عقليا بكفاءتهم حسب شهادات العمال أن يحولوا المستشفى ذي ال 2000 سريرا إلى ورشة كبيرة تنوعت فيها النشاطات، وأدرك "فانون" أن عامل الزمن يمكن أن يكون طريقا في معرفة شفاء وتقدير بعض المرضى للزمن، فأنجز لهم مسجدا في العام 1953 تؤدى فيه الصلوات، وأصبح المرضى ينتظمون لأداء هذه العبادة في الأوقات المحددة ناهيك عن الراحة النفسية التي لحظها المشرفون على المرضى وعودتهم للحياة الاجتماعية بدل الانزواء والانعزال، وأشاد العمال في شهاداتهم لجريدة "الشعب" بالفنان الراحل الذي كان يعمل ممرضا في مستشفى فرانس فانون عبد الرحمان عزيز استطاع أن يؤسس آنذاك فرقة موسيقية قوامها من المرضى، عمل الراحل على خلق جو شاعري لدى المرضى ونجح في ذلك وأدت فرقته روائع في الطرب العربي والغناء الشعبي المحلي عند كل مناسبة ومن دونها، وأصدر رواد المشفى جريدة خاصة بهم في تشكيل لما يشبه النقابات الحرة للمطالبة بحقوقهم، ونقد الظروف والتعريف بنشاطاتهم في حالات أخرى، كما كانت نوادي السينما وقاعة الحفلات متنفسا لهم وتسلية عن خواطرهم. العنقى وقروابي وفضيلة دزيرية لم يترفعوا عن الغناء للمرضى ...زار كبار الفنانين في الأغنية الشعبية النوادي التي أسسها العاملون بالمستشفى، وأطربوا جمهورهم المتميز الذي كان يبدي تفاعلا عند حضور كل فنان، ولم يترفع عميد الأغنية الشعبية "الحاج محمد العنقى وتلاميذته من نجوم الغناء أمثال الراحل الحاج قروابي وفضيلة الدزيرية ورشيد نوني ودحمان بن عاشور والفنانة سلوى وغيرهم وهم كثر من الغناء وسط من يوصفون بالمرضى عقليا أو المجانين وأحيوا حفلات العمر به، بل والمثير وأمام توفر ملعب كبير كان المشفى يضم فرقا في كرة القدم والكرة الحديدية وكانت تنظم كل يوم مباراة رسمية أو ودية في البليدة، حيث يترافق أولئك المرضى لحضور تلك المباريات وسط الجمهور السوي، بل إن منهم من كان يخرج من المستشفى ويعرض بعض منتجاتها التقليدية من سلل وتحف فنية خزفية لبيعها في أسواق المدنية، كما كان المركز يحتوي على قاعة سينما ومزرعة تربى فيها الأبقار، حيث يقوموا المرضى بالعناية بهم وحلبها وتفقدهم في كل وقت ناهيك عن فلاحة مساحات من الأرض وزرعها بأنواع من الخضروات والورود، فكانت فعلا حياة "المرضى" كخلايا النحل عمل ونشاط لا يتوقف أبدا، واستطاع القائمون على مداواتهم ورعايتهم وعلاجهم بأسلوب لا يختلف عن بقية الناس وهو ما اصطلح عليه في كليات الطب الحديث بالعلاج الانساني للمريض عقليا أو "الأغوتي" . شهادات على قيمة العلاج وقفت "الشعب" في تحقيقها على حقيقة بالغة الأهمية، مفادها أن مستشفى الأمراض العقلية بالبليدة كان رائدا وقطبا معروفا امتد الى أقطار بعيدة في عمق القارة السمراء و بلدان الوطن العربي، أكدت الحقيقة أن المستشفى كان يقدم تكفلا علاجيا واجتماعيا للمرضى ولعائلاتهم، كان المرضى يخضعون للعلاج بانتظام، يتناولون دواءهم في الأوقات المحددة، لكن ذلك يصعب أن يستمر حينما يكونوا بين أهليهم، خاصة وأن السيطرة عليهم صعبة وإخضاعهم لجدول توقيت منتظم أمر بعيد المنال، والنتيجة أن المرضى يعودون الى حالهم السابق ويسبب الحرج لعائلتهم.وفي هذا السياق تعترف عائلة "محمد" أن ابنها المريض يعاني من الهلوسة والهذيان ويتخيل أمورا حتى أنه بات يعتقد نفسه مسؤولا وإطارا ويحتاج للمال لتحقيق مشاريعه الوهمية، وهي السلوكيات التي أصبحت تتكرر معه كلما امتنع عن الدواء، وكثيرا ما سبّب لها إحراجا لا مثيل له بين الجيران ومعارفهم، فاضطرت عائلته الى اخذه الى المستشفى والإقامة فيه بهدف العلاج وبالفعل هدأ و عاد الى حالته النفسية الطبيعية، أما الخالة "حورية " وهي أم ل 5 أبناء معاقين ذهنيا فتقول في شهادة منها أنها لم تعد تجد من حل لمشكلتها الا إرسال ابنتها البكر الى المستشفى حتى تتمكن من النوم في سلام من جهة والاطمئنان على حالة ابنتها من جهة ثانية، خاصة حينما تصبح عنيفة ومتوترة وتقدر على تهدئتها مهما حاولت، وتجد دائما الحل في مستشفى فرانس فانون لأن العاملين فيه لديهم القدرة والخبرة على إرغامها لتناول دوائها في الأوقات المنتظمة فتهدأ من جديد وتتحول الى إنسانة طبيعية ثانية، ولم يختلف المثال مع عائلة "نسيم" الذي جعل عائلته في حرج كبير بسبب امتناعه عن تناول الدواء، و هنا قال الوالد أنه كثيرا ما يتسول "نسيم" ويطلب المال من الجيران والأهل والمعارف وحتى المارة فقط لشرب القهوة والتدخين، لأنه مدمن عليها، هذه الحالة جعلت الوالد لا يشعر بالراحة إلا حين يكون "نسيم" بالمشفى أين يخضع للعلاج الكيميائي . توافدت شخصيات كثيرة على المستشفى، أشرف على علاجها البروفيسور الراحل المعروف صديق المرضى، بشير ريدوح.المدير يقر بضرورة إعادة المجد الضائع ...اعترف بودالي محمد المدير الجديد ل "للشعب "بأن إعادة السمعة التي كان يتمتع بها وهي مهمة ليست بالمستحيلة حسبه، لكنها كما قال - تتطلب الوقت والصبر والإرادة .وأضاف مدير مستشفى فراس فانون ل« الشعب ": "أن البداية كانت مع إعادة تطهير وترميم احد الأجنحة المهمة في هذا الصرح الصحي والمشهور ب جناح "عبد النبي"، وهو الجناح الذي أصيب فيه مرضى بوباء "التيفوئيد"، ويواصل حديثه قائلا: "ان مشروعا ثانيا تحقق في وقت وجيز والمتمثل في تخصيص "كافيتريا" أو مقهى للمرضى. اما بشأن الأهداف الكبرى فيركز القائمون على المستشفى حسب مدير المستشفى على إعادة فتح الورشات التي كانت قائمة، خاصة وانها الأسلوب الأمثل في العلاج والإدماج الاجتماعي لهذه الفئة بممارسة الحرف التي كانت متواجدة سابقا عوض إخضاع المريض للعلاج بما يسمى "المرقدات" فقط، بالإضافة الى ضرورة استقطاب الكفاءات العلمية والابقاء عليها مع توفير لها الجو المناسب للعمل، وإحياء نظام الغرف بوضع مريضين في كل غرفة بدل وضعهم في قاعات مفتوحة، وانجاز مصلحة للاستعجالات تعمل 24 ساعة، تكون بالقرب من مصلحة الاستعجالات التابعة للمستشفى، بهدف استقبال المصابين بالصدمات النفسية الناجمة عن الحوادث والكوارث ....والتخلص من البنايات الجاهزة الكارتونية وإعادة تجسيدها في بنايات إسمنتية بمواصفات هندسية تتوافق ومتطلبات العصر، ملحا في سياق حديثه بالتأكيد على أن كل هذه الأهداف لن تتحقق إلا بمساعدة فريق طبي يعمل بانسجام وإدارة حريصة على تكفل أفضل للمرضى حتى تتحقق المقولة التاريخية للأولين من المؤسسين "قيمة البلد تعرف في الاعتناء والاهتمام بشريحتها من المعاقين كيف ما كانت إعاقتهم".
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 13/10/2014
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : لينة ياسمين
المصدر : www.ech-chaab.net